معركة تكسير العظام
سألنى صديق: كيف يستقيم معنى الحرية، بعد الثورة، مع النية لفرض الدولة أسعاراً جبرية على الأسواق؟.. أليست حرية السوق هى من تحدد شكل العلاقة بين البائع والمشترى على أساس من المنافع المتبادلة؟.. وما هى آليات الحكومة لتطبيق هذه التسعيرة ومراقبتها للأسواق؟.
وجدتنى أنحرف عن الإجابة المباشرة على الأسئلة المطروحة، لأذكر صديقى بأن الثورة، هذه اليد القوية للتغيير، يُفترض فيها أن تدفع للذى هو أحسن وأرقى، للذى هو أفضل وأعظم، فى الأخلاق والسلوك والمعاملات.. أن يجدها الإنسان الحر فرصة ليرفرف بجناحيه مغرداً فى سماء بلاده، وقد استدرد حريته، يحمل الأغصان لبناء عش أمته الجميل.. لكننى استيقظت من أحلام يقظتى على فوضى البعض وتجاوزاتهم واعتداءاتهم على الغير واستحلالهم للملكيات العامة، بل والخاصة، من جرأتهم على ضميرهم الإنسانى الذى سمح لهم بأن يملأوا جيوبهم من دماء الناس الغلابة، عندما قرروا بيع سلعهم بأكثر مما تستحق، مستغلين انشغال الحكومة، وأنه ليس هناك من يحاسب، حتى اشتعلت الأسواق ناراً، وبات الحليم حيراناً، ماذا عساه يفعل، وقد قصرت مدخلاته عن تلبية احتياجاته، والأفواه من حوله لا ترحم!.
قلت لصديقى.. عندما تتفجر الثورات، تدرك النخبة أن للثورة تبعاتها ومشاقها، وأن لها ثمناً لابد أن تدفعه للتحول من الديكتاتوريات إلى الحريات، بينما تتوق العامة إلى الرغد بعد شظف العيش، إلى أن تُنزل السماء أمطارها مدراراً بعد سنوات العطش، غير منتبهين إلى أن هناك من يتربص بهم، ينتظر هذه اللحظة التى تبدو فيها الحكومة منشغلة عن الضبط والربط، ليعيثوا فى الأرض فساداً، ويضنون على الجميع بلحظة هناء كانوا قد انتظروها طويلاً.
وعندما دخلت بلادنا فى تيه أعظم من تيه بنى إسرائيل، وبدا لنا أنه لا مخرج منه، وأننا كمن أُلقى به فى قاع بئر عميقة، ليس له من دونه إلا «سيارة» كالتى وردت بئر سيدنا يوسف، إذ بيد الله تمتد إلى مصر من عليائها، تربت على شعبها المطحون، الذى هو وجنده فى رباط إلى يوم الدين، تبشرنا بغد سعيد، ينفض عنا غبار الغبن والظلم والجهالة، غد تسترد فيه مصر عافيتها وريادتها، ويتبوأ شعبها مكانته التى يستحق.
وعندما ضاقت بنا الأرض بما رحبت، وأدركنا أنه لا منجى ولا ملجأ مما يحيط بنا، من هول ما يدور حولنا من سفاهات البعض وموت ضمير البعض الآخر، إذ بالحكومة تشهر سيفها، ذوداً عن هذا الشعب التى تتربص به ذئاب الجشع، وتعلن أنها لم تنم، ولم تضعف همتها وأن الوهن لم يعرف طريقه إليها، كما يرى البعض، لكن لكل شئ أوان، وأنه لابد من المبررات، حتى تأتى التصرفات، ولسان حالها يقول «على الباغى تدور الدوائر»، وأن الأمانة تقتضى وقوفها، حصناً منيعاً، يدرأ عن الشعب المصرى غائلة فاقته وهوانه على من راح يبيع فيه ويشترى، تماماً مثلما جاء بيان ثورة 30 يونيو، حامياً للشعب، مدافعاً عن كرامته، منتصراً لحقوقه، وضامناً لمكتسباته.
لكن يبقى أن نقيم حائط الصد، تجاه ما قد يذهب إليه البعض من تعطيش للأسواق، وذلك سيحدث لا محالة، ودفع الناس للقبول بأى شئ تحت وطأة الحاجة.. وأرى فى الاتجاه نحو المجمعات الاستهلاكية بديلاً منطقياً يحارب الأسعار ويعدل كفة الميزان المائلة، بالإضافة إلى السيارات المتحركة فى الشوارع، توفر فيها القوات المسلحة الكثير لهذا الشعب، من مستلزمات حياته اليومية، بأسعار منافسة، ناهيك عن الجودة التى هى تعبير عن روح الالتزام فى قواتنا المسلحة.. نعم.. المعركة ليست سهلة، سيعمد كل طرف فيها إلى تكسير عظام الآخر، لكن إيمانى راسخ دائماً بأن يد الدولة ومؤسساتها ستكون صاحبة الغلبة، خاصة أنها تنتصر إلى قيم الحق والخير والجمال، التى هى عنوان الإنسانية.