البقرة التى «لوَّثت» مجرى النهر
تصفيق حاد، استمر طويلًا، حتى تردد صداه بين أروقة البرلمان الإثيوبى عام ٢٠١٦، كان كافيًا بأن ندرك أن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، قد أفلح فى إقناع الإثيوبيين بضرورة أن يكونوا فى ركب إسرائيل، بعد أن مناهم بالسمن والعسل، والمستقبل الزاهر لبلادهم، إذا هى سارت فى ركاب تل أبيب، فهذا المبشر القديم الجديد، الذى حط رحاله فى بلادهم، أبدى استعداده لتخلى إسرائيل عن تفوق بقرتها فى إدرار اللبن ومكانتها عالميًا، لتحل محلها البقرة الإثيوبية، بعد أن أعلن عن دعم بلاده إثيوبيا للاستفادة من مواردها المائية فى تطوير الزراعة من خلال التكنولوجيا الإسرائيلية، قائلًا: «إسرائيل ستدعم أديس أبابا، لتمكن إثيوبيا من الاستفادة من مواردها المائية فى تطوير الزراعة من خلال مدها بالتكنولوجيا.. وأرى أن أديس أبابا تنتهج الطريق الصحيح فى التنمية، وسنعمل على دعمها وتعزيز المشاريع التنموية فى البلاد».
ربما قصد نتنياهو بالطريق الصحيح، ما تقوم به إثيوبيا فى سد النهضة، لكنه لم يذكر ذلك صراحة.. بعدها دشنت إسرائيل مشروعات زراعية مشتركة، إلى جانب وجود ٢٤٠ مستثمرًا إسرائيليًا، فيما يبدأ توليد الكهرباء من السد بعد افتتاح المرحلة الأولى مباشرة. فضلًا عن تنفيذ مشروعات رى ضخمة من خلال المياه الإثيوبية، بعد إتمام بناء السد، وتمويل بـ٢٠٠ مليون دولار لتطوير أنظمة الرى.. ذلك كله قبل أن يكشف هيلاوى يوسف، السفير الإثيوبى السابق فى إسرائيل، عن أن شركة الكهرباء الإثيوبية وافقت على اختيار شركة كهرباء إسرائيل لتولى إدارة توليد ونقل وتوزيع وبيع الكهرباء المولدة من السدود فى بلاده، بما فى ذلك تقديم الاستشارات والإدارة لمشروعات إنشاء محطات طاقة جديدة، ستقام على النيل الأزرق.. وهى التى ستدير الكهرباء من مجموعة السدود المقرر إقامتها فى إثيوبيا، وأنها ستكون المتحكمة فى بوابات تلك السدود من فتح وإغلاق حسب متطلبات توليد الكهرباء.
فى مذكراته، كتب رئيس الوزراء الإسرائيلى الأول، ديفيد بن جوريون، عن أهمية العلاقات بين إسرائيل وإثيوبيا، وأهمية أن تكون هذه العلاقات علنية، على أساس أنهما «الأمتان غير الإسلاميتين الوحيدتين على البحر الأحمر»، وبنفس المنطق تحدث نتنياهو أمام البرلمان الإثيوبى.. تحدث عن أن الدولتين الوحيدتين اللتين يعيش فيهما المسيحيون حياة مزدهرة هما إسرائيل وإثيوبيا، بينما يُذبحون فى بقية دول المنطقة على أيدى تنظيم داعش.. وفى خطابه الذى لم يتجاوز الـ١٣ دقيقة، جاء أخطر ما قاله لأعضاء البرلمان: «نعمل معًا من أجل أن تصب المياه فى أى اتجاه تريدون، ولتقليل المياه المهدرة»، كما ربط نتنياهو هذه القضية بالحياة اليومية للمزارع الإثيوبى قائلًا: «ستكون هناك مياه أكثر للاستخدام الشخصى وللحقول، التى ستنتج محصولًا أكبر، ستزداد الحيوانات والأبقار التى تنتج الألبان بكميات أكبر».. حديث يسيل له لعاب من كان محرومًا من التنمية، ويمثل تدشينًا لمرحلة جديدة، ليس فقط من العلاقات الإسرائيلية- الإفريقية بشكل عام، أو الإسرائيلية- الإثيوبية بشكل خاص، وإنما أيضًا يدشن لمرحلة جديدة من مراحل حرب المياه فى المنطقة، مرحلة تتسم بما يعرف بـ«سياسة اللعب على المكشوف». وفى العاصمة الأوغندية عنتيبى، التقى رئيس مجلس السيادة الانتقالى السودانى الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، قال عنه البرهانى: «قمت بهذه الخطوة من موقع مسئوليتى، لحفظ وصيانة الأمن الوطنى السودانى وتحقيق المصالح العليا للشعب السودانى».. وكان ذلك بعد إعلان السودان أن وزير الخارجية الأمريكى، مايك بومبيو، دعا البرهان لزيارة رسمية إلى واشنطن لبحث العلاقات الثنائية، وهى الدعوة الأولى التى يتلقاها رئيس سودانى منذ ثلاثة عقود، فى ضوء وضع الولايات المتحدة الأمريكية للسودان على لائحتها للدول التى تصفها بأنها «راعية