حوار حول العلمانية 4.. فرج فودة يقصف جبهة الشيخ حافظ سلامة
الباب الثانى
معارك فكرية
صندوق الشيخ سلامة
هذه بُشرى إلى شعب مصر، فى وقت ترتفع فيه الأصوات بالدعوة إلى الاعتماد على النفس، ومحاولة تحقيق الاكتفاء الذاتى فى الغذاء وهى بُشرى منشورة فى كُتيب فاخر الطباعة ورخيص الثمن (1)، أصدره شاب يحمل لقبًا علميًا أغلب الظن أنه الدكتوراه، وقد مضى على صدوره نحو عام، دون أن يتطوّع كاتبه أو من كتب عنه بتصحيح ما فيه، الأمر الذى يعنى أنهما متفقان على صحة مضمونه، وهو ما قصدته فى بداية مقالى بلفظ «البُشرى»، تلك التى غفلنا عنها وهى فى متناول اليد، وشغلنا أنفسنا بحديث الاقتصاد وهو طوع البنان، وأجهدنا أذهاننا علمًا واجتهادًا وهى.. فى الصندوق.
أحسب أن ما سبق كافٍ لإثارتك، وهو ما قصدت، حتى تتعجب معى، وما أكثر ما تعجبت، حين تقرأ للدكتور الشاب قصةً أدارها فى ذهنه مرات ومرات قبل كتابتها، وفحّصها ومحّصها بثقافته العلمية، ثم أطلقها علينا وسط سيل من المحسّنات وفنون البديع، وزيّنها بحشد من المؤثرات العاطفية، إن جاز التعبير، وموجزها حتى لا أُثقل عليك كما أثقلتْ علىّ القراءة، أن الشيخ حافظ سلامة فى حصار السويس، وقف فى المسجد وبين يديه صندوق صغير ملىء بكعك العيد، وكان المسجد غاصًا بالمصلين، وأخذ يُوزّع منه عليهم، الكل يأخذ ويشبع، حتى أكل الجميع ما شاءوا، شبعوا أيما شبع، والصندوق ملآن كما هو، لا يفرغ منه مداد الكعك، ولا تهتز فوقه ابتسامة الشيخ الجليل، وهى ابتسامة لها ألف معنى ومعنى.
معجزة هائلة لا ريب، وهى معجزة أهديها لمن أنكروا علىّ نقد مسيرة الشيخ الجليل، وأعلن لهم أنى مصدق لها كل التصديق، غير أنى أرجو أن تكون المعجزة إلى استمرار، والقصة إلى اكتمال، ولا أحسب أن المعجزة مقترنة بالكعك أو بالعيد، وإنما هى مقترنة بقدرة الشيخ أمام عجزنا عن الإتيان بالمثل، وبحاجة القوم -قومى وقوم الشيخ- إلى ما يسد رمقهم، حتى لو كان قمحًا أو خبز شعير، فما بالك إذا أتى بكعك يقطر سمنًا ويذوب بين الأنامل، وهى بُشرى أُهديها إلى كل من أمضه الجوع، أو أرهقه أكل الخبز الشمسى والقريش، أو شغل نفسه بقوت أولاده فى يومه أو غده، فالحل مع الشيخ، والصندوق لا ريب موجود، وشهادة الدكتور موثوق بها، ما علينا إلا أن نعطى الفرصة للشيخ، فينطلق الغناء فى كل أرجاء مصر (ياكلوا حلاوة ياكلوا جاتوه، ياكلوا كل اللى يحبوه)، وقد أخطأنا جميعًا حين نقدنا الرجل، وأثبتنا أنه لا كرامة لخبراء التموين فى بلادهم، وها نحن قد أعطينا لوزير التموين الفرصة تلو الفرصة، فلم يقدر على فعل ما فعل الرجل، وأجهد نفسه بالزيارات والتقارير والمتابعة، بينما فعلها الشيخ فى مسجده دون عناء، محيطًا أتباعه بالابتسامات الحانية، فعلها ورب الكعبة، مفحمًا أمثالى من البسطاء الذن يؤمنون بالعقل ويرفعون راية احترامه، ولولا عادة نشأتُ عليها، وهى الرفق فى النقد، لتوجهت إلى وزير التموين، طالبًا منه أن يُخلى مكانه للشيخ ولصندوقه، حيث الحل لا المكابرة، والرزق لا الإنتاج، والمعجزة لا العمل، والبسمة لا القرارات، والكعك لا الخبز الأسمر، والشيخ لا الوزير.
بودى أيها القارئ أن أستطرد معك فى هزل هو الجد، وابتسامة مغموسة بالكدر، وفكاهة هى النكد بعينه، غير أنى لا أستطيع الاستطراد، فقد ذُكر عن الشيخ ما ذُكر، فى وقت معاصر لمسيرته، وكان القصد منه تتويج الشيخ لا هدمه، ورفع مكانته لا التقليل من شأنه، وفى هذا استهانة بعقولنا أى استهانة، ودعوة إلى الجهل كلها مهانة، وازدراء لنا وإهانة، وما أيسر أن يُمسك بالكتيب صبى من أبنائنا حتى يعتقد من صدقه، وحتى يزهد فى ما تعمله قلّ أو كثر، وحتى يرسخ فى ذهنه احترام الخرافة وتحقير العقل، بل ربما اقتنع البسطاء بالقول إذا قصّرنا فى رفضه وتفنيده، فالحديث كله موجّه إليهم، وهو جزء من حملة مقصودة مضمونها، إن لم يقنعكم الرجل بفكره فلتقتنعوا بكراماته، وإن لم يكن قادرًا على تقديم الحل باجتهاده، فسوف يأتيكم من الله ما تبتغون جزاءً وفاقًا على صلاح الشيخ وجهاده.
هؤلاء أيها القارئ من يتصوّرون أنهم قادرون على قيادة الشعب المصرى، يرون أنفسهم لذلك أهلًا، ويتطوّعون لقياداتنا جميعًا إلى مشارف القرن الحادى والعشرين، ويطمعون فى أن نتبعهم، لأن معهم الصندوق، وهم بعون الله سوف يوفّرون عليك إجهاد عقلك أو حتى استعماله، وفى أيديهم سوف نُفرّق بين الصواب والخطأ بالاستخارة، أما العالم المشغول بالأجيال الجديدة من هذا العفريت الإلكترونى المسمى بالكمبيوتر أو نظيره المسخوط المسمى بالروبوت، أو محطات الفضاء المجرورة بالصواريخ وليس بحروف الجر، فكبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن هى إلا لهو وزينة، وما علينا إلا أن نردد قولهم المعاد، إن الشرق يرتجف، والغرب يرتعش رُعبًا وفرقًا من صحوة الجماعات، ودعوتها للخروج من المجتمع أو عليه، وأن العالم كله يهتز، حين يطلع الشيخ علينا بأفكاره فى العودة بالمجتمع إلى ما قبل الاحتلال البريطانى، وبصندوقه الذى سوف يملأ أرجاء مصر كعكًا وبسكويتًا، وأن القوتين العظميين، لا تتفقان على شىء إلا على مواجهة هذا التيار الذى يتزعّمه الشيخ وأمثاله..
والنبى إيه؟
بين التكفير والتفكير (*)
هذه محاولة لإثبات علاقة بين حادثتين، يبدو الربط بينهما صعبًا للوهلة الأولى، محتملًا للوهلة الثانية، مؤكدًا أو شبه مؤكد إن أمنعت النظر أو أجهدت الذهن، وللقارئ فى نهاية المقال أن يقتنع وينزعج، أو أن يشك ويندهش، أو أن يرفض قانعًا بالرياضة الذهنية، لأن الطريق إلى الحقيقة يبدأ بالشك، فإنى أصارح القارئ بأنى أشك فى وجود علاقة بين المحاولة (الحمراء) لاغتيال أمير الكويت على يد منظمة الجهاد الإسلامية (الإيرانية)، ومحاولة تنظيم المسيرة (الخضراء)، بقيادة الشيخ حافظ سلامة وبتأييد من فلول منظمة الجهاد الإسلامية (المصرية)، فالهدف النهائى واحد وهو ضرب الشرعية بالعنف والتصفية فى حادث الكويت، وبالديماجوجية والمزايدة فى مشروع المسيرة، برفع السيف فى وجه حاكم الكويت، وبرفع المصحف فى وجه حاكم مصر، وإذا كان مفهومًا أن يسيل السيف دمًا ويسقط ضحايا، فإنه متوقع أن يثير على المصحف ارتباكًا، ومستهدف أن يهدد نظامًا.. ومن حق القارئ علىّ أن أنقل إليه أوجه الصورة كما تجمّعت فى ذهنى، داعيًا لله أن أكون مخطئًا، وقد أكون..
الوجه الأول - منطق التاريخ:
للقارئ أن يتساءل عن حجم المصادفة فى أن يحترق لبنان، وهو واحة الديمقراطية فى المنطقة العربية، بنيران الفتنة والتمزّق، وأن تلقى مصر الجزاء نفسه فى حريق القاهرة، بعد ثلاثة عقود من الممارسة الديمقراطية الفريدة والمنفردة فى المنطقة أيضًا، وأن تشير أصابع الاتهام إلى فاعل مجهول فى الحالتين، وأن يكون صدى التفجير فى الكويت تكفيرًا فى القاهرة، وكأن اختيار العاصمتين وحدهما محض مصادفة بحتة، ومجرد ترتيب قدرى يلتقى فيه العنف بالتفتُّح، التكفير بالتفكير والتخلف بالحضارة، والإرهاب بالديمقراطية.
الوجه الثانى - منطق الجغرافيا:
فى حوار مع أحد الساسة الأمريكيين ذكر لى أن خمس دبابات فى يد الشيوعيين فى كوريا يمكن أن تؤرقه كسياسى أمريكى أكثر من خمسة صواريخ نووية موجّهة من أوكرانيا.. وحين حاورته مداعبًا، وماذا إذا سيطروا على المكسيك؟ فأجابنى فى جدية: هذا ما لا يسمح به أحد، وربما تستطيع أن تفسر التاريخ بالجغرافيا أو بغيرها، لكنك لا تستطيع أن تغير الواقع إلا (بالجغرافيا)..
تذكرت ذلك وأنا أقارن وضع الكويت فى مواجهة ما سُمح به فى «إيران الخمينى».. معبر الكويت إلى آسيا غير العربية، بوضع مصر فى مواجهة ما سُمح به فى «سودان النميرى».. معبر مصر إلى أفريقيا غير العربية، وما صحب ذلك من صيحة الفرح غير المعلنة من بعض متطرّفى الشيعة فى الكويت، وصيحة الفرح المعلنة على ألسنة القادة الإسلاميين المصريين الرسميين وغير الرسميين، وتساءلت وللقارئ أن يتساءل معى، هل كان لتجربة «الخمينى» فى إيران نتائج (محسوبة) فى الكويت؟ وهل كان لتجربة «النميرى» فى السودان نتائج (مقصودة) فى مصر، أم أن الأمر محض مصادفة.. جغرافية؟
الوجه الثالث - المصيدة والمصلحة:
لن أفاجأ إذا كرر الشيخ حافظ محاولته، أو قلّده آخرون بأسلوبه أو بأسلوب آخر، وبادئ ذى بدء، فإنه من الواضح أن الرجل نفسه حسن النوايا، فتصريحاته المعلنة لا توحى بالاحتراف السياسى، بدءًا بإعلانه عن رغبته فى العودة بمصر إلى ما قبل الاحتلال البريطانى (مجلة «المصور»)، وانتهاءً بتصريحه عن ضرورة فرض الجزية على الأقباط (مجلة «روزاليوسف»)، ومن الواضح أيضًا أن الرجل عاش حياته كلها يدعو إلى الدين والعقيدة دون أن تتجاوز شهرته دائرة معارفه وسامعيه، بل ربما دُهش الرجل معنا وهو يرى زملاءه قد انقلبوا فجأة إلى مشاهير وأصبحوا من نجوم الكاسيت، وكُتبت عنهم المقالات والكتيبات، وانهالت عليهم التبرّعات، وبعضهم كان يقرأ القرآن للهواية، فإذا به نجم ينافس كبار المقرئين، على الرغم من أنهم جميعًا لا يزيدون عنه علمًا، أو تفقُّهًا فى الدين، أو حتى حلاوة الصوت، وربما سأل الرجل نفسه مرة ومرة عن سبب ذلك كله، ولم يجد جوابًا، ولعله الآن قد أدرك الجواب، حين تحول فجأة إلى نجم إعلامى، يعقد المؤتمرات الصحيفة، وتنطلق الأسئلة من حوله بلسان عربى تارة، وأعجمى تارة أخرى، وتلمع حوله الفلاشات، وتسطع أمام عينيه أضواء الفيديو، وتتردد على مسامعه ألفاظ «التايمز واللوموند»، بديلًا عن «الطبرى والزمخشرى»، ويصبح هدفًا لأسئلة الآخرين بعد أن عاش حينًا يسأل نفسه وأحيانًا يحاورها، ووسط ذلك كله لم يجد الرجل فسحة من الوقت، لكى يسأل نفسه سؤالًا بسيطًا وواضحًا هل هذا كله أمر طبيعى؟
ألا يُحتمل (وسوء الظن من حُسن الفطن) أن تكون الأضواء المسلّطة (عن عمد)، والمبالغ فى حجمها (عن يقين)، مصيدةً لأمثاله من حسنى النوايا، ودافعًا لهم للاستمرار فى دفع الوطن كله إلى حافة عدم الاستقرار، وأن يكون أصحاب (المصيدة) هم أنفسهم أصحاب (المصلحة) فيما يحدث فى الكويت وما يحدث فى مصر؟
أدعو الله أن تدفع إجابة السؤال بالرجل إلى موقف الحيرة، بين ضمير الوطنية المصرية ومصيدة استكمال المسيرة.