«ممالك النار» يكشف أكاذيب دراما الخلافة العثمانية
تبدو أهمية الرواية التاريخية بأن من يحتكرها يحتكر حقيقة الماضى، ولذلك جاء تركيز حزب «العدالة والتنمية» التركى، ذى المطامح العثمانية، على المسلسلات التاريخية، فى محاولة لتجميل وإعادة تأريخ تلك الحقبة التى ارتبطت فى ذهن المواطن العربى بالاستعمار التركى القائم على شعارات دينية.
كانت شبكة MBC الفضائية، فى وقت مضى، نقطة لعبور المسلسلات التركية للمشاهد العربى بعد دبلجتها إلى العربية، مما حوّل إنتاج هذه المسلسلات الموجهة للعرب إلى صناعة، تدر على تركيا مليارات الدولارات، وصلت عائداتها فى عام ٢٠١٧ إلى ما يقارب ٣٥٠ مليون دولار، ما جعل الحكومة التركية تشدد على دعم هذه الصناعة، دعم لم يتوقف عند الأسباب الماديّة فحسب، بل تجاوزها لأسباب أيديولوجية بعد تفرد حزب العدالة والتنمية بالحكم، وهو ما ظهر فى تصريحات الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، الذى انتقد من قبل مسلسل «حريم السلطان» لأنه «تشويه لتاريخ الخلافة العثمانية وسلاطينها»، بإظهاره الشخصية الإنسانية للخليفة، بعيدًا عن الصورة الأسطورية والمثالية التى يحاول الفن الموجه والمسيس توصيلها.
تركيا التى دخلت إلى الشاشة العربية، عبر مسلسلات حداثية رومانسية مثل مسلسل «نور ومهند» و«سنوات الضياع»، وغيرهما، حققت لها عوائد اقتصادية ضخمة، وكانت من أهم عوامل الجذب السياحى إليها، عمدت فى السنوات الأخيرة، إلى التركيز على المسلسلات التاريخية، لتعيد رسم الصورة الذهنية للمواطن العربى عن الاحتلال العثمانى سيئ السمعة، واستبدالها بصورة أخرى مثالية، تجعل المواطنين العرب يحنُّون إلى تلك الأيام التى ساد فيها الأتراك عليهم لمدة أربعة قرون، نهبوا خلالها خيراتهم، فتفشى الفقر بين أممهم، وسادت الأمية، ودفع هؤلاء العرب وحدهم فاتورة الحروب العبثية للدولة التركية، بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى، فجاء غزاة آخرون، صهاينة وإنجليز وفرنسيون، فيما لا تزال تركيا الجديدة تحلم بإعادة الكرّة، للاستحواذ على الأمة العربية، من خلال قوتها الناعمة، وأبرزها المسلسلات التاريخية. لا جدال أن الدراما التاريخية تعد مصدرًا أساسيًا للمعرفة، ما يجعلها تحمل بين أحشائها خطورة، حال توظيفها لأغراض سياسية، تتلاعب بسياقات الأحداث السابقة لتغييب الذاكرة الآنية، لأن عقل الجمهور يربط تلقائيًا بالماضى وشخصياته مع قناعاته حول الحاضر.. ولذلك، فإنه بالكذب والاحتيال وتزييف الحقائق، حاول أردوغان أن ينتزع من الشعوب العربية انتصاراتها التى خلدتها كتب التراث، بهدف منح «آل عثمان» قيمة تاريخية «بالتزييف» وسيرة نضال «بالكذب»، من خلال مسلسل «قيامة أرطغرل» الذى اتخذ طابع الأعمال التاريخية، فنسج كاتبه تفاصيله من وحى خياله، كعمل درامى كبير، لا يغوص فى أعماق الأحداث لتعريف الأجيال بها، ولكن بتوظيف أحداث جرت فى السابق، فى الترويج لأفكار تخدم مشروع سياسى لسلطان جديد يحلم بإحياء الإمبراطورية العثمانية، لإعادة إنتاج عهد استعمارها للشرق الأوسط.. إذ يروى المسلسل قصة حرب والد مؤسس الدولة العثمانية كبطل، بصياغة مشاهد له، حاولت إقحامه فى صفحات التاريخ، والتأكيد أن أرطغرل شارك فى الحروب الإسلامية ضد الصليبيين، بالمخالفة لكل كتب التراث التى لم تذكر شيئًا عن تلك المشاركة المزعومة.. وفى الوقت الذى عمل صنّاع المسلسل فيه على إظهار الأتراك بصورة ملائكية، أظهروا غيرهم فى صورة المرتشى أو الجبان، فقد حاول المسلسل، من خلال تحويل الخيال السينمائى إلى حقائق تاريخية، توصيل رسالة مفادها بأن الأتراك هم الذين حموا العالم الإسلامى من الصليبيين والمغول، وهو ما يتناسب مع طموح أردوغان فى إظهار نفسه على أنه سلطان الدول الإسلامية، وهنا يجب ألا يقودنا التوظيف السياسى المباشر للمسلسل إلى افتراض أنه مجرد أداة إعلامية، تم توظيفها حزبيًا فى معركة بين الإسلاميين والعلمانيين، لأن المسلسل لا يعكس بالضرورة صعودًا فى الخطاب الإسلامى، بل يعكس طموحًا قوميًا يستند إلى الماضى.. وبالفعل، اشترك المسلسل، مع الإنتاج الدرامى التاريخى التركى الكثيف حاليًا، فى الترويج لهوية تركية قومية تاريخية، ترتكز على أن انتصار الأمة التركية، فى لحظة تأسيسها الأول، يعود للبطولة الأسطورية لقادتها وأبنائها.. كما أنه توجه للداخل التركى، خدمةً لخطاب حزب العدالة والتنمية وأيديولوجيته، فسلسلة المؤامرات الداخلية والخارجية ضد بطل المسلسل تؤكد خطاب الخطر الذى لطالما استخدمه أردوغان، وتوسع فى استخدامه بعد الانقلاب الفاشل، وكأنه يريد أن يقول إن التهديد الذى تتعرض له تركيا من الخارج والداخل هو امتداد لمعركة طويلة وتاريخية ترجع إلى لحظة تأسيس الأمة نفسها.
