حوار حول العلمانية 5.. فرج فودة يكتب: جريمة عمر عبدالرحمن
هذا نداء إلى رؤساء الأحزاب فى مصر، والمشتغلين بالسياسة فيها، لكى يقرأوا كتابًا فاخر الطباعة رخيص الثمن، أصدره الشيخ «عمر عبدالرحمن» وعرض فيه مرافعته فى قضية الجهاد، حتى يدرك الجميع أن هناك وجهًا آخر لمصر، لا يراه إلا شيخ وجماعته، الحكم فيه حكم الجاهلية والشريعة شريعة الهوى، والمنهج العبودية، والحكام فيه كافرون ظالمون فاسقون، والقوانين فيه وضعية وأمرها «واضح وضوح الشمس وهى كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة ولا عذر لأحد ممن ينتسب إلى الإسلام، كائنًا من كان فى العمل بها، أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر كل امرئ نفسه وكل امرئ حسيب نفسه» (ص 74)، وخوفًا من أن يرد عليه بأن أغلب القوانين مطابقة للشريعة أو مستمدة منها فإنه يتحسّب بقوله «إن تجزئة الشريعة وتطبيق بعضها وترك بعضها، فعل باطل، من يفعله يكون مرتدًا» (ص 117)، وهكذا لا يملك السائل إلا أن يضع يده على فمه، خوفًا من أن يفلت منه تساؤل عن حكم الشيخ على ما فعله الخليفة «عمر بن الخطاب» من تعطيل حد قطع يد السارق فى عام المجاعة، أو منعه توزيع سهم المؤلفة قلوبهم رغم ورود النص القرآنى الصريح.
وما للسائل لا يخشى أو يخاف، وقد أعلن الشيخ بصراحة ووضوح أن منهجه هو «القتال لإعلاء كلمة الله فى الأرض وإقرار منهجه فى الحياة، وحماية المؤمنين به أن يُفتنوا عن دينهم أو أن يجرفهم الضلال والفساد»، (ص 123)، وهو لا يترك بابًا مفتوحًا للكلمة، ولا مجالاً مسموحًا به للموعظة الحسنة، ولا طريقًا للجدال بالتى هى أحسن، ولا سبيلاً متاحًا لحوار العقل والمنطق، بل تنطلق من فمه الكلمات هادرة كالرعد «لا بد للمد أن يفيض، ولا بد للسدود أن تنهار، ولا بد للقردة أن يغمرهم الموج والركام، وعندئذ فلتتنزل سور قرآنية فى الجهاد وتُسمع دمدمة الآيات ومن ورائها فرقعة السلاح تضرب السيئة بالسيئة وتعالج الغدر بالقصاص، تصب النقمة على المتلاعبين بالدين وتكيل لهم الضربات على نحو يثير الرعب فى القلوب، تحدد موقف الإسلام الحاسم من أعدائه، تعلن الحرب على الأحزاب المريبة، وتنظف الجو من آثار الشرك والمشركين ومفاسد أهل الكتاب وذبذبة المنافقين، ترسم للمسلمين ما يتخذونه أساسًا لدولتهم ومنهجًا لدعوتهم» (ص 123، 124).
وهكذا تستحيل دعوة الإسلام السمح على يد الشيخ إلى مد يفيض وموج يغمر، وآيات تدمدم، وسلاح يفرقع ونقمة تُصب، وضربات تُكال، ورعب يُثار، وحرب تُعلن، ويصبح المعارضون لمنهجه قردة غارقين، وسدودًا منهارة، ومذبذبين ومشركين، مفسدين، وباختصار شديد كفرة، يلزم قتالهم ويستحل قتلهم، وباب الكفر واسع فى رأى الشيخ، فما أسهل أن يحمل أى اعتراض على آرائه على محمل التكذيب أو الإعراض أو النفاق أو الشك أو الاستهزاء أو الاستكبار، وكلها كلمات مطاطة تتسع لكل شىء ولأى شىء، واقرأوا معى كلمات الشيخ «من أتى بكفر أكبر، سواء أكان كفر تكذيب أم إعراضًا أو نفاقا أو شكا أو استهزاءً أو استكبارًا، من أتى بأى من واحدة من هذه لقد نقض إيمانه من أصله وخرج من ملة الإسلام» (ص 130)، ولا يكتفى الشيخ بحديث الدين والعقيدة، وإنما ينتقل إلى حديث السياسة، معلنًا أن «الشعب ليست له سيادة، ولا هو مصدر للسلطات، كما جاء فى الدستور، وهذا يعرفه الكبير والصغير بالضرورة من الدين، ويبرأ الإسلام من النظام الديمقراطى بمعنى حكم الشعب للشعب، فهذا معناه أن الحاكمية للشعب وليس الله» (ص 147).
