المنسي.. قصة بطل أم سيرة وطن؟
الفن هو صناعة كل ما يؤدي إلى تقويم وتهذيب فكر ووجدان الجمهور، لما للكلمة والمشهد الدرامى أو السينمائى من تأثير على متلقيه.. والفن والإبداع هما عنوانا تحضّر الدول وسمتها الثقافي وقوتها الناعمة التى تؤثر في محيطها الخارجى.. ومنذ وقت بعيد انحرف مسار الفن في مصر، دراما وسينما ومسرح وغناء، إلى المنزلق التجارى، بعيداً عن فكرها وعمقها وموروثها الثقافى والتاريخي، وأصبح ما يقدم للجمهور لا يعدو أن يكون مادة هشة وسطحية يحكمها الإعلان، هدفها التجارة والربح فقط، وأسهم فى ذلك غياب الدولة عن تولي صناعة الفكر من خلال الثقافة والفن، حتى اختفت الشخصية المصرية الأصيلة فى أفلام السينما ومسلسلات الدراما وغاب المسرح الهادف، إلى أن فقد المشاهد وعيه، وأصبح رهناً لدراما الأكشن والعنف والقتل والخروج على المألوف فى مجتمعنا، ولم يعد الفن هو الصناعة التى كانت تقدم القيمة والقدوة، وتُنمى معاني الولاء والانتماء وقيم العطاء، ناهيك عن أنها أصابت المشاهد بالإحباط جراء مشاهد الثراء والرخاء، وكأنها تخاطب عالماً آخر، ولم تستجب هذه الصناعة لدعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى نفسه، بضرورة تقديم دراما تستعيد الوعى المصرى وتقف بجوار الدولة.. إلى أن أتى فيلم «الممر» ومسلسل «الاختيار» ليقدما النموذج الجيد للشباب، ليس بتسليطهما الضوء على ما يقوم به رجال القوات المسلحة، من تضحيات وبطولات وحسب، بل بما قدماه من قدوة ومثل لإيقاظ الروح الوطنية، وخلق بارقة أمل، افتقدها الشباب خلال السنوات الماضية، ثم يخلدان ذكرى أبطال الشرف والكرامة، كما يؤرخان لمرحلة فارقة من تاريخ مصر، في حربها ضد الإرهاب.
أول أيام رمضان، وبالتزامن مع أعياد تحرير سيناء، وتماساً مع ذكرى انتصارات العاشر من رمضان (أكتوبر 1973)، جاء عرض مسلسل «الاختيار»، شهادة تقدير وعرفان لشهداء الوطن الذين قدموا أرواحهم، عن رضا وإيمان، فداءً لبلدهم، وعلى رأسهم الشهيد أحمد منسي، قائد الكتيبة 103 صاعقة، الذي استشهد في كمين «البرث» بمدينة رفح 2017، أثناء التصدي لهجوم إرهابي.. ومنذ بدء عرض المسلسل، وقد إنتابنا الوجع، لأننا نرى على الشاشة ما لم نكن نراه أو نتخيله، ولم تقدر عقولنا على الوصول إليه من قبل.. لقد جعلنا «الاختيار» نعيش التفاصيل الغائبة عنا، وجعلنا نُدرك واقعاً قدم فيه الرجال الأبطال أرواحهم، فداءً للوطن.. وهو وجع، بالمناسبة، لا بد أن يتبعه فهم منا وإدراك لما يُحاك لهذا البلد، وما يتطلبه ذلك من تغيير لسلوكياتنا.
