نسائم الهجرة
المتأمل للعام الهجري يجد أن الله تبارك وتعالي قد ربط بين بدايته ونهايته
بروابط وأحداث عِظام , فجعل في بدايته هجرة النبي صل الله عليه وسلم , وفي نهايته
أداء فريضة الحج , فهما رحلتان عظيمتان فيهما طاعة لله وأوبة ..
يقول الله تعالي : (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله
أولئك يرجون رحمت الله واللهُ غفورٌ رحيمٌ) .
ولقد كانت هجرة النبي صل الله عليه وسلم حدثاً تاريخياً عظيماً غَيَر مجري
تاريخ البشر , إذ كانت بداية بناء دولةٍ قويةٍ علي أسس قائمة علي العدالة
والمساواة , وحفظ الكرامة الإنسانية , وترسيخ فقه التعايش السلمي , لما قرره
الإسلام من حريات وحقوق , وعدالة إسلامية ترعي جميع أبناء المجتمع دون تمييز بينهم
.
وقد جمع الله تبارك وتعالي في الهجرة النبوية بين التأييد الإلهي للنبي ,
وبين التخطيط البشري الذي يتجلي في أخذه صل الله عليه وسلم بالأسباب المُعينة علي
إتمام الهجرة ونجاحها ..
الهجرة لم تكن حدثاً شخصياً يرتبط بحياة النبي فحسب , بل كانت انتصاراً
لدين الله , كما كانت حداً فاصلاً بين عهد الضعف وعهد العزة والانتصار , وقد مكَن
الله بها للنبي وأصحابه الكرام فملأوا الدنيا عدلاً وبراً وسماحة .
إن الهجرة إلي الله ورسوله صورة من أسمي وأجَل صور الطاعة لله تبارك وتعالي
, ومقاومة قوي الشر والفساد , وبذل المال والنفس لنصرة دين الله , فالهجرة ليست
مجرد انتقال من مكان إلي مكان , فقد انقطعت الهجرة بمعني الانتقال من وطن إلي وطن
, فقد روى ابن عباس رضي الله عنه , أن النبي صل الله عليه وسلم قال :
(لا هجرةَ بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيةٌ).
فقد وضح لنا النبي أنه لا هجرةَ بعد فتح مكة , ولما جاء صفوان بن أمية
مهاجراً بعد الفتح , قال له النبي :
ما جاء بك يا أبا وهب ؟ قال : قيل إنه لا دين لمن لم يهاجر , فقال له النبي
: (ارجع أبا وهب إلي أباطح مكة , فقروا علي ملتكم , فقد انقطعت الهجرة , ولكن
جهادٌ ونيةٌ وإن استنفرتم , فانفروا) . وبقي معناها العظيم بالهجرة المعنوية
باتباع أوامر الله تبارك وتعالي واجتناب نواهيه , فالمهاجر الحقيقي هو من هجر ما
نهي الله عنه .
وحريٌ بنا أن نذكر إذا كان أمر الهجرة كتحول من مكة المكرمة إلي المدينة
المنورة قد انتهي بفتح مكة فإنه ينبغي
علينا أن نحرص علي كل معاني الهجرة النبيلة , كحسن الأخذ بالأسباب تعلماً وتعليماً
وتخطيطاً وعملاً وإتقاناً , بالتحول من البطالة إلي الجد والعمل والإتقان ,
فالإسلام دين الإنسانية والسلام والإيمان بالتعدد والتنوع , وتأصيل وترسيخ أسس
العيش المشترك بين البشر , والنبي صل الله عليه وسلم نبي الإنسانية ورسول السلام ,
ورحمة من الله تعالي إلي جميع الخلائق .
فالمفهوم الحقيقي للهجرة إلي الله ورسوله يتمثل في كونه سلوكاً إيمانياً
وضع النبي صل الله عليه وسلم ضوابطه وقواعده – بقوله :
(إنما الأعمال بالنيات , ولكل امرئٍ ما نوي , فمن كانت هجرته إلي الله
ورسوله فهجرته إلي الله ورسوله , ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأةٌ يتزوجها
فهجرته إلي ما هاجر إليه) .
كل هذا يبين لنا أن الهجرة هي هجر ما حرم الله ورسوله من الأخلاق الذميمة
والعادات السيئة , فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صل الله عليه وسلم
– قال :
(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده , والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه) ولما سُئل النبي
أيُ الهجرة أفضل ؟ قال : (من هجرما حرم الله عليه) ..
وفي رواية : (يا رسول الله , أي الهجرة أفضل ؟ قال : (أن تهجر ما كره ربك
عز وجل) ..
ولما سألته أم سليم رضي الله عنها فقالت : يا رسول الله أوصني . قال :
(اهجري المعاصي , فإنها أفضل الهجرة , وحافظي علي الفرائض فإنها أفضل
الجهاد , وأكثري ذكر الله فإنكِ لا تأتين الله بشئٍ أحب إليه من كثرة ذكره) .
