ويبقى الكتاب المدرسى ضرورة حتمية
لا ينكر جهد وزير التربية والتعليم، د. طارق شوقى، إلا جاحد، وغير مدرك التغير الحادث فى منظومة التعليم فى مصر، منذ أعطى الرئيس عبدالفتاح السيسى إشارة البدء فى تغيير وضعها المُتردى، إلى منظومة أخرى تأخذ فى حسبانها ما وصل إليه العالم فى هذا المضمار، وتعمل على تربية أبناء قادرين على التفكير السليم الذى يعتمد الاستنباط وسيلة لإدراك المعرفة، بعيدًا عن قوالب الحفظ القديمة التى خرّجت لنا أجيالًا، الكثير منها ما زال يُخطئ فى الإملاء، وأدت طريقة تلقينه العلم إلى نسيانه، فور الانتهاء من كل مرحلة دراسية.. هذا أولًا.
أما الثانية، فإن التعليم، كسلوك اجتماعى، لا يمكن أن يأتى بثماره إلا بعد العديد من السنوات، تطول أو تقصر، حسب براعة القائمين على وضع برامج التغيير وآلية تنفيذها، ومدى تقبل الجيل الجديد طبيعة المناهج التى استحدثت من أجله.. أى أنه سلوك إنسانى، لا يمكن حسابه بدقة، ولكن يمكن السيطرة على نتائجه، كلما كان برنامج التغيير محكمًا.. ولدينا التجربة الماليزية مثلًا.. إذ استعانت حكومة مهاتير محمد، رئيس الوزراء، فى فترته الأولى لحكم ماليزيا، بالعديد من علماء العالم، الذين يمكن أن يسهموا فى وضع برنامجها لتغيير نظام التعليم بها، وكان من بين من استعان بهم مهاتير محمد، العالمان المصريان، أحمد زويل، رحمه الله، وفاروق الباز، أمد الله فى عمره.. كان محددًا لتنفيذ البرنامج والانتهاء من بنوده، ثمانية أعوام فقط، لكنها امتدت، عمليًا، إلى اثنتى عشرة سنة.. لكننا أصبحنا، بعد هذه السنوات، أمام عملاق، فى جنوب شرق آسيا، اسمه ماليزيا.
عندنا، فى مصر.. يتعامل الناس مع تغيرات منظومة التعليم، على أنها شىء من التجارب المعملية، التى إذا أضفت عنصرين كيميائيين إلى بعضهما، قفزت فى وجهك النتيجة، بالعنصر الجديد.. والحقيقة أنه، حتى التجارب المعملية، هناك بعض منها يحتاج الوقت اللازم للتفاعل، حتى تحصل على النتيجة المطلوبة.
ولذا، فقد طالعت الأسئلة التى وجهتها الدكتورة عزة هيكل، عميد كلية اللغة والإعلام، بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا، إلى وزير التربية والتعليم.. وخلاصتها: كيف يكون تواجد الطالب فى المدرسة ليومين فقط، والباقى دروسًا فى مجموعات التقوية داخل ذات المدرسة ونفس المدرس، لكن بالفلوس؟.. وكيف يقول إن مجموعات التقوية جديدة، وهى موجودة منذ ثلاثين سنة؟.. وكيف يخفض كثافة الفصول إلى ١٥ تلميذًا، بدلًا من ٨٠؟ وهو أمر غير قابل للتنفيذ، وكان الأفضل فتح قصور الثقافة ومراكز الشباب خلال الفترة الصباحية حتى الظهيرة.. وكيف لا يكون هناك كتاب لتلاميذ المرحلة الثانوية؟ هل لدى جميع الطلاب رفاهية الإنترنت والشبكات فى ربوع مصر، ما زالت غير كافية، والكتاب المدرسى، وليس الإلكترونى، أساسى فى العملية التعليمية، على مستوى العالم أجمع.. وكيف يكون الامتحان كله إلكترونيًا، ويتم تصحيحه فى ذات الوقت؟ لأن التقييم يضم جزءًا معرفيًا، وتذكرًا وتحليلًا وتعبيرًا ومنطقًا وتطبيقًا، وهو ما يعنى ضرورة تدخل العنصر البشرى فى الكتابة والتصحيح.. وكل البرامج والشهادات الدولية المُعتبرة، غير الأمريكية، تعتمد على الكتاب وعلى التدريس، وعلى المدرس وعلى التقييم.. وهنا أؤكد أن فرنسا وهولندا وكوريا واليابان أصرت على عودة الطلاب كل الأيام للمدارس، وقالت إن خطر التعليم عن بُعد، أشد فتكًا بالأجيال القادمة من كورونا.. وكذلك تلقى البرلمان البريطانى مطالبة من المقاطعات الخمس البريطانية، مصحوبة بتقرير اليونسكو، عن مخاطر التعليم عن بعد، وضرورة التعليم التقليدى فى المدارس.
ربما أكون قد ذهبت مع الدكتورة عزة هيكل، فى معظم ما ذهبت إليه.. أوافقها عليه، غير معاكس إلا للقليل مما طرحته، الذى يسمح لنا بالتماس العذر، نحو سعى الدولة للحد من الآثار السلبية على المواطنين من مرض الكورونا، وفى القلب من هؤلاء، أبناؤنا التلاميذ.. فالوقاية مهمة، ولا بد لها من ثمن مؤقت، لأن «درء المفاسد مُقدم على جلب المنافع».. ونحن ما زلنا نتلمس طريقنا، بخطوات حثيثة، فى مشوار طويل، لم نمضِ منه إلا بضع خطوات، والباقى ما زال طويلًا.. ونحن كذلك، فلا ضير أن نعتمد منهج التجربة والخطأ، فى الوصول إلى النتيجة النهائية التى نبتغيها للتعليم فى مصر.. وما خاب من استفاد من أخطائه.
ولكنى أعود وأتفق مع الدكتورة عزة، فيما ذهبت إليه، من أن وجود الكتاب المدرسى أساسى فى فرنسا وبريطانيا وكوريا وهولندا واليابان، بل وعند كل من يدرك أن المحاولات العالمية لاستبدال الكتاب المقروء، فى نسخته الورقية التقليدية، لم ينل منها، كل ما تم إنتاجه من كتب إلكترونية حتى الآن.. صحيح، أن الكتاب الإلكترونى ألغى مشكلة الحيز والمسافة، ووفر الوقت اللازم للحصول على الكتاب، لكنه أبدًا لم يملأ فراغ الكتاب الورقى، ولم يحقق متعته فى القراءة.. وكذلك الكتاب المدرسى المطبوع، الذى يحقق نوعًا من ذاكرة الصورة عند قراءته، وهى ضرورية عند استدعاء الإجابة المطلوبة للسؤال.. حتى ولو حققنا الفهم المطلوب، لمتون هذه الكتب، فإن استدعاء المعلومة، يتطلب ذاكرة، الصورة تلعب فيها دورًا محوريًا.. ناهيكم عن أن التفاعل المباشر بين المعلم والتلميذ، ضرورى للغاية، ويحقق قوة فى الفهم والاستيعاب، والدليل على ذلك، أنه، وبعد بلوغنا أرذل العمر، ما زلنا نتذكر معلومات دراسية، بطريقة شرح مدرسينا لها، وكأنها حدثت أمس.. المهم هنا، هو ضمير المعلم، الذى يجب أن يستيقظ، ويدرك- أى المعلم- أنه قائم على مهمة، كانت للرسل من قبله.. فلعلهم يدركون. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.