من هنا، يمثل مسلسل «ممالك النار»، الذى بدأت شبكة MBC منتصف الشهر الحالى عرضه على قنواتها، محاولة عربية لمواجهة توغل الدراما التركية واستئثارها بساحة الأعمال التاريخية دون منافسة، بعد أن أدركت، مع غيرها، أن سياسة القوة الناعمة، مفهوم يتجلى بكل أشكاله وأهدافه فى توظيف الدراما التركية فى العالم العربى، بما يخدم أهداف السياسة الخارجية لأنقرة.. إذ إن القوة الناعمة تلك، تمتاز بالجذب والتأثير، دون إكراه أو استخدام القوة، كوسيلة للإقناع، وهو ما نجحت فيه الدراما التركية، وتمكنت خلال العقد الأخير من جذب المواطن العربى، اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا، فضلًا عن تعاطفه مع قضايا الخارج والداخل التركى، لتحقيق أهداف سياسية بحتة.. بعد أن قامت هذه الدراما باستخدام قواها الناعمة فى التعريف بتركيا وثقافتها وتاريخها فى العالم الخارجى، تاريخ صورته الدراما بشكل مُخالف للواقع، يمتلئ بالعنف والأطماع التوسعية، ليكون غزوًا ثقافيًا متكاملًا، مارسته السلطات التركية عبر سلاح القوى الناعمة، فطنت له القنوات العربية بعد تصاعد الأحداث على الساحة السياسية خلال السنوات القليلة الماضية. يتضمن مسلسل «ممالك النار» قراءة غير تقليدية للأحداث الزمنية، يكملها إبهار بصرى متميز، ويقدم رؤية مغايرة للمتداول، حول الدولة العثمانية وانتصاراتها، والأوضاع الإنسانية للشعوب التى خضعت لها، بعد أن اتبع كُتّاب الدراما العربية منطق السلبية إزاء التمدّد الفنى التركى، الذى لا ينكر أحد أنه جيد على مستوى الصناعة، وحينما انتبهوا للمخاطر، اقتصر سلوكهم على المقاطعة فقط، رغم أن معركة الوعى لا يمكن مواجهتها إلّا بالوسيلة ذاتها فـ«لا يفلّ الحديد إلا الحديد».. كما أنه يعد حجر زاوية فى معركة شاقة، لبناء وعى حقيقى للمواطن العربى نحو تراثه وماضيه، ومواجهة تسويق الدراما التركية للشخصيات العثمانية بصورة ملائكية تخالف الحقيقة، فـ«الفتح العثمانى»! لم يكن إلا غزوًا واحتلالًا، تضمّن مجازر ارتكبتها القوات الغازية فى حق الشعوب العربية التى خضعت لولايتها. وهو يقدم، كما يقول مؤلفه محمد سليمان عبدالمالك، المواصفات البصرية اللازمة للمنافسة، بمعارك ضخمة وشخصيات تاريخية مُركبة، ساهم فى صناعتها المخرج البريطانى بيتر ويبر، الذى استعان بفريق متعدد الجنسيات فى صناعة الديكور والملابس والمكياج، من إيطاليا وكولومبيا وأستراليا، ليمثل بديلًا لإقبال المشاهد العربى على الدراما التركية.. ومن المتوقع أن يثير ضجة كبيرة، وفى حال نجاحه جماهيريًا، سيفتح شهية المنتجين العرب على تبنى المزيد من الأعمال الدرامية التاريخية، مما يُهدّد المعادلة التى اعتمد عليها الأتراك فى الغزو الفنى للمنطقة العربية، والعائد المالى الكبير من تسويق أعمالهم.. ليثور السؤال المهم: هل تكون مقاطعة الدراما السلطانية التركية ومواجهة أكاذيبها بأعمال عربية صادقة، خطوة أولى فى مواجهة أطماع تركيا؟.. الأيام القادمة ستجيب عن السؤال.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.