من الجحور إلى القصور.. أيام فى الذاكرة
بالرغم من دهائها الذى اكتسبته فى دهاليز السياسة الأمريكية، ومع أنها كانت وزيرة لخارجية بلادها، إلا أن هيلارى كلينتون لم تعرف طبيعة الشخصية المصرية الوطنية، ولم تكن على دراية بما يمكن أن تؤول إليه مصر بعد أحداث يناير ٢٠١١.. جل ما كانت تراه، هو ما قالته لأوباما، الرئيس الأمريكى وقتئذ، وكما أثبتته فى كتابها «خيارات صعبة»، «إنه لو سقط مبارك، فأعتقد أن كل شىء يمكن أن يسير على ما يرام خلال ٢٥ عامًا.. لكننى أعتقد أن الفترة من اليوم وحتى نهاية هذه الأعوام، ستكون شديدة الاضطراب بالنسبة للشعب المصرى وللمنطقة ولنا»..
هذا لأن الواقع، ساعتها، كان يقول إن حسنى مبارك حكم مصر كفرعون صاحب سلطات مطلقة لما يقرب من ثلاثين عامًا، إلى درجة أن مصر التى كانت تعرف فيما مضى بأنها سلة غلال العالم القديم، قد تحولت تحت حكمه إلى دولة تصارع من أجل إطعام شعبها، وصارت أكبر مستورد للقمح، وقد بات من الصعب على مبارك بعد حراك الشارع أن يثبت أنه قد استمع للشعب بعد ثلاثين عامًا.. فحجم الاحتجاجات فى التحرير قد ملأ الشباب المصرى بالرغبة فى الحرية، وهو الشعور الذى تعاطف معه العديد من أقرانهم حول العالم، وقد انجرفوا وراء موجة الدراما والمثالية التى فجرتها اللحظة، وهم يتابعون مشاهد من ميدان التحرير، وشعورهم بتوحدهم مع المطالب التى أظهرها المتظاهرون الشباب فى مصر.. التأثر لمشهد شعب طال قمعه، ينتفض ليطالب أخيرًا بحقوقه.
ولكن للأسف، بقيت «فورة» يناير، فى النهاية، مظاهرات بلا قائد، تحركها دعوات وسائل التواصل الاجتماعى والدعوات الشفهية، وليس حركة معارضة منظمة متماسكة.. لأن سنوات طويلة من حكم الحزب الواحد فى مصر، تركت المتظاهرين غير مجهزين تجهيزًا جيدًا لخوض انتخابات مفتوحة، أو بناء مؤسسات ديمقراطية راسخة.. وعلى العكس منهم، كانت جماعة الإخوان قد وضعت نفسها لاستغلال الفرصة وسد الفجوة التى قد تنتج عن سقوط النظام.. ولو كنت سألت أحدًا من المتظاهرين والنشطاء، الذين لعبوا أدوارًا أساسية فى المظاهرات، عن خططهم للانتقال من المظاهرة إلى السياسة، وكيف يخططون للتأثير فى كتابة الدستور الجديد والمنافسة على مقاعد البرلمان فى الانتخابات المقبلة، لوجدت أمامك مجموعة غير منظمة وغير مستعدة لخوض أى انتخابات ولا التأثير فى أى شىء.. لم تكن لديهم أى خبرة فى السياسة ولا أى فهم لكيفية تنظيم الأحزاب والحملات الانتخابية، ولم يظهروا حتى أى اهتمام بذلك، وانشغلوا بدلًا من ذلك بالجدل فيما بينهم.. بالتأكيد كنت ستشعر بالقلق، وتدرك أن الحال تنتهى بهؤلاء الشباب إلى تسليم البلاد للإخوان!.. وهو ما حدث فيما بعد.
كيف نكون على الجانب الصحيح من التاريخ؟.. كان ذلك هو السؤال الذى فجره ما أُطلق عليه فيما بعد «الربيع العربى»، وانشغل به رأس الدولة ساعتها، المشير حسين طنطاوى، وزير الدفاع الأسبق، الذى تعهد بالإشراف على انتقال سلس للسلطة إلى حكومة مدنية منتخبة ديمقراطيًا.. المشير كان مجهدًا، وكان المجلس العسكرى فى حالة انعقاد دائم.. فالوضع خطير والبلد على المحك، لكنه جندى محترف، وضابط ملتزم بقومية بلاده، شديد الإخلاص لعقيدة مؤسسة الجيش التى تخرج فيها.. كان فى موقف صعب، يحاول فيه الحفاظ على جيشه، وأن يحمى الشعب كما تعهد بذلك.. وقد حافظ على وعده بإجراء الانتخابات، وعندما خسرها المرشح أحمد شفيق، بفارق ضئيل لصالح مرشح الإخوان محمد مرسى، حافظ المشير على نتائج الانتخابات، التى جاءت بمرسى، وكأن «التاريخ قذف بهذا الإخوانى من غرفة خلفية إلى كرسى كبير»!، مما جعل النظرة إلى أغلبية المصريين الذين صوّتوا لمرسى تحمل الكثير من الاستخفاف بخيارات هذا الشعب وقتها، لكن بعض هذا الشعب كان واقعًا تحت وطأة الشعور بـ«المظلومية»، التى روجتها الجماعة لنفسها، كوسيلة للضغط النفسى على الآخرين، ثم ما انفكّت تستحضره فى أعقاب أى مواجهة لهم مع الدولة، فيأخذون فى التباكى والنواح وإظهار مظلومية خادعة للترويج العاطفى معها، وتعبئة الرأى العام باستغلالها مشاعره.
