التاريخ لا يكذب.. وأرض ليبيا شاهدة «1»
تحت أوهام الزعامة الإسلامية الواهية، يسعى أردوغان للنبش فى تاريخ السلطنة العثمانية، عن أحداث تاريخية قد تبرّر له تدخّله الراهن فى ليبيا، وتبرر للرأى العام أن ما يفعله اليوم حق تاريخى، للسير على درب أجداده الأولين واسترداد ممتلكات السلطنة العثمانية، ولو على جثث الأبرياء!.. لكن مقولة المناضل الليبى محمد بن عبدالجليل، (أوصيك يا عربى ألا تأمن خبث الأتراك، لأنهم ما يشتهون إلا الخراب والفتن، وما سبب خراب البلاد إلا فساد العثمانيين وجهلهم)، والتى جاءت ضمن ما تحدث فيه عن ظلم الطغاة الأتراك لليبيين أثناء الاحتلال العثمانى لليبيا، وهى مقولة تكفى لتمنحنا العبرة من سيرة أجداد أردوغان الغابرين.. فصفحات التاريخ لا تكذب أو تتجمل، فكما يسعى أردوغان لاحتلال ليبيا اليوم بالخيانة والمال، فقد سبقه أتاتورك الذى تنازل عن ليبيا لإيطاليا بتوقيع معاهدة (أوشى لوزان) عام 1912، رغم انتفاضة الشعب الليبى الحر ورفضه إجرام هذا الغاصب المحتل، وهذا ما تجاهله حفيده أردوغان فى حادثة إصابة عين جده أتاتورك فى ليبيا، لأن من شأنها أن تعيد إلى الأذهان تخلّى العثمانيين عن الليبيين وتنازلهم عن ولاية طرابلس، وتسليمها إلى محتل آخر، رغم الادعاء الكاذب بأن مجموعة من الضباط الأتراك وصلت إلى ليبيا فى أكتوبر من عام 1911، وعُين كمال أتاتورك قائدًا لمنطقة درنة العسكرية، وهناك خاض مع المقاتلين الليبيين معارك شرسة ضد الإيطاليين، وتعرض فى إحدى المعارك بمدينة درنة إلى إصابة خطيرة فى عينه فى يناير عام 1912.. فهؤلاء القوم (الأتـراك)، ليس من طبعهم الخيانة فحسب، بل إن الكذب يجرى فى دمائهم!.
تتعامل تركيا مع ليبيا، على أنها منطقة نفوذ تاريخية للعثمانيين، وهو ما صرح به رجب أردوغان أكثر من مرة، وتحدث وزير دفاعه خلوصى أكار، بذات اللهجة من قلب ليبيا، عندما التقى بجنود الاحتلال التركى فى ليبيا، وحدثهم عن السيادة التركية، والعودة بعد انسحاب الأجداد، والبقاء إلى الأبد، قائلًا: (فى البحر أو البر أو حتى فى الوطن الأزرق، فى أى مكان لنا عليه سيادة، نقوم بكل ما علينا من واجبات.. لنا مع المنطقة تاريخ مشترك يمتد لخمسمائة عام.. أجدادنا انسحبوا من المنطقة، لكننا سنقوم بكل ما يجب علينا أن نقوم به، وسنبقى هنا إلى الأبد مع إخواننا الليبيين)!، فى إشارة إلى حكومة فايز السراج التى تدعم أنقرة ميليشياتها.
