أكذوبة المليون تركى فى ليبيا
«تتوالى وقائع التاريخ، محملة بالفضائح والمآسى والحروب، والأقوام الذين تقاتلوا وتصارعوا قبل أن يُبادوا.. تتوالى مظاهر العظمة والجنون، النزوات والمجازفات والبطولات الزائفة.. ويربض المؤرخ خلف الوقائع، يعيد قصة الخليفة على شاكلته».
سطور جاءت فى توطئة محمد المنسى قنديل، لكتابه «لحظة تاريخ»، التى عنونها، بـ«من أين ينبع نهر الزمن العربى؟».. وفيه يؤكد أن المؤرخ ابن إياس «استيقظ مذعورًا على دوى مدافع بن عثمان، ودخل جنود الترك المدينة (يقصد القاهرة)، ليعلقوا المشانق على أقدم بواباتها؛ باب زويلة، ويشنقوا عليها آخر سلاطين المماليك؛ طومان باى، ثم يُعملوا النهب والسلب فى الأهالى، كأنهم كفرة مارقون وليسوا مسلمين يشاركونهم نفس الدين.. وامتدت السرقات حتى شملت قطع الفسيفساء التى تكسو جدران المساجد والقصور والأسبلة.. حُرمت القاهرة من كل مُتنفس للجمال، ورَحّلَ العثمانيون كل العمال المهرة إلى إسطنبول، فانقطعت عن مصر سبع عشرة صنعة، ولم يعد منهم صانع واحد، انتهى». وفى الآونة الأخيرة، تداول نشطاء ليبيون، مقطع فيديو للراحل معمر القذافى، يحذر فيه الشعب الليبى، من عودة وتكرار تجربة الاحتلال العثمانى لليبيا مرة أخرى فى المستقبل، حيث أكد القذافى فى خطاب قديم له: «أن الدولة العثمانية باعت ليبيا للإيطاليين، مقابل جزيرة فى بحر إيجه عام ١٩١٢م»!.. وكان هذ وراء تصديه- أى القذافى- لأطماع الأتراك بالتوسع فى بلاده، بعد ثورة الفاتح التى قادها، ورغم محاولات أنقرة إبرام تحالفات خفية مع عدد من المسئولين فى نظامه، إلا أنها فشلت، مما دفعها للجوء إلى اختراق بلاده اقتصاديًا، عبر جماعة الإخوان الليبية.
التاريخ يحكى كيف بدأت الأطماع التركية فى ليبيا منذ عقود، بدءًا من احتلال العثمانيين للأراضى الليبية عام ١٥٥١م، ونهب ثرواتها وفرض ضرائب كبيرة على شعبها، وشهدت فترة الاحتلال هذه أحداثًا، هى الأسوأ على مدار التاريخ، أهمها جريمة قتل العثمانيين لما يُقارب عشرة آلاف من أبناء قبيلة «الجوازى» الليبية، وتشريد المئات منهم، وتهجير مليون ونصف المليون إلى مصر.. وربما فسرت لنا هذه المذبحة، مهمة الضابط مصطفى كمال أتاتورك فى ليبيا وقتذاك، والتى أشار إليها أردوغان فى تصريحه: «سنضحى بأرواحنا فداء ليبيا، فهى بالنسبة لنا إرث مصطفى كمال، الذى أدى خدمات جليلة بها بصفتة ضابطًا عثمانيًا.. فلا يجب أن ننسى كفاح مؤسس جمهوريتنا فى ليبيا.. وطالما ليست لدينا علاقة بليبيا، إذًا عن ماذا كان يبحث مصطفى كمال هناك؟، وما الحرب التى كان يخوضها مضحيًا بحياته؟»!.
حقيقة أطماع أردوغان تتلخص فى أن أرض ليبيا لم تبح بكامل ثرواتها بعد، وتمنحها جغرافيتها موقعًا استراتيجيًا، تُمكن من يُملى عليها نفوذه، أن يؤثر فى صانع القرار داخل أوروبا، وإعادة إعمار ما تهدم منها، غنيمة اقتصادية، يسيل لها لعاب الخليفة الواهم.. لكن فى ليبيا جيش حق يدافع عن ميراث المجاهد عمر المختار، يقوده المشير خليفة حفتر، و«بلفور جديد» يدعى فايز السراج، متحصنًا بشرعية منقوصة، نالها فى زمن اختلت فيه المعايير، واختلط فيه الحق بالباطل، بعدما دمر الناتو الأخضر واليابس.. وأمام الانتصارات المتتالية التى يحققها الجيش الوطنى الليبى فى ميادين الحرب على الإرهاب، واقترابه من استعادة طرابلس وتحريرها من قبضة الميليشيات التى تنفذ المخطط التركى، وتحمى ما يعرف بـ«المجلس الرئاسى» الذى يقوده السراج، كان طبيعيًا أن يتحرك أردوغان لإبرام اتفاقيته المشبوهة.