تؤمن الجماعة الإرهابية بأنه «يجب على الإخوانى أن ينصب شبكته كالعنكبوت، ويفعل كل الأشياء ويتبع كل الطرق من أجل الوصول إلى الهدف، ثم يصبر لحين تسقط الحشرات فى شبكته»!.. وعليه، فبمجرد أن جاء مرسى للحكم تصادم كثيرًا مع القضاء، وسعى إلى تهميش خصومه السياسيين، بدلًا من بناء توافق وطنى واسع، ولم يقم بما هو فاعل لتحسين الاقتصاد، وسمح باضطهاد الأقليات، بما يشمل المسيحيين الأقباط، أو كما أكدت مجلة Foreign Policy، أن «مرسى اختار أن ينتصر لجماعته، ولجأ إلى خطاب شعبوى غايته الاستقطاب السياسى، وخلق حالة من عدم الثقة أدت إلى شلل مصر عن الحركة، فلم يدرك مرسى أن المعارضة المجتمعية لها دور فى بناء الديمقراطية، بل سعى إلى تقزيمها وتشويهها»، وتحوّلت الرابطة التنظيمية والتربية الدينية لدى الجماعة إلى شعور بالتمايز والتفوّق على الآخرين، فيما تحوّلت الطاقة الدينية، التى حافظت على تماسكها حين كانت فى المعارضة، إلى طاقة كراهية وتحريض على المنافسين والخصوم، وتسببت بانغلاق الجماعة وعزلتها عن باقى المجتمع، بالإضافة إلى أن الجماعة غابت عنها أى أجندة وطنية بعد ٢٥ يناير، وغابت عنها البرامج، سواء فى مجلس الشعب أو الشورى، ولم تكن الأولويات عندها واضحة.. لقد سارت الجماعة عكس الطريق الذى كان يجب أن تسير فيه بعد وصولها إلى السلطة، وأخذت البلاد كلها نحو الهاوية.. وكانت ثالثة الأثافى، ما أوردته كلينتون فى كتابها، «فى أول تماس لى مع مرسى سألته: كيف ستتعاملون مع تنظيم القاعدة فى سيناء الذى يعمل على زعزعة حكومتكم؟، فرد علىَّ: ولماذا يزعزعها وهى حكومة إسلامية»!.. وقتها رأت كلينتون أن مرسى، «إما أن يكون هذا تقييمًا ساذجًا منه، أو أنه شخصية صادمة وشريرة»، ويشكك البعض فى رواية هيلارى عن تحالفها مع جماعة الشيطان: «کنا على اتفاق مع إخوان مصر على إعلان الدولة الإسلامیة فى سیناء فى الخامس من يوليو ٢٠١٣، وانضمام حلایب وشلاتین إلى السودان، وفتح الحدود مع لیبیا من ناحیة السلوم، وکنا ننتظر الإعلان لکی نعترف نحن وأوروبا بها، بعد أن زرت معظم دول العالم لشرح الموقف الأمریکى من مصر، وتم الاتفاق مع بعض الأصدقاء على الاعتراف بـالدولة الإسلامیة فور إعلانها.. وفجأة تحطم کل شىء».
نعود إلى مجلة Foreign Policy التى رأت أن «الشعب المصرى تأكد من أن وعود الرئيس الإخوانى غير قابلة للتحقق، وطريقة محاورته لخصومه السياسيين تنم عن نوع من التعالى، ليتسبب فى إهدار فرصة التوافق السياسى فى وقت مناسب، ويضع مصر على حافة الحرب الأهلية والصراع العنيف بين مختلف الأطراف»، فكان قراره- أى الشعب- بعزل مرسى من الحكم، فى تحرك شعبى غير مسبوق شهدته البلاد، بعد حالة رفض واسعة لحكم جماعته.. فكان خروجًا شعبيًا واسعًا توافق على خريطة طريق بديلة، دون أن يمتلك الأدوات لتنفيذها، وهنا جاء تدخل الجيش، ليكون جسر النجاح لهذه الملايين كى تحقق هدفها وهو التخلص من حكم جماعة، جاءت برغبة الانتقام من مصر بعد وصول أتباعها إلى السلطة، لكنها فشلت فشلًا ذريعًا.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.