ثروت الخرباوى: الوفاء والخيانة.. صورة الصديق فى السينما والدراما
فى مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير يقع قيصر مضرجًا بدمائه من طعنات المتآمرين الذين دعوه لاجتماع فى مجلس الشيوخ، وكانت لحظة فارقة، ودهشة مذهلة أصيب بها قيصر عندما تقدم منه صديق عمره «بروتس» فيطعنه الطعنة القاتلة، تحشرج صوت يوليوس قيصر وهو ينظر بأسى وألم إلى صديق عمره، وأغمض عينيه حتى لا يرى الحقيقة وهو يقول: حتى أنت يا بروتس!! «Even you، Brutus». أراد بروتس أن يبرر لنفسه فعلته فقال: إنى أحبك ولكنى أحب روما أكثر، فارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه قيصر الحزين وقال: إذن فليمت قيصر.
ليس قيصر فقط هو الذى تعرض للخيانة من أقرب أصدقائه، بل ظل البشر يكررون قصص الخيانة، ولا يزالون يكررونها، فنظن أن التاريخ يُعيد نفسه، ولكننا نحن الذين نستعيده ولا يستعيد هو نفسه، فمنذ ما يقرب من عشرين قرنًا قام يهوذا الإسخريوطى التلميذ المقرب للسيد المسيح بالاتفاق مع اليهود على تسليمه لهم مقابل صرة من المال، وفى العصر الحديث وفى مصر أرض الكنانة قام بدران الصديق المقرب من أدهم الشرقاوى بتسليمه للإنجليز، وغير هذه القصص كثير وكثير، حتى كأنك قد تظن أن فى كل عصر المئات من النسخ المكررة من قيصر والمسيح وأدهم الشرقاوى، والمئات من النسخ المكررة من بروتس ويهوذا وبدران!
ولكن هل غاب عن الدنيا الصديق الوفى؟! هذا هو سابع المستحيلات، الدنيا بغير الصديق الوفى تختفى، لذلك كان فى التاريخ واحد فقط من كان خائنًا للمسيح، ولكن باقى التلاميذ كانوا أوفياء، وكان لموسى عليه السلام هارون، وكان لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أبوبكر وعمر وعثمان وعلى، وفى التاريخ أيضًا تلك الصداقة العميقة التى جمعت ما بين كاتبى ألمانيا العملاقين «جوته» و«شيللر»، وقد وصلت حالة التفاهم بينهما فكريًا وإنسانيًا إلى حد مُذهل، وكانت صداقة الشاعر الصوفى جلال الدين الرومى بالدرويش الهائم «شمس الدين التبريزى» مثالًا للحب بين الصديقين إلى درجة التفانى، إذ عندما التقى الرومى بشمس الدين الدرويش الجوّال بدا وكأن كل واحدٍ منهما استغنى عن الدنيا بالآخر.
هاتان هما الصورتان الغالبتان للصديق فى الدراما، إما أن يكون مخلصًا، أو أن يكون خائنًا، والصديق المخلص ظهر فى معظم الأعمال الفنية بشكل الصديق التابع، إذ لا نعرف شيئًا عن حياته الخاصة، ولا مشاكله، ولا طموحاته، ولا حتى عمله، هو فقط صديق للبطل، يعمل على نصرته فى كل وقت، هو إسماعيل ياسين مع فريد الأطرش، الذى لا يفكر إلا فى صناعة مجد صديقه المطرب، وهو عبدالسلام النابلسى مع فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ، وهو فؤاد المهندس مع عمر الشريف فى فيلم «نهر الحب»، ومع عبدالحليم حافظ فى «معبودة الجماهير»، ومع صالح سليم فى «الشموع السوداء»، هو عبدالمنعم إبراهيم فى عشرات الأفلام، والملاحظ أن الصديق هنا هو الصديق صاحب الحس الفكاهى، وكأن هذه الشخصية كان يتم صنعها لتُضيف إلى العمل مساحة من الكوميديا ليس إلا، لذلك لم يهتم كتاب الدراما برسم شخصية صديق البطل بحيث يكون أحد محاور الصراع، أو أن يكون له دور فى تصاعد الأحداث الدرامية، إذ اكتفوا بأن يكون دوره ثانويًا، وإذا كان البطل هو الذى تدور حوله أحداث العمل، وأغلب الأحداث تُبنى حول تلك الشخصية، أو قل إن البطل هو الذى يحمل القصة كلها على كاهله، لكن لا يمكن أن تكون الأحداث كلها مرتبطة بالبطل وحده دون غيره، ففى الأعمال الدرامية، وفى فنون السرد الروائى يجب أن تكون هناك شخصيات أخرى، منها شخصيات قد يبدو أنها أقل أهمية من هذا البطل، لكن لا يستقيم العمل وتصاعد أحداثه من دون الشخص الذى هو فى الغالب شخصية صديق هذا البطل، ولكن معظم كتاب الدراما عندنا عندما رسموا هذه الشخصية جعلوها شخصية ثانوية لا تساعد فى تصاعد الأحداث، بل فى بعض الأحيان كان من الممكن الاستغناء عنها، ورغم براعة الفنانين الذين قاموا بهذه الأدوار، سواء كان إسماعيل ياسين أو عبدالسلام النابلسى أو عبدالمنعم إبراهيم، فإن المؤلفين لم يهتموا إلا بجعل هذا الصديق مجرد شخص خفيف الظل يلاصق البطل فى كل الأحداث.