ويتضح المفهوم الحقيقي للهجرة بمعني أن نهجر المعاصي والذنوب وأن نهجر
الكسب الحرام , والعمل الحرام , وكل ما حرم الله ورسوله .. لقول النبي صل الله
عليه وسلم :
(إنك لن تدع شيئاً اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيراً منه) .
ويقول النبي – صل الله عليه وسلم :
(ما من عبد ترك شيئاً لله إلا أبدله الله به خير منه من حيث لا يحتسب).
وقد أكد العز بن عبد السلام هذا بقوله :
(الهجرة هجرتان : هجرة الأوطان , وهجرة الإثم والعدوان , وأفضلهما هجرة
الإثم والعدوان , لما فيها من إرضاء الرحمن , وإرغام الشيطان) .
وعلينا أن نهاجر إلي الله بقلوبنا وأرواحنا , وأن لا نُسئ إلي الإسلام
بأفعالنا وتصرفاتنا الخاطئة , وأن يعمل كلٌ منا علي أن يكون عنواناً للإسلام وصورة
مشرفة له .. كما يتضمن المفهوم الحقيقي للهجرة : وجوب التوبة لله وهجر أماكن السوء
, والبعد عن أهل السوء , لقول النبي – صل الله عليه وسلم :
(لا تنقطع الهجرة حتي تنقطع التوبة , ولا تنقطع التوبة حتي تطلع الشمس من
قبل المغرب). فمن أراد الهجرة الحقيقية إلي الله تعالي ورسوله فليقدم علي فعل
الخيرات والطاعات والفرائض التي فرضها الله عليه , وليجتهد في إرضاء المولي عز وجل
, وليبتعد عن المحرمات خوفاً من الوقوع في المعاصي .. قال تبارك وتعالي :
(تلك حدود الله ومن يُطع الله ورسوله يُدخله جناتٍ تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسولهُ ويتعد حدوده يدخله ناراً
خالداً فيها وله عذابٌ مهينٌ) .
وقال عز وجل أيضاً :
(وما آتاكم الرسولُ فخذوهُ وما نهاكم عنه فانتهوا ) .
إذن الهجرة في مُجملها هي الأخذ بسنة النبي والاهتداء بهديه والتخلق
بأخلاقه .. قال تبارك وتعالي :
( لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر
وذكر الله كثيراً) ..
ولا يخفي علي شريف علمكم أن واقعنا اليوم في أمسَ الحاجة إلي هجرة حقيقية
إلي الله ورسوله صل الله عليه وسلم حتي توقظ الضمائر وتحي القلوب , فالهجرة التي
نحتاجها في أيامنا هذه هي الهجرة من هدم المجتمعات والفساد والتخريب إلي الإصلاح
والبناء والتعمير ..
فالهجرة نوعان :
-
الهجرة الشرعية .. وهي الهجرة إلي الله
ورسوله بترك الآثام والموبقات والمعاصي .. وترك التكاسل والعمل علي التعمير .
-
والنوع الثاني .. الهجرة غير الشرعية .. التي
تقوم عل مخالفة القوانين والتشريعات المنظمة لعلاقات الدول , حيث يعمد بعض الناس
إلي الهجرة والتسلل عبر البحار والمحيطات والصحراء والجبال , كما أنها هجرة غير
مشروعة لما فيها من انتهاك للقوانين التي تُنظم العلاقات بين الدول , ولما فيها من
تعريض النفس للمخاطر , حيث أن المهاجرين غير الشرعيين يُعرضون أنفسهم لأمرين :
-
الأول وهو الهلاك .. والله تعالي نهي عن ذلك
بقوله عز وجل :
( ولا تُلقوا بأيديكم
إلي التهلكة ) .
- والثاني وهو المهانة إن نجوا من الهلاك .. والنبي – صل الله عليه وسلم يقول : ( لا ينبغي للمؤمن أن يُذل نفسه ) , قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ قال : ( يتعرض من البلاء لما لا يُطيق ) .
وأدهي وأمَر منها هؤلاء المتاجرون بمعاناتهم في الاتجار بالبشر فحرمة الأوطان كحرمة البيوت , فكما لا ينبغي اقتحام بيت أحد بدون إذنه يجب ألا نقتحم الدول بدون إذن أصحابها , وهذا الإذن هو تصريح السفر أو تأشيرة الدخول , وبدونها يكون دخول الدول غير شرعي , والهجرة إليها غير مشروعة . وبِناءً عليه الهجرة التي تؤدي إلي التهلكة ليست من الإسلام في شئ , والهجرة غير الشرعية اعتداء علي حرمات الآخرين , لأن الاستئذان في دخول الأوطان كالاستئذان في دخول البيوت.