الحصاد المر.. فى ماسبيرو
ظللت لسنوات عديدة أقول بأن «قناة فضائية ــ الجزيرة ــ صنعت دولة، ولم تستطع دولة بحجم مصر أن تصنع قناة».. ورحت أردد ذلك فى كل مناسبة، إلى أن قابلنى السيد صفوت الشريف، وزير الإعلام آنذاك.. ساعتها قال لى «وجعت دماغى بالقناة والدولة..
إنت عارف المشلكلة إيه؟.. المشكلة إن الجزيرة لقيت بلد زى مصر كبيرة وفايرة بأحداثها، اشتغلت عليها.. إحنا بقى حنشتغل على مين؟.. عارف علشان نعمل قناة زى الجزيرة، وانت عارف إنها مش مشكلة إمكانيات أو بشر، كل حاجة موجودة.. لكن المطلوب تروح الصحراء وتعمل هذه القناة علشان تبقى بعيدة عن الدولة، ثم تتمكن هذه القناة من موقعها ده أن تطل على الدولة المصرية من بعيد، وتقول ما تشاء.. فهمت؟».. تركته ولم ألو على شىء، ولم أكررها ثانية، لأنى عرفت وقتها أنه ليس من وراء الكلام فائدة ترجى!.
حاولت أن أفهم هذا الذى يحدث، وقد امتلأ الفضاء بعشرات القنوات الفضائية التى تنطلق من ماسبيرو، إلى جانب زميلاتها الأرضية والمتخصصة والإقليمية، وكأن الرهان كان أن يمتلك اتحاد الإذاعة والتليفزيون قنوات بعدد الليمون، تكتظ، مع بقية قطاعات ماسبيرو بــ 43 ألف شخص، من كل التخصصات وعلى كل درجات السلم الوظيفى.
وبالرغم من مرور السنين، والرغبة منا فى أن ينصلح الحال المايل، إلا أن الحال مازال كما هو، إن لم يزدد سوءاً.. تليفزيون تراكم عليه غبار الإهمال، وعدم التطوير، وكأن العاملين فيه قد اكتسبوا شيخوخته، حتى من كان منهم فى ريعان شبابه، ورغم إقرارى بأن هناك محاولات فردية يبذلها البعض، إلا أن الأمر يحتاح إلى ما يشبه المشروع القومى فى إحياء هذا الصرح الذى كان فى يوم من الأيام عملاقاً، حمل الثقافة والفن إلى وطنه العربى، فكان معلماً دون فصل دراسى، هذا المشروع القومى الذى لابد أن يستفز الطاقات الجمعية فى هذا المبنى، والتى تستنزف 370 مليون جنيه أجور لعاملين يكفون لتشغيل مئات الفضائيات الخاصة، وهى المشكلة التى ينبغى مواجهتها بحلول غير تقليدية، مثلما نجح التليفزيون الإسبانى فى خفض عدد العاملين فيه بمقدار النصف.
وزير الإعلام الحالى، د. درية شرف الدين، تعانى من المشكلة، وتعترف بأن المبنى لا يلزمه أكثر من 15% من العاملين فيه.. هذا الاعتراف الذى ينبغى أن يدفع نحو البحث عن حلول عملية للخروج من الأزمة، مع مراعاة البعد الاجتماعى للعاملين فى هذا المبنى، ولا خروج دون تحديد أسباب الداء، حتى نصف الأدواء.
وأسباب الداء متعددة.. فلزمن طويل، ظل التليفزيون المصرى حكومياً، أحادى النظرة والتوجه، حتى ولو غلف ذلك بأشكال مفتعلة من التعددية والحرية، لم تغب عن فطنة المشاهد الذى انصرف عنه إلى قنوات خاصة، داخلية وخارجية، وطبيعى أن تخرج مع هذا المشاهد ما كان مقدراً له من كعكة الإعلانات.. وهذا أمر لم يكن للعاملين ذنب فيه، بقدر ما كان نتاج سياسة مطلوب تنفيذها، تسبح بحمد الملك الحاكم وورثة العرش، وحملة المباخر من حوله!.
هذه السياسة ألقت بآثارها المدمرة فى هيكلة الضمير المهنى لدى الإنسان العامل فى ماسبيرو، الذى آمن بفكرة «كله عند العرب صابون»، وأن المجتهد كالزاعق فى الصحراء، لا يسمعه أحد.. ناهيك عن أن التعيينات فى هذا الجهاز الخطير، جاءت على مدار السنوات الماضية، بالوساطة والمحسوبية، ولأهداف غير إعلامية، فكان طبيعاً أن تضيع رسالة هذا الجهاز، المفروض فيه أنه خدمة للشعب، وليس التسبيح بحمد الحاكم، حتى ولو كبد ذلك التسبيح التليفزيون ما يزيد على العشرين مليار جنيه، ديوناً مستحقة، لتجتمع المأساتان وتصنعان معاً سداً منيعاً أمام أية حلول لهذه المشكلة المستعصية، إذ كيف نقلل من ركام هذه القنوات الكثيرة، تخفيضاً للنفقات، ونحافظ فى نفس الوقت على عدد العاملين داخل التليفزيون.. ثم لو فكرنا فى تحويله إلى شركات .. فكيف لشركة أن تبدأ بديون قديمة؟!.
إذن فلنبدأ بما هو متاح.. والأقرب إلى التنفيذ هو عدم الموافقة على تعيينات جديدة فى قطاعات التليفزيون المختلفة، إلى جانب تنظيم العمل بها، مع محاربة المخالفات الإدارية والمالية، - والحكايات تحت هذا العنوان لا تنتهى، وسيأتى ذكرها لاحقاً - ثم تأتى الأهداف المعلنة للتليفزيون والوسائل الكفيلة بتحقيقها، لتصنع منه جهازاً ينحاز للوطن والمواطن، دونما أى انحيازات أخرى، مثلما فعل صلاح عبد المقصود - وزير الإعلام السابق - الذى أصدر تعليمات بعدم مناقشة أى مشكلات عن سيناء والنوبة، ودونما توضيح أسباب لذلك، وكأن هاتين المنطقتين ليستا من هذا الوطن، أو هكذا يراد لهما، وهو ما برهنت عليه الأيام.
ويأتى أخيراً الرهان على وكالة إعلانية، تعرف تحديات المرحلة، تحقق الموارد المطلوبة للأجور والإنفاق على الإنتاج البرامجى، شريطة أن تتسم هذه البرامج بالإبداع والموضوعية، فى إطار من ميثاق الشرف الإعلامى، الذى غاب عنا طويلاً.. وللحديث بقية.
■ رئيس تحرير بوابة الجمهورية أونلاين