حتى لا نغرق فى بحار الوهم الأردوغانى
إذا ضعف العقل استسلم للخرافة.. هكذا تقول الحكمة المأثورة، وهو قول منطقي، فالعقل السوي يتجه تلقائيًا لمعالجة الأمور بالمنطق والعلم والمعرفة والتجارب والخبرات، وهي العناصر التي تعطيه القوة، أما إذا افتقدها فإنه لا يجد ما يتعامل به مع المشكلات والتحديات فيستسلم للخرافات والأباطيل.. ويقول رجل من أهل الحكمة، إنك حين تتعلم شيئًا جديدًا، تدرك عندها أنك كنت غبيًا.. لذلك، فمن العقل دائمًا أن تعلم حتى تحكم على الأشياء حكمًا صحيحًا، وهو ما لا يريده بعض الذين يسوقون السابلة والغوغاء من أهل الوطن العربي، لاتخاذ مواقف مناوئة ضد بلدانهم، حتى ولو كانت ضارة بهم، ليس لشىء إلا أن هناك من يملأ أدمغتهم بالأباطيل، ويُجند لها كتائب الكذب والبهتان للترويج لها، ومن ثم الاعتقاد فيها.
كان لزامًا أن أبدأ من هنا، ربما يصحو الذين يغفلون، أو يتغافلون عن حقيقة السلطان العثماني الجديد، رجب طيب أردوغان، الذي تبدو التصريحات ودموع التماسيح الكاذبة التي يذرفها، والمُنتقدة للاحتلال الإسرائيلي والمُتشدقة بالدفاع عن القدس والقضية الفلسطينية، نوعًا من المتاجرة بالقضية.. فالمتابع للعلاقات الإسرائيلية ـ التركية، يجد أنها لم تتوقف أبدًا بل نمت في عهد الرئيس (السلطان)، ولا تظهر تركيا في التقارير الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية ضمن الدول التي ينظر إليها على أنها (عدو).. وإن كانت تصريحات أردوغان بشأن إسرائيل تبدو أحيانًا شديدة، فإن العلاقات الإسرائيلية ـ التركية تبدو حميمة ومتصاعدة إلى أبعد الحدود.. فالتراشق الكلامي والسياسي بين تركيا وإسرائيل قد يمنح انطباعًا بأن العلاقات الثنائية بينهما على شفير الهاوية، وأن نيران التصريحات ستأتي على جميع المعاملات بين البلدين، وقد يصل الأمر إلى حد القطيعة، غير أن الطرفين سرعان ما يعيدان ترتيب علاقاتهما، ويخرجان من تصعيد مُفتعل، لا يتجاوز مجرد كونه (شو إعلاميًا) استعراضيًا أمام الرأي العام المحلي والدولي.. لذلك لم تصبني الدهشة، عندما قال أردوغان، يوم الجمعة الماضي، إن تركيا تفكر في إغلاق سفارتها بأبو ظبي وتعليق العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات العربية المتحدة بسبب اتفاقها على تطبيع العلاقات مع إسرائيل!.. مُتناسيًا أن ثمة سفير لتركيا في تل أبيب، منذ سنوات طويلة، بالرغم من الجور الحاد التي مارسته إسرائيل على الفلسطينيين وسلبها لأراضيهم!.
إن كانت بعض النظريات السيكولوجية تعتبر إثارة الشخص للجلبة وانفعاله الزائد عن الحد، سلوكًا تعويضيًا لدرء تهمة ما عنه ومحاولته إظهار عكسها، فكذلك هو أمر الرئيس التركي مع القضية الفلسطينية.. ففي جميع تصرفاته التي يعمل جاهدًا من خلالها، على الظهور بمظهر المُتبني الأوحد لقضية الشعب الفلسطيني، مُزايدًا على الآخرين، يتخذ أردوغان أساليب تهييجية وانفعالية، علّها تُغطي على حقيقة كونه الرئيس الوحيد الذي شهد عهده انتعاشًا في العلاقات بين أنقرة ودولة الاحتلال الإسرائيلي.. فمنذ سنوات طويلة، والرحلات الجوية لم تنقطع بين البلدين، لأن الخطوط التركية تُسير ما يقارب عشر رحلات يومية بين إسطنبول وتل أبيب، إضافة إلى رحلات الشحن، حيث تشير بيانات الملاحة، إلى أن الخطوط التركية هي ثاني ناقل جوي في إسرائيل بعد شركة (إلعال) الإسرائيلية.. وتشمل العلاقات بين تركيا وإسرائيل كافة المجالات؛ إذ تتراوح بين السياسة والتجارة والتعليم والثقافة والسياحة.. ويرى الخبير التركي في شئون الإرهاب، سليمان أوزيرين، أن انتقاد إسرائيل تجارة رابحة بالنسبة لأردوغان، لاسيما في أوقات الانتخابات، لأن العلاقات جيدة خلف الكواليس.. وبلغة الأرقام، وصلت الصادرات التركية إلى إسرائيل، خلال العام الماضي، إلى 4.1 مليار دولار، بينما بلغت الواردات التركية من إسرائيل في السنة نفسها 1.7 مليار دولار.
إن تركيا هي ثاني دولة أقدمت على الاعتراف بقيام إسرائيل سنة 1949، وظلت العلاقات قائمة منذ ذلك الحين، في حين لم تُقدم لفلسطين سوى الضجيج، وتأجيج الانقسام الداخلي، مما يقدم مساعدة لإسرائيل ويضعف الموقف الفلسطيني، بل إن أردوغان كان أول من اعترف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، خلال زيارته لها عام 2005.. وهذه الدولة التي تزعم نصرة الفلسطينيين، تفرض عليهم تأشيرة حتى يدخلوا إلى أراضيها، فيما يستطيع الإسرائيليون أن يدخلوا تركيا من دون الحاجة إلى ذات التأشيرة.. وأنه في سنة 2000، أقيمت اتفاقية التجارة الحرة التي تضمن تدفق البضائع بين البلدين بدون جمارك، وما زالت الاتفاقية سارية إلى يومنا هذا.. وأن نسبة مهمة من المبادلات بينهما تدخلُ في المجال العسكري، أي أن الأمر لا يتعلق بشركات خاصة تعملُ بعيدًا عن الحكومة كما يزعم المدافعون عن أنقرة.. إلا أن أهم ما يُقال هنا، هو إنه كان بوسع بتركيا أن تكون سندًا فعليًا للفلسطينيين، نظرًا إلى موقعها وعضويتها في حلف شمالي الأطلسي (الناتو)، وربما كانت تل أبيب ستقيم وزنًا لها قبل أن تُقدم على تحرك من قبيل ضم القدس، لكن لا شيء من ذلك حصل.. وخلاصة القول إن تركيا تُشبع القضية الفلسطينية كلامًا، أما في الواقع، فلا تتورع أنقرة عن خدمة ما تريده إسرائيل على الأرض، بتعميق هوة الانقسام في صفوف الفلسطينيين، عبر الدعم المستمر لحركة حماس، وتجاهل التعامل مع السلطة الفلسطينية، لأن ما تريده تل أبيب هو استمرار الانفصال بين الفلسطينيين كي لا تكون ثمة دولة فلسطينية متصلة الأطراف.
وزير الاستخبارات والمواصلات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، وصف أردوغان في حديثه لصحيفة (معاريف) العبرية بـ (فريمني) أي الصديق العدو، وقال إن لعبه بالقضية الفلسطينية لا ينفصل عن طموحه بالسيطرة على المنطقة العربية على أجنحة تنظيمات الإسلام السياسي المنبوذة.. وقال إنهم لا يأبهون لعنتريات أردوغان ضدهم من خلال وسائل الإعلام، طالما أنها لا تمنعه من جعل حجم التجارة عبر حيفا نحو 25% من تجارة تركيا مع دول الخليج العربي، مؤكدًا أن بلاده تتعايش مع أردوغان، بالرغم من مسرحياته، وهي تعي أنه يعتبر نفسه قائد الإخوان المسلمين في العالم ويحاول أن يقود العالم الإسلامي.. كما أن خطابات أردوغان الشعبوية بخصوص القضية الفلسطينية لا تختلف كثيرًا ـ بحسب محللين ـ عن هتافات جماعة الإخوان الإرهابية التي يرعاها، ممنيًا نفسه بخلافة إسلامية شبيهة بحقبة الاحتلال التركي للدول الإسلامية.
ورغم كل الأموال التي ينفقها النظام التركي على الترويج الإعلامي، لخلق فكرة وهمية بأنه يدعم القضية الفلسطينية والفلسطينيين أكثر من غيره، يأتي تقرير صادر عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التابعة لمنظمة الأمم المتحدة ليسقط كل الأقنعة، ويفضح المتاجرين بالفلسطينيين وقضيتهم.. إذ يرصد التقرير، الذي صدر العام قبل الماضي، أهم المتبرعين والداعمين للفلسطينيين واللاجئين منهم على مستوى العالم، ومن بين أهم عشرين داعمًا ومتبرعًا، لا يظهر اسم تركيا ولا قطر ولا إيران على الإطلاق.. ولكن يمكن بوضوح رؤية اسم المملكة العربية السعودية في المركز الرابع، بإجمالي يصل إلى 96 مليون دولار تقريبًا في عام واحد، وجاءت الكويت في المركز الثامن، بإجمالي 32 مليون دولار.. أما الإمارات العربية المتحدة فجاءت في المركز الثاني عشر، بإجمالي 17 مليون دولار تقريبًا.. وحتى في قائمة أكبر عشرين داعمًا (غير حكومي) للاجئين الفلسطينيين عالميًا، اختفت أيضًا أسماء قطر وتركيا وإيران، بينما يمكننا رؤية اسم بنك التنمية الإسلامي في جدة يحتل المركز الثاني على مستوى العالم، بإجمالي تبرعات بلغت أربعين مليون دولار، وجاء بعده الهلال الأحمر الإماراتي بأكثر من ثمانية ملايين دولار.
■■ وبعد..
فإن اتفاق الإمارات، التي تُعد أول بلد خليجي، وثالث دولة عربية تقيم علاقات رسمية كاملة مع إسرائيل، بعد مصر والأردن، يتيح (فرصة لمفاوضات حقيقية بين إسرائيل والفلسطينيين، تحقق حل الدولتين وفق قرارات الأمم المتحدة، والقانون الدولي، والاتفاقات الثنائية بين الطرفين)، كما وصفه الأمين العام للأمم المتحدة، وثمنته كل الدول المحبة للسلام، والحريصة على مستقبل أفضل للفلسطينيين.. ويبقى الأمر معقودًا بناصية فرقاء السياسة في الأرض المحتلة، لاغتنام الفرصة المواتية لمنع ضم المزيد من أراضيهم لإسرائيل، بل والوصول إلى حل الدولتين، في القريب العاجل، آخذين في الاعتبار المصالح الدولية، والتغيرات في السياسة العالمية، والإيمان بحكمة التمسك بما هو ممكن للوصول إلى ما كان مستحيلًا.. وليدركوا أن الخطوة الإماراتية لم تأت عن ضعف، بل من قوة داخلية لبلد سابق لزمانة، مستندا لظهير من الأشقاء، قوي وحكيم، ذهب إلى ما ذهب، لتحقيق طموحات شعب فلسطيني، يتوق أبناؤه إلى وطن آمن، حتى ولو هاجمت قيادته السياسية مثل هذا الاتفاق.. وذلك حديث الإسبوع القادم.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.