للإرهاب»، وهو وضع موروث من نظام البشير الذى استضاف زعيم تنظيم القاعدة السابق، أسامة بن لادن، خمس سنوات، فى تسعينيات القرن الماضى. ربما كانت هذه إضاءات لازمة، لإماطة اللثام عما وراء التصريح الذى نقلته وكالة الأنباء الإثيوبية، أوائل هذا الشهر، عن الأمين العام لهيئة الطاقة والتعدين والكهرباء والتنظيم السودانية، المهندس تيجانى آدم، من أنه يرى أن: «أصل النيل إثيوبيا، فدع شعبها يأخذ احتياجاته، والباقى للسودان ثم مصر.. أنا مسلم- هكذا يقول- وفى الإسلام يجب أن تبحث دائمًا عن مصلحة جيرانك، ولكن أيضًا لا تنسَ نفسك»، مضيفًا أن «تدويل قضية سد النهضة الإثيوبى الكبير لا يمكن أن يوقف المشروع، ولن يزيد ذلك إلا تعقيد الأمور وتأخير الحلول المتوقعة»، ولا أدرى أى إسلام يتحدث عنه، وهناك من هم مهددون بالعطش؟!.. كما توضح دوافع السودان الذى أبدى تحفظه على مشروع القرار الخاص بسد النهضة الذى أدرجته مصر فى أعمال المجلس الوزارى لجامعة الدول العربية، بحجة أن «مشروع القرار لا يخدم روح الحوار والتفاوض الجارى برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولى بواشنطن، للوصول لاتفاق بين الدول الثلاث، حول عملية الملء والتشغيل».. وربما وضعت النقاط فوق حروف تعثر مفاوضات السد، بعد أن انسحبت أديس أبابا من توقيع الاتفاق النهائى فى واشنطن.
فى أزمة سد النهضة.. لم تطلب مصر إلا احترام حقوقها والالتزام بالمواثيق وقواعد القانون الدولى، اعترفت بحق الجميع فى التنمية، وفتحت الأبواب أمام تعاون يصبّ فى مصلحة كل شركاء التاريخ والمصير على نهر النيل.. أصرّت على التفاوض- وما زالت- سبيلًا للوصول إلى تفاهمات تحقق مصالح كل الأطراف.. طالبت- منذ البداية- بوجود أطراف دولية مستقلة فى المفاوضات لتكون قواعد القانون الدولى هى الحاكمة.. فما الذى يدفع إثيوبيا نحو لعبة إضاعة الوقت أو محاولات فرض الأمر الواقع التى لا يمكن أن تُجدى فى قضايا تمسّ حياة الشعوب؟.. لكن لو لم تكن أديس أبابا تدرك جيدًا محدودية الضغط الأمريكى المتوقع عليها، وتطمئن إلى أن إسرائيل ظهير لها، ما أقدمت على خطوة الانسحاب، وما كشفت عن موقفها الحقيقى الرافض أى التزام أو اتفاق يقيدها بأى درجة، ثم إعلان التحدى بهذه اللهجة الخشنة، ومع هذا- وهو الأخطر- أن إثيوبيا تُصدّر صورة مغلوطة لمواطنيها وللرأى العام، بأن مصر تحاول الاستئثار بمياه النيل، مع أن الاتفاق الإطارى بين مصر والسودان وإثيوبيا، الموقع بالخرطوم فى مارس عام ٢٠١٥، ينص على أنه «فى حال تعثر المفاوضات يمكن اللجوء إلى الوساطة».. وقد استضافت العاصمة الأمريكية واشنطن فى نوفمبر الماضى مفاوضات بوساطة من البنك الدولى ووزارة الخزانة الأمريكية، بين دول حوض النيل الثلاث.
وبالرغم من كل المماطلات الإثيوبية، فإن مصر ما زالت متمسكة بحبال الصبر، وتستبعد- ما يراه البعض حلًا للأزمة- اللجوء إلى الخيار العسكرى، وهو ما عبر عنه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى أكثر من مناسبة، لأن مصر تُعول دائمًا على الحلول السلمية والدبلوماسية لمشكلة سد النهضة.. لكن هل سيظل هذا الخيار مستبعدًا تمامًا، فى حال تعرض مصر للجفاف، نتيجة حجز المياه خلف بحيرة سد النهضة الإثيوبى؟.. الواقع العملى يشير إلى عدم إمكانية حدوث ذلك، ولكن..
النيل ليس مجرد ماء يجرى على الأرض، إنه طفولة وشباب المصريين، بل إنه الحياة نفسها، وهو لا ينبع من هضبة إثيوبيا، بقدر ما ينبع من شرايينهم ويصب فى قلوبهم، وبالتالى يفدونه بدمائهم.. وليعلم الجميع أنه لا أحد يقدر على مصر، حتى فى أحلك ظروفها.. لأنها كلمة الله التى ألقاها على هذه الأرض، وقال لها كونى، فكانت «مصر».. والتى قال عنها رمسيس الثانى فى وصاياه إلى ابنه مرنبتاح «مصر أرض لا تموت، وشعب لا يندثر».. فلا تختبروا صبرنا كى لا تروا بأسنا.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.