السجلات لم تتجاهل أن التاريخ العثمانى فى ليبيا ملىء بالدماء، وهو ما يفعله أردوغان الآن باستهداف المدنيين الليبيين وسفك دمائهم، عن طريق جلب المرتزقة والإرهابيين من شمال سوريا إلى ليبيا.. أربعة قرون مضت منذ الاحتلال العثمانى وسفك دماء الأبرياء فى ليبيا، ليعود أردوغان حاملًا رايات مشروع العثمانيين الجدد إلى الجماهيرية الليبية، عن طريق جلب المرتزقة والإرهابيين من شمال سوريا، بهدف مساعدته على فرض نفوذه على العاصمة طرابلس، ولتدعيم حلفائه من الميليشيات الإرهابية المسلحة التى تسيطر على الغرب الليبى.. وبالعودة للتاريخ، فقد وقَعَتْ ليبيا ضحية للعثمانيين منتصف القرن السادس عشر، وعانى أهلها من ويلات القتل وقطع الرءوس فى مجازر دامية، وتم كشف خيانة الأتراك للمسلمين تحت أوهام الخلافة المزعومة، لتتكشف عملية التواطؤ بين العثمانيين وإيطاليا، لتسليم ليبيا إلى الاستعمار الإيطالى.. وحتى لا ننسى، تعالو نتذكر الدماء الليبية التى أراقها العثمانيون، خلال فترة احتلالهم البغيض لهذا الجزء الممتد فى عمق الأمن القومى المصرى.
فى نهار رمضان، وقبل نحو مائتى عام، وتحديدًا فى سبتمبر 1817، نفذ المحتل العثمانى وعلى طريقة مذبحة القلعة فى مصر، والتى تخلص فيها الوالى العثمانى محمد على باشا الكبير، فى أول مارس عام 1811م، من آخر بقايا أمراء المماليك، حتى يستطيع الانفراد بالسلطة دون معارضة- واحدة من أبشع المجازر فى التاريخ ضد قبيلة الجوازى، التى كانت تسكن مدينة بنغازى، مما خلف آلاف القتلى والضحايا على خلفية نزاع بين الوالى العثمانى يوسف باشا القرمانلى وولده.. تعود فصول (المذبحة) إلى حين دعوة الحاكم العسكرى التركى القرمانلى شيوخ الجوازى للحضور إلى القلعة التركية، بغرض إكرامهم وطلب الهدنة معهم، لأن سكان القبيلة كانوا يرفضون الاستبداد التركى.. وبالفعل لبى شيوخ وأعوان الجوازى النداء، وبمجرد جلوسهم داخل القلعة، أعطى القرمانلى إشارته للحرس الخاص لتنفيذ الهجوم عليهم، فتم ذبحهم جميعًا.. وبعد تصفية الشيوخ، الذين كان يناهز عددهم الـ45، طالت (المذبحة) كل أنحاء القبيلة، ليبلغ عدد القتلى أكثر من عشرة آلاف فرد، من بينهم نساء وأطفال.. وقد قدم الأرشيف الليبى وثيقة خطية عن واقعة إعدام شيوخ الجوازى فى قصر بنغازى.. ويرصد صاحب كتاب «رى الغليل» قيام محمد رائف باشا، والى طرابلس الجديد حينئذ، والذى تسلم مهامه فى سبتمبر 1835، بقمع أحرار ليبيا، وقاد حملة عسكرية على إقليم تاجوراء الذى امتنع سكانه عن دفع الضرائب، ورفضوا توريد محاصيلهم إلى أسواق طرابلس، واتفقوا على إرسالها إلى تاجوراء، نكاية فى العثمانيين، لتتحول تاجوراء إلى مركز تجارى كبير.. وبعد مقاومة شديدة من أهالى المدينة، سقط خمسمائة شهيد على يد اللصوص العثمانيين الذين استولوا على أموال وبضائع التجار، وأنهوا دور تاجوراء التجارى، ونهب الجنود ممتلكات الأهالى، وخطفوا مائة فتاة و145 طفلًا، وفر عدد كبير من الأهالى إلى الصحراء.
