العراق.. أن تسافر لدمياط بالطائرة
بدعوة من الدكتور «على الشلاه»، رئيس مهرجان بابل للثقافات والفنون العالمية، وبتشجيع من الصديق الشاعر الكبير أحمد الشهاوى، قدر لى أن أزور العراق للمرة الأولى.
أثناء سفرى اعتدت أن أتابع خط سير الطائرة على الشاشة المثبتة أمامى، وأتطلع من النافذة لأطابق بين ما أراه على الخريطة وما أراه على الواقع بعينى.. المظاهر.. الطائرات تطير على ارتفاع أكثر من ألف متر، وهذا الارتفاع يسمح بنظرة بانورامية تعطى انطباعًا كليًا، تمامًا كما تنظر لخريطة فى أطلس جغرافيا.. من نافذتى فى الطريق من القاهرة إلى بغداد كانت الصحراء هى البساط الذى طرنا فوقه، صحراء تمتد من وسط سيناء إلى الصحراء العربية فى الأردن وصحراء غرب العراق.. تتخلل الصفرة الأبدية الزرقة الصافية لخليجى السويس والعقبة.. بعض الملامح أمكننى تمييزها مثل سلسلة جبال فى الناحية الشرقية لخليج السويس.. بعض المنتجعات السياحية فى الناحية الغربية للخليج، لعلها منطقة رأس سدر.. لم تكن الصحراء التى رأيتها كائنًا يستحى من جدبه، بل كانت تضاريسها ترسم لوحات فنية تنافس تشكيلات السحب التى تعبر بجوار نافذتى.. فى سيناء كانت المدرسة السريالية سيدة المذاهب، وجه الأرض الملىء بتفريعات الهضاب والوديان فى تجاور غير منتظم، متواز، ودائرى وقوسى، رسم صورة سريالية لأشجار رملية تتشعب فروعها فى اتجاه الجنوب، دائمًا ساق الشجرة فى الشمال والفروع فى الجنوب.. ومن خيالى أضفت للصورة ساعات «سلفادور دالى» المتناثرة والمنسابة والسائلة فاكتمل المشهد الذى لم يشاركنى فى رