((كورونا)) يعيد رسم خارطة العالم
علامة استفهام واحدة تُطرح على كافة الألسنة من جراء وباء (كورونا) المُستجد: ما شكل العالم الذي ستشرق عليه الشمس في اليوم التإلى للإعلان عن زوال خطر هذا الفيروس القاتل، الذي أرعب البشرية وجعل من نهارها قلق، وليلها أرق؟.. الجواب سوف تظهره المؤلفات اللاحقة عن عالم ما بعد (كورونا)، والبداية عند الإنسان، الذي بلغ به الغرور والتكبر أن اعتبر نفسه سيد الكون، والمسيطر على الطبيعة، وجاء فيروس غير مرئي ليعيده إلى رشده من جديد، وليكسبه شيئًا من التواضع الذي تناساه، عله يعيد حساباته، قبل أن تثور الطبيعة مرة جديدة وتسحقه وتمحقه إلى الأبد.
يعتبر (كورونا) أكبر أزمة عالمية في هذا القرن، فتهديدها صحة أكثر من 7.8 مليار إنسان على وجه الأرض، ينبئ بأزمة اقتصادية كبرى، وسوف تشرق شمس ما بعدها لتعيد ترتيب الأهميات الإنسانية.. وأول ما يتوجب أن يوضع في المراتب الأولى، العلم والعلماء، عل البشرية تجد عندهم الشفاء العاجل.. سوف تكون الأولوية في العقود القادمة لصالح البحث العلمي، لا سيما المدني منه الذي يخدم الإنسان، فقد علمتنا التجربة أن مخزونات الأسلحة الذرية والهيدروجينية وغيرها، لم يُقدّر لها أن تهزم فيروس متناهي في الصغر والخبث معًا، ولو أنفقت نسبة ضئيلة من الذي تم إنفاقه على الأبحاث العسكرية، لربما تجنب العالم كارثة إطالة فترة البحث عن حل لهذا الفيروس القاتل.
ويبرز السؤال: هل قرب (كورونا) بين شعوب العالم أم باعدت بينهم؟
في ستينيات القرن الماضي، قال عالم الاجتماع الكندي الشهير (مارشال ماكلوهان) إن العالم بات قرية صغيرة، واليوم يمكننا القطع بأنه أضحى حارة أصغر من القرية، حارة في العالم الافتراضي الذي يعيش الناس حبيسي منازلهم وراء شاشاته، ولولاها لماتوا من الضجر قبل أن يهاجمهم الفيروس الخبيث.. قرب (كورونا) الناس في ألمهم وحلمهم الوحيد، ولعلهم يتساءلون ــ بعد العاصفة ــ عن معنى ومبنى إنسانيتهم الواحدة المتألمة معًا، والمتطلعة أيضًا معًا في الخلاص والنجاة، إن لم تكن آفة النسيان هي ملامح ومعالم تلك الحارة من جديد.. لكن المؤكد أن شمس عالم ما بعد (كورونا) ستشرق على أفق جديد متعدد الأقطاب، سيولد من رحم (كورونا)، وبمشاهد ومعالم لا تزال تتخلق في جوف الأزمة وغياهب الجب.
من الصور المتوقع إعادة تقدير موقفها، مسألة الدولة القومية القوية، في علاقتها مع حديث العولمة، فقد أثبتت التجربة أنه من غير اعتماد على أنظمة قومية داخلية قوية، وبنية هيكلية رصينة ومتقدمة، اقتصاديًا واجتماعيًا، عسكريًا وأمنيًا، تصبح الدول في مهب الريح، وما جرى في إيطاليا مثال على تخلي الاتحاد الأوربي ــ رمز العولمة ــ عنها، فيما دول أخرى استطاعت الصمود نظرًا لأن جذورها قوية وقادرة بنفسها على قيادة وريادة شعوبها إلى بر الأمان، ومن بينها بلدنا مصر.. وتصبّ معظم التوقعات، لعالم ما بعد (كورونا)، في أن الولايات المتحدة ستفقد موقعها في الزعامة العالمية، وستبرز الصين بديلًا.. ولم يكن من باب الصدفة، أن يستخلص شيخ الدبلوماسية الأمريكية هنري كيسنجر، أن (عالم ما بعد (كورونا) لن يكون مثل ما قبلها)، ولن تكون أمريكا بعد اليوم القائد الدولي الأزلي، بسبب المصلحة الذاتية الضيقة لحكومتها وعدم كفاءتها في ادارة الأزمة.. فقد اهتمت بنفسها فقط، فخسرت اختبار القيادة.. ولم يكن غريبًا أن يخرج عالم الاجتماع الفرنسي (آلان توران) عن صمته بالقول: (لقد انسحبت الولايات المتحدة من لعب دور زعيم العالم).
يتوقع ريتشارد هاس، رئيس مركز العلاقات الخارجية في واشنطن، تحوّل معظم الحكومات حول العالم إلى الداخل وتحركها نحو الاكتفاء الذاتي.. وستتزايد المعارضة للهجرة وتتراجع الرغبة في معالجة المشاكل الإقليمية والعالمية والالتزام بها، نظرًا إلى الحاجة لتكريس الموارد من أجل البناء الداخلي في كل دولة والتعامل مع العواقب المترتبة على الأزمة الاقتصادية.. ويبدو أن العالم، في هذه اللحظة المفصلية، في مسيس الحاجة إلى أن يجعل من التعاون الدولي المشترك حجر الزاوية، التي يتأسس عليها نظام يتسم بالمصداقية والقدرة علي الاستجابة السريعة للأزمات والكوارث، خاصة الأوبئة، نظام ينظر إلى الحياة والإنسان والبيئة برحمة ورفق، وفق منطلق كوني يجنح به نحو غايات أسمى وأرقى.
الحقبة التاريخية التي نحن فيها صارت تُملي ضرورة إصغاء الحكام للعلماء، أو على الأقل، كما قال الفيلسوف الألماني هابرماس 10 أبريل الجاري، أن على الحكام (اتخاذ قرارات بوعي واضح بحدود معرفة علماء الفيروسات الذين يقدمون لهم المشورة).. أما المجال الثاني فهو مجال الأخلاق، أي أخلقة مجال البحث العلمي والطبي ذاته، وتطهير العلوم من المافيات المتاجرة بأرواح البشر، وجعله تحت توجيه النُخب العالمة التي تراعي كرامة الإنسان وتحرص على حق الأرض والبيئة في العيش في طُهرانية.. صحيح أن الانعكاسات الوخيمة التي خلفها وباء (كورونا) في المجال الصحي قد تكون مؤقتة، إلا أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية المتمخّضة عنها ستستمر لأجيال متتالية، وهي إشارة مضمرة إلى ما سيعرفه نظام العولمة من شروخات وتناقضات ستشكل وقودًا لحزمة من التحولات، ليدخل العالم في حقبة تاريخية جديدة من غير المنتظر أن تكون على المدى الراهن، بل ستمتد على مدى عقود، وسيكون للشرق نصيبه في هذه التحولات.. أما المجال الأخير لتغيرات ما بعد (كورونا)، فهو التعليم، حيث سيسرع الوباء عملية تطبيق التدريس عبر الإنترنت والتعليم عن بعد، بعد أن تغلب الابتكار التقني على الحواجز المكانية في مجال التعليم، وصارت التكنولوجيا تلعب دورًا أهم في مواجهة أزمة الصحة العامة.
قد يعترض معترض أن حدث (كورونا) لم ينضج بعد، وبالتالى ينبغي التسلح بالحذر والتأني وعدم الوقوع في القراءات المتسرعة.. كما قد يقول البعض أن هذه الكارثة التي حلت بالبشرية مجرد أزمة عابرة ستنقشع بعد حين، وستسترجع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عافيتهما، وتعود الأمور إلى طبيعتها، ويعود النظام العالمي بخريطته الجيو ــ سياسية كما كانت تحت الهيمنة الأمريكية.. ويرى آخرون أنه لا دليل على تلك الأمنيات.. لكن الحقائق التاريخية تقودنا إلى إدراك أن الأوبئة شكلت بامتياز نقطة تحول في تاريخ البشرية، فكانت وراء قيام وسقوط إمبراطوريات وحضارات، وانتقال من حقبة تاريخية إلى أخرى.. وحسبنا أن وباء الطاعون الأنطوني، اجتاح الإمبراطورية الرومانية في عهد ماركوس أوريليوس، ما بين عامي 165 و190 ميلادية، قبل أن ينتقل بسرعة جارفة إلى مختلف أرجاء أوروبا، ويؤدى إلى إنهاك القوة العسكرية الرومانية، وتسهيل سقوطها على يد القبائل الجيرمانية، وساهم طاعون جُستنيان (نسبة إلى الإمبراطور البيزنطي جُستنيان) في تحولات تاريخية هزّت أركان الإمبراطورية البيزنطية وعجّل بنهايتها، وبداية ميلاد حقبة الحضارة الإسلامية الفتية التي ورثت مجد البيزنطيين، كما يذهب إلى ذلك هنري بيرين.. والقول ذاته يصدق على الطاعون الأسود المرعب الذي ضرب أوروبا وعددًا من أنحاء العالم في القرن الرابع عشر الميلادي، وأثبت عدم قدرة السلطات المكونة من النبلاء وأمراء الإقطاع على التصدي له، فكان هذا العجز إعلانًا عن إفلاسها وعن إفلاس نظام الإقطاع، ومن ثم كان ميلاد حقبة النهضة الأوروبية والاكتشافات الجغرافية، وما نجم عنهما من دعوة إلى التحرر من رجال الدين، وشيوع العقلانية الأوروبية، ومن ثم الدخول إلى عصر تسيّدت فيه المنظومة الرأسمالية والحرية الليبرالية.
وبعد.. وكما هو الحال دائمًا، التاريخ يكتبه (المنتصرون) حتى في أزمة كوفيد ــ 19.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.