وللمقارنة هنا سنرى هذا الصديق فى السينما العالمية صاحب دور رئيسى لا يمكن الاستغناء عنه، فمثلًا إذا رأيتم فيلم «وداعًا شاوشانك» الذى قام ببطولته الفنان العالمى متعدد المواهب «تيم روبنز» ومعه الفنان العالمى «مورجان فريمان» سنجد قصته تدور حول الهروب من أحد السجون، تيم روبنز فى القصة تم حبسه ظلمًا، ومدة السجن طويلة، ويتعرف فى السجن على المسجون مورجان فريمان، ومع الأحداث نعرف بالتفصيل قصة كل واحد منهما، وتفاصيل شخصيتيهما، وكيف تكونت الصداقة بينهما، ولماذا كان لكل واحد منهما اتجاهه المختلف عن الآخر فى فكرة الخلاص من هذا السجن، فروبنز ظل يفكر ويضع الخطط لكى يهرب، أما مورجان فلم ير أهمية لهذا الهروب لأنه سيخرج بعد سنوات، ولكنه فى الوقت ذاته يساعد صديقه روبنز أولًا فى التغلب على مشاكل السجن، وإجرام بعض المساجين، ثم يساعده فى الهرب، إلى أن يلتقى به فى النهاية على شاطئ المحيط.
مثل ذلك ستجده فى فيلم «سلام يا صاحبى» بطولة عادل إمام، حيث كان صديقه سعيد صالح، ومن سياق الأحداث نعرف طبيعة شخصية كل واحد منهما، وكيف أصبحا يدًا واحدة، وأصحاب طموحات واحدة، بحيث الواحد منهما مثل الآخر تمامًا، وكيف أنهما اتحدا لمواجهة كبار تجار السوق السوداء، أو مافيا هذا السوق، وهى قصة نموذجية فى كيف يكون لصديق البطل دور موازٍ للبطل، بحيث لا يمكن الاستغناء عنه لأنه شخصية محورية، وفى فيلم «زهايمر» يستدعى البطل عادل إمام فى ذاكرته شخصية صديق عمره «سعيد صالح»، وقد استعادها عندما وجد أن الوفاء انعدم فى الجيل الجديد، وكأنما كان يريد التأكيد على أن الوفاء سيظل موجودًا، وقد كان استدعاء هذا الصديق له رمزيته، إذ عندما ذهب يبحث عنه فى دار من دور المسنين وجده قد أصيب بألزهايمر، والرسالة التى يرسلها لنا هذا الموقف هو أن الصداقة كانت فيما مضى فقط، هى الآن فى دار المسنين، ثم إنها فوق ذلك فقدت ذاكرتها الطيبة، الصداقة الآن أصبحت مشوشة، وقد نجح عادل إمام بامتياز فى تشخيص حالة الحسرة التى أصابته عندما رأى صديقه- أو الصداقة- على هذه الحالة، كما نجح سعيد صالح فى تجسيد الصديق، أو الصداقة، التى فقدت ذاكرتها.