والرجل يربأ أن يتساوى المسلمون مع غيرهم من أصحاب الكتاب، فإحدى جرائم «السادات» فى رأيه «أن هذا الرجل جعل أحفاد القردة والخنازير من الضالين الذين كفروا بربهم ونعتوه بصفات النقص، مثلهم كمثل المسلمين، بل اتخذهم أولياءً وأصدقاءً وأحبابًا» (ص 150)، وجريمته الكبرى التى أخرجته من ملة الإسلام أنه «قال -فض فوه - كلمته المشهورة لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة، فخلع ربقة الإسلام من عنقه» (ص 151)، إن العرض السابق لما يتضمنه الكتاب يثير مجموعة من الملاحظات أوجزها للقارئ فيما يلى:
أولاً: أليس من الواجب علينا أن نتّعظ من درس كتاب «الفريضة الغائبة» الذى أصدره محمد عبدالسلام فرج، ولم يُجهد واحد من رجال السلطة أو الدين أو الفكر أو السياسة نفسه عناء الرد عليه، وعندما تنبّه الجميع كان الوقت متأخرًا، وكانت كلمات الكتاب تحوّلت إلى الرصاص، وكان عدد ضحاياه من القتلى والجرحى فى حادثتى المنصة وأسيوط يكاد يقترب من عدد قرائه المحدودين.
إننى لا أدعو إلى منع النشر أو المصادرة، فهذا مرفوض بمنطق الديمقراطية التى نقبل بها جميعًا، لكنى فى الوقت نفسه أرى أنه من الخطر الشديد أن يُترك هذا الفكر بلا رد، ورغم اقتناعى بأن القضية كلها سياسة، فإن ما ورد بشأن تكفير المسلم والحكم بارتداده، وخلعه من ربقة الإسلام وتجهيل المجتمع، ورفض موالاة أهل الكتاب يحتاج إلى رد من المتخصصين فى الدين، ويترتب على ذلك إحدى نتيجتين، إما أن تكون جماعة الشيخ ومعتنقو آرائه ممثلة للإسلام الصحيح، ونصبح نحن جميعًا من المؤمنين بسماحة الإسلام وقدرته على استيعاب جميع متغيرات العصر، خارجين على صحيح الدين، وإما أن يصبح الشيخ وجماعته خارجين على أصول العقيدة السمحاء أو على أحسن الفروض مجتهدين أخطأوا فى اجتهادهم ولهم أجر الخطأ، وفى هذه الحالة يصبح منع الشيخ من ارتقاء المنبر لبث دعواه، والانتقال من مسجد إلى مسجد، داعيًا للثورة والتكفير واجبًا دينيًا قبل أن يكون مسئولية سياسية.
ثانيًا: أن مسئولية مواجهة الإرهاب ليست مسئولية الحكومة وحدها، بل هى مسئوليتنا جميعًا وهى واجب قومى يجب أن يشارك فيها الجميع، بل إننا يجب أن نسلم بأننا -دون قصد- قد شاركنا جميعًا فى نمو هذه الظاهرة، لقد شاركت فيها بعض قيادات الأحزاب حين وصفت حوادث الاغتيال السياسى بالبطولة، وسمّت قادتها شهداءً وأبطالاً، وارتفعت بعض الأقلام فيها منادية بالدولة الدينية على أنها الحل الوحيد، وأنا أدعو هؤلاء الكتّاب حتى يدركوا أنهم سوف يكونون أول الضحايا لما يدعون إليه، وشاركت فيها وسائل الإعلام حين حوّلت حادث اغتصاب إلى قضية قومية، ولا بد من أن يُنشر الخبر فى سطرين أو ثلاثة، مشيرًا إلى أن (ستة من الشبان قد اعتدوا على فتاة كانت جالسة فى سيارة خطيبها فى أحد الشوارع المهجورة فى المعادى، وقد أثبت الطب الشرعى أنها عذراء)، بدلاً من نشر الخبر بهذه الصورة التى لا تثير أحدًا ولا تلفت انتباهًا، تبارت الأقلام فى وصف أدق التفاصيل ومتابعة المحاكمة وإثارة الشعور العام بصورة لم يسبق لها مثيل، وقد جارتها بعض الصحف المعارضة فى ذلك الأمر الذى طرح تساؤلاً عن إمكانية أن يكون ذلك كله محاولةً لقيادة الرأى العام إلى نتيجة غير صحيحة، وهى قصور القوانين الوضعية (ويعلم المتخصصون أنها مستمدة من مبادئ الشريعة الإسلامية)، وعجز الدولة (المدنية) عن حماية مواطنيها، ويصدق الشىء نفسه على تحويل قضية انتحار إحدى الفتيات فى منزل ملحن مشهور إلى قضية الموسم.