فى 1836، أثارت انتصارات الليبيين ذعر السلطان محمود الثانى، فأرسلت إسطنبول حملة عسكرية فى 22 يونيو بقيادة طاهر باشا، ضمت ثلاثة آلاف جندى، بينهم ثلاثمائة من الخيالة، على متن 12 سفينة حربية، حملت أيضًا المدافع والذخائر والمؤن العسكرية، كما يفعل أردوغان اليوم.. بدأ طاهر باشا حملته العسكرية بالهجوم على مصراتة، وتواصلت المعارك مدة 28 يومًا متواصلة، وتكبد الأتراك خسائر بشرية كبيرة وصلت إلى ستمائة قتيل، وفى 9 أغسطس، تمكن طاهر باشا من الاستيلاء على مصراتة، وعين ضابطًا عثمانيًا حاكمًا للمدينة فى مقابل حصد أرواح ثمانين ألف شخص!!.
ويأتى الفصل الأخير من الخيانة التركية للشعب الليبى.. فبعد أن احتلت السلطنة العثمانية الأراضى الليبية باسم الدين الإسلامى، وألفوا كذبة الخلافة لاستعباد الشعب الليبى على مدار ثلاثة قرون، عاثوا خلالها فى البلاد نهبًا وقتلًا وسفكًا للدماء، صُنف من خلالها التاريخ العثمانى فى ليبيا كواحد من أعنف تواريخ الاحتلال، سلّمت السلطنة العثمانية ليبيا لإيطاليا، عبر اتفاقية (أوشى لوزان) التى وقعها العثمانيون مع الإيطاليين عام 1912، وبموجبها تم تسليم الأتراك لليبيا ومنحها للمحتل الإيطالى الجديد.. تخلى الأتراك عن الليبيين وتركوهم بمفردهم فى مواجهة الإيطاليين، بعد أن وافقوا على سحب قواتهم وموظفيهم من ليبيا، ومنح طرابلس وبرقة الحكم الذاتى مقابل انسحاب إيطاليا من عدد من الجزر فى بحر إيجة قرب اليونان، ومنحها للأتراك.. وبسبب تخلى الأتراك عنها، غاصت ليبيا فى عقود من الاحتلال الإيطالى، شهدت مذابح عديدة وانتشارًا للمجاعة وعمليات تهجير، أسفرت عن سقوط أعداد كبيرة من القتلى، قُدرت بمئات الآلاف.. وهذه واقعة تنفى، بل تؤكد كذب ما تردده تركيا دومًا عن حمايتها الدولة الإسلامية والحفاظ على إعلاء قيمة الإسلام والحرب تحت رايته.
لقد راق لى ما جاء فى بعض الكتب من أن لقب السلطان العثمانى كان يتبعه لقب (الغازى)، لأن طاقاتهم كانت موجهة للغزو وليس للبناء، وانعكس ذلك على مظاهر حياتهم، ففنونهم ملفقة، وآدابهم ملفقة، وكل ما يتفاخرون به إنما هو تلفيق من هنا وهناك، أشبه بنموذج رجل يجمع بين الثراء وانعدام الذوق، فهو يشترى كل ثمين وغال ويضعه فى منزله، بغض النظر عن تناسق ما يضع، مع فارق أكيد بأن العثمانيين لم يشتروا وإنما نهبوا!.
وبعد.. فشتان بين خائن (السراج) يُقبل أيادى المحتل العثمانى ويُهيل التراب على تاريخ أجداده الليبيين الأبطال، وبين دولة عاصمتها القاهرة، تجمع الفرقاء فى هذا البلد تحت كلمة واحدة، وراية خفاقة لا تقبل الهزيمة أو الاستسلام، لغاصب عثمانى محتل ينهب ثروات ومقدرات الشعب الليبى، الذين لن يسمحوا لحفيد أتاتورك أن ينهب ثرواتهم، بعد أن يحتل أرضهم، ويقتل أبناءهم ويستحيى نساءهم، كما فعل أجداده الأولون.. وهذا حديث الأسبوع القادم. حفظ الله مصر وسائر بلادنا.. آمين.