والخيانة كان لها وجودها أيضًا، فلا يمكن للحياة أن تمر دون أن يكون بيننا من يخون، ولن يكون لك فى الحياة أصدقاء إلا إذا كان منهم من خانك، والخيانة لها أسبابها، فقد يكون سبب الخيانة هو الحقد والحسد، وهى مشاعر كثيرًا ما تدخل إلى قلوب الناس، فمنا من يطهر قلبه من آثام القلوب، ومنا من يجعلها واقعًا فى حياته، وقد استطاع كاتبنا العبقرى نجيب محفوظ تجسيد شخصية الصديق الخائن فى فيلم «اللص والكلاب»، فسعيد مهران اللص الذى قام بدوره شكرى سرحان يتم القبض عليه بسبب خيانة صديقه «عليش سدرة» الذى قام بدوره زين العشماوى، الذى أبلغ عنه وأوقع به، وكان يبتغى من ذلك الزواج من زوجة سعيد مهران بعد أن يتم تطليقها منه بسبب السجن، وعندما يخرج سعيد مهران من السجن يجد صديقه الصحفى «كمال الشناوى» قد أصبح صحفيًا لامعًا، فيتنكر له، ويجد عليش وقد تزوج من زوجته، فيسعى إلى الانتقام من الجميع إلى أن تقتله الشرطة فى النهاية، وقد كانت شخصيات هذا العمل على أعلى ما يكون من الضبط، كل شخصية أعطاها المؤلف صفاتها، ومبرراتها، وكلها لا تصلح إلا أن تكون كذلك، لذلك فإن قيمة العمل إنما تُستمد أولًا من التأليف، ثم يأتى الإخراج بعد ذلك.
وفى فيلم «الأرض» نجد أن أصدقاء محمد أبوسويلم الفلاح الأصيل قد وقعوا فى الخيانة، فتركوه بعد أن حصلوا هم على مصالحهم، وكانت أبرز صور الخيانة متجسدة فى «الشيخ حسونة»، الذى أدى دوره الفنان يحيى شاهين، فبعد أن قدم من المدينة ليقف مع صديقه محمد أبوسويلم فى مواجهة الإقطاع، إذا به يتخلى عنه ويهرب بعد أن اشتراه البنك الإقطاعى بأن جعل الطريق الذى يتم إنشاؤه إلى قصر البك يمر بعيدًا عن أرض الشيخ حسونة، ولأن القصة للكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى، لذلك كانت شخصيات الرواية مرسومة بدقة، بما فيها مطامع النفس التى تجبر الإنسان أحيانًا على مخالفة ضميره. وفى فيلم «أدهم الشرقاوى»، قام مغاورى، الذى أدى دوره توفيق الدقن، بخيانة صديقه المقرب أدهم الشرقاوى «عبدالله غيث» وأبلغ عنه وترتب على ذلك الإيقاع به وقتله.
أما القصة العالمية «الكونت دى مونت كريستو» التى تم تمصيرها وتمثيلها فى العديد من الأفلام كان منها أمير الدهاء، وأمير الانتقام، ودائرة الانتقام، فقد كانت تدور حول مجموعة من الأصدقاء، قاموا بخيانة صديقهم الطيب الشهم، فأبلغوا عنه كذبًا لرئيس الشرطة، متهمين إياه بارتكاب جريمة ما، فيتم حبس هذا البطل الطيب عدة سنوات، ثم يهرب من سجنه ويعود للانتقام من هؤلاء الأصدقاء الخونة، وقد كانت أحداث تلك القصة فى صورها المتعددة تدور حول خيانة الأصدقاء، لذلك كان الاهتمام الأكبر هنا بشخصيات هؤلاء الخونة والمغانم التى حصلوا عليها بسبب خيانتهم، هو الخط الدرامى الرئيسى فى هذا العمل، وهو المحرك الأكبر للأحداث فيه.
والدراما المصرية مليئة بالأعمال التى تدور حول الصديق الخائن، فستجد تلك الشخصية فى فيلم «إبراهيم الأبيض»، حيث قام عمرو واكد بخيانة صديقه إبراهيم، حتى إن إبراهيم يسأله: بعتنى بكام؟! وستجد قديمًا محمود المليجى فى فيلم «لك يوم يا ظالم»، وهو يقتل صديقه بإغراقه فى النيل بسبب حقده عليه والضغينة التى كانت تملأ قلبه، ثم يتزوج من أرملته وينهب أموالها، إلى أن يموت فى نهاية الفيلم غريقًا فى مغطس فى حمام شعبى جزاءً وفاقًا، والجيد فى معظم الأعمال الفنية أن الخائن كان يلقى الجزاء دائمًا، اللهم إلا فى القليل من الأعمال مثل «اللص والكلاب» حيث نجا كل الخونة، وقُتل الصديق المغدور به الذى كان يريد أن ينتقم منهم، وقد كانت تلك النهاية عبارة عن رسالة واضحة، فقد كان يقول لنا: «فى الحدوتة يدور الصراع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، الوفاء والخيانة، وفى النهاية ينتصر الخير وتعلو راية الحق، ولكن الدنيا غير ذلك، فالخيانة ستظل باقية فى حياتنا ما حيينا، والباطل ستعلو رايته كثيرًا».