تركيا تستدعى أحداث الماضى لاحتلال ليبيا، ويبرر أردوغان رغبة حكومته فى إرسال دعم عسكرى إلى حكومة الوفاق فى طرابلس، بزعمه وجود مليون تركى فى الأراضى الليبية!، قائلًا «إن تركيبة ليبيا السكانية تحوى مليون نسمة من أصول تركية».. تصريح يحمل جانبًا ضعيفًا من الحقيقة، محفوفة بمبالغات ضخمة، لكن علينا تأطير تصريح أردوغان فى خانة محاولة إثارة الفتنة بين أبناء الشعب الليبى، وضرب نسيجه الاجتماعى، ليهيئ أرضًا صلبة يقف عليها جنوده عندما يرسلهم إلى ليبيا، وخلق مؤازرين لهم داخلها، وهى محاولة، كما يقول الصحفى الليبى مراد الريانى: «لن تجدى نفعًا، لأسباب بسيطة: هى أن الليبيين من أصول تركية اندمجوا فى المجتمع، بالمصاهرة والمعاشرة وطول المقام، وهم يعيشون حياتهم كليبيين فى بلادهم، وليس كأتراك يقيمون فى ليبيا.. وأكبر دليل على ذوبان واندماج العرق التركى فى ليبيا، هو أنك لم ولن تشاهد واحدًا منهم يُظهر يومًا، مظهرًا واحدًا من مظاهر الثقافة التركية، فى أى مناسبة كانت».
هناك فعلًا ليبيون من أصول تركية. فعندما دخلت الدولة العثمانية إلى ليبيا، بدأ الأتراك بالهجرة إلى المنطقة، وتزوج كثير من الجنود بنساء ليبيات، عُرف أطفالهم باسم «كول أوغلى»، وتطورت التسمية عبر الزمن إلى «الكراغلة»، وهى قبيلة معروفة فى ليبيا، يُنسب أبناؤها إلى الأصل التركى.. ومن بين الوجوه البارزة فى المشهد الليبى الحالى، التى تعود أصولها إلى قبيلة الكراغلة، رئيس الوزراء فى حكومة الوفاق فايز السراج، ووزير الداخلية فتحى باشا أغا، وينتمى الاثنان إلى عائلات امتهنت التجارة منذ عقود، الأولى، وهى عائلة السراج تستوطن طرابلس منذ أكثر من قرن، بينما استوطنت عائلة باشا أغا فى مصراتة، ومعروف تقارب هاتين الشخصيتين من أنقرة منذ توليهما مهامهما، وتآمرهما معها، على من يُفترض أنهم أبناء شعبهم من الليبيين، وإلى جانبهما، يصطف على الصلابى، الإخوانى والذراع الإرهابية لدويلة قطر.. ويبقى السؤال: ما أعداد أصحاب الأصول التركية، وتوزيعهم الجغرافى فى البلاد؟، وما موقفهم فى الأزمة؟ ومع مَنْ يصطفون فى الصراع الدائر منذ سنوات؟.
لا يمكن الجزم بالأعداد الدقيقة لليبيين من أصول تركية، لأن السلطات لم تضع فى آخر إحصاء سكانى لها، عام ٢٠٠٦م، المعيار العرقى ضمن إجراءاتها، والإحصاء الوحيد الذى أخذ بهذا المعيار، هو الذى أعدّته سلطات الاحتلال الإيطالى عام ١٩٣٦م، والذى قدر أعداد الليبيين من أصول تركية بـ٣٥ ألف شخص، عاش معظمهم «ثلاثون ألفًا»، فى ذلك الزمان، بمدن طرابلس على الساحل الغربى لليبيا، وتوزع الخمسة آلاف الباقية فى مدن الشرق، وتحديدًا بنغازى ودرنة.. وبالاعتماد على هذه الإحصائية، وبحساب يسير، فإن أعداد أبناء القبائل الليبية من أصول تركية، لا تزيد حاليًا على بضع مئات من الآلاف، يعيش معظمهم فى مصراتة وطرابلس، وباعتبار أن سكان ليبيا كان تعدادهم- وقت الإحصاء-٧٥٠ ألف نسمة تقريبًا، فإن الأتراك، المشار إليهم فى ذلك التعداد، يشكلون أقل من ٥٪ من سكان ليبيا، وليس سدس السكان، الذين بلغ عددهم حاليًا ستة ملايين نسمة، أى أقل بكثير من عدد المليون نسمة، الذى أشار إليه أردوغان فى خطابه.
صحيح أن الأصل التركى يُشكل حيزًا لا بأس به فى التركيبة الديموغرافية لمدينة مصراتة، شرق طرابلس، ألدّ أعداء الجيش الليبى، وأشرس المقاتلين له فى المعارك الحالية، ولكن ليس لأصول هؤلاء علاقة بهذا العداء.. فهذا العداء نابع من أسباب جهوية.. أهل مصراتة يحاربون الجيش تعصبًا لمصراتة وليس لتركيا، هذه حقيقة.. والدليل على صدقها أن «المصاريت» فى شرق ليبيا من أصول تركية قديمة، يحاربون مع الجيش لوجودهم فى الشرق.. إذًا، الجغرافيا والأيديولوجيا لهما دور كبير فى تحريك الصراع داخل ليبيا، ولكنه يبقى صراعًا غير عرقى، فى معركة يكتسب فيها الجيش الوطنى الليبى قوة متزايدة.. ومؤخرًا، بدأ البرلمان الليبى هدم المعبد على رأس السراج وحاشيته، بما يمثل فى مجموعه، ضربة موجعة لأردوغان، ومن خلفه تميم قطر.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.