ما يدعو للسعادة في نظري، أن «الاختيار» يتعرض لحملة ممنهجة حتى قبل بدء عرضه، وسر سعادتي أن المسلسل يعكس المأزق الذي تواجهه جماعة إخوان الشر وأتباعها، خوفاً مما يمكن أن تُحدثه الدراما كقوة ناعمة، في نفوس متلقيها، بفضحها لحقيقة الأفكار السامة والهدامة التي حاول هؤلاء دسها للبسطاء خلال سنوات طويلة، عبر المنابر الإخوانية.. ناهيك عن أنه، ولأول مرة، يجد المشاهد نفسه أمام ملحمة درامية بطولية حقيقية، وليس مجرد مشاهد تمثيل أو تجسيد لأحداث أو شخصيات بعينها.. وقد ربط صناعه بين أحداث المسلسل والأحداث الحقيقية، لتذكرة المشاهد بالحقيقة، مما يجعله لو كان في قلب الأحداث.. فالأعمال الدرامية التي تُجسد بطولات الشهداء، تُرسخ في نفوس الأجيال حب الوطن وأهمية الحفاظ على كل حبة من تراب سيناء، لأن ما يحدث على أرضها حرب حقيقية، يقدم فيها كل يوم بطولات، تشعرنا بالفخر الشديد.. وهذا ما لا تريده الجماعة.. فالتاريخ أكد أن جماعة الإخوان تشعر بالخوف والفزع والرعب من الأعمال الدرامية الوطنية، التي تفضح طبيعة نظرتهم للوطن، الذي لا يُساوي ــ في نظرهم ــ شيئاً، أو هو ــ كقول مرشدهم ــ (حفنة تراب عفنة)!.. وأن ولاءاتهم للتنظيم الدولي الإرهابي، فهم جماعة بلا وطن، ولا يدينون بالولاء إلا للغة واحدة يعرفونها، وهي ممارسة الإرهاب وسفك دماء الأبرياء.. ولذلك، فقد شعروا بخيبة الأمل مع عرض «الاختيار»، لأنه يعري حقيقتهم ويفضح أساليبهم الخسيسة في العنف، كما كشف وجههم القبيح وأعمالهم الإرهابية، ومعهم الجماعات والتنظيمات الإرهابية والتكفيرية التي خرجت من رحم هذه الجماعة المارقة.. وكلما زاد هجوم آلاتهم الإعلامية وفضائيات الدم، التي تبث سمومها ضد الدولة المصرية، من قطر وتركيا، على «الاختيار»، كلما ازددنا ثقة وامتلأنا يقيناً في نجاح المسلسل في كشف جماعة الإخوان للرأي العام المصري والعربي والعالمي، مُتلبّسة مع سبق الإصرار والترصد، بعملياتها الإرهابية الإجرامية، ضد أبطال قواتنا المسلحة والشرطة الوطنية، بل والشعب المصري كله.
وللذين يقولون أن المسلسل قصة شخصية عن الشهيد منسي، أؤكد لهم أنه سيرة بطل وطني، وأن وجود التفاصيل الحقيقية لسيرته داخل المسلسل، تضعنا أمام واحد من المقاتلين البواسل، أصحاب الأخلاق والقيم والتقاليد المصرية الأصيلة، وكنموذج لكل رجالات القوات المسلحة البواسل، ممن أتى ذكرهم داخل أحداث المسلسل أو غيرهم من شهدائنا الأبرار في العمليات المتعددة.. هناك فرق بين مسلسلات السيرة الذاتية وبين مسلسل يُؤرخ لمرحلة معينة من حياة شخص، مرتبطة بمرحلة تاريخية ما.. فمثلاً لا يمكن اعتبار فيلم «ناصر 56» سيرة ذاتية للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، بينما يصدق هذا الوصف على فيلم «أيام السادات»، فالأول يتعرض لقصة تأميم قناة السويس، بينما الثاني سيرة ذاتية فعلية لقائد الحرب والسلام، الرئيس محمد أنور السادات، يرصد حياته كاملة.. وهنا يرى المتخصصون أن الأعمال المتعلقة بالسيرة الذاتية مأخوذة عن مواد كتبها أصحابها، أو كُتبت عنهم، وهو ما ليس موجوداً في العمل المتعلق بسيرة العقيد أحمد منسي، فهذا العمل يرصد دوره (داخل) الجيش المصري.
أثق أن صُناع الدراما الوطنيين الشرفاء، سوف يعيدون بث الروح الوطنية من خلال إنتاج المزيد من هذه النوعية من الدراما أو الأفلام السينمائية كـ «الممر»، مع التركيز على إظهار دور أبطالنا البواسل، الصقور الذين يقدمون أرواحهم فداءً لمصر وشعبها.. ويحضرني هنا قول الكاتبة الإماراتية مريم الكعبي، إن مسلسل «الاختيار» أفسد محاولات عشر سنوات من عمل قناة الجزيرة القطرية لتخريب الهوية المصرية، وقد نسي العاملون بهذه القناة أن مصر بوصلة الوطن العربي في الثقافة والفن والأدب، وكل مواطن عربي يشعر بالفخر تجاه الجيش المصري، وبهذا المسلسل، ومن قبله فيلم «الممر» أشعر أن هناك توجهاً جديداً لإعادة صناعة الصورة الذهنية عن مصر، وتنقيتها من كل التشويه الذي عمد الإخوان والإعلام القطري إلى تصديره للعالم العربي.. الإعلام الإخواني شوه الفكر والقناعات العربية على مدار عقود طويلة.
ومسك الختام في هذا المقال، ما أورده الداعية الحبيب علي الجفري، عبر حسابه الشخصي على موقع تويتر، عن مسلسل «الاختيار»، بعد مشاهدته بعضاً من حلقاته، قائلاً: «لست ممن يرى حث الناس على متابعة المسلسلات في شهر رمضان الكريم، ولكن إن فعلتُ، فسيكون مسلسل الاختيار دون تردد.. رحم الله المنسي والرجال الذين قضوا معه، وكل من قدم روحه لنصرة الحق، وتقبلهم في الشهداء، وبارك في ذرياتهم وذويهم، وشفّعهم فيهم، وحفظ الله مصر وسائر بلادنا».. آمين.