إن تهويل الأمور وليس تصويرها، يعطى جماعات الإرهاب أقوى أسلحتها، وهو سلاح التكفير والحكم على المجتمع كله بالجاهلية والخروج على الدين، بينما الأمر كله أخطاء تحدث فى أى مجتمع فى كل زمان، ولا يستطيع أحد أن يعطى لنا مثالاً عن مجتمع تحوّل أفراده إلى ملائكة.
ثالثًا: أن الكتاب تتصدره مقدمة، وينتهى بخاتمة، وكل من المقدمة والخاتمة موقعة بإمضاء (الجماعة الإسلامية)، وهى ذاتها جماعة الجهاد التى شاركت الشيخ فى السجن والقضية، والمقدمة تعلن بلا مواربة أن أفراد الجماعة يدينون للشيخ بالولاء ويعملون تحت رايته، وهو الأمر الذى أجهد الادعاء فى القضية لإثباته دون جدوى، بينما تطرح الخاتمة برنامج هذه الجماعة فى عبارات شديدة العمومية والإغراء فى آنٍ واحد.. وهذا كله يطرح تساؤلاً مباشرًا عن مدى شرعية هذه الجماعة التى تُصدر برنامجًا وتنشر كتبًا، وإذا لم يكن نشاط الجماعة جزءًا من إطار الشرعية فى المجتمع، فلماذا إذن هذا الكم الهائل من القوانين المنظّمة لتكوين الأحزاب السياسية والجمعيات الاجتماعية والدينية وإصدار النشرات والصحف؟.
إننا يجب أن نكون واضحين فى هذا الأمر.. علينا أن نقبل الحوار فى ظل الشرعية مهما تجاوز أو اختلفنا معه، وعلينا فى الوقت ذاته أن نرفض الحوار خارج إطار الشرعية مهما تعاطفنا معه، أما إذا تحوّلت الكلمات إلى رصاص، والعقيدة إلى انفجارات، فإنه من الواجب علينا جميعًا أن نؤيد المواجهة بأقصى درجات العنف، والحسم الرادع دون مُزايدة أو تحسُّب، لأن الأمر فى هذه الحالة أمر أمن للمجتمع، وأمان للمواطنين، وهذا الخيط الرفيع هو الذى يفصل تمامًا بين منطق الدولة المتحضّرة، وهو ما نقبل به، وبين منطق الغابة، وهو ما يجب ألا يقبل به أحد.
ورغم أن الموضوع يُغرى بالكتابة بما لا تتسع له ظروف النشر، فإننى أرجو أن أكون قد أبلغت الرسالة ونبّهت إلى الخطر، وتبقى كلمة أخيرة موجّهة منى إلى الشيخ «عمر»:
إن دمدمة أسلحتك وفرقعة قنابلك أيها الشيخ الجليل لا تخيف أحدًا، ولا تمنع مواطنًا من أن يرد عليك دون أن يخشى اتهامك له بالكفر والارتداد، فالإيمان يا شيخنا الجليل ليس صكًا يصدره الشيخ «عمر»، ولا شهادة تصدر من الجماعة الإسلامية، وما دمت قد طرقت حدث السياسة وسلكت سبيل الوصول إلى الحكم، فسوف يكون لى معك حديث طويل فى مقال قادم، وسوف تكون أداتى فيه شيئا لم أجد له أثرًا فى كتابك المثير، ولعلى أكشف سرًا إذا ذكرته لك، إنه المنطق والحوار الهادئ والدعوة بالتى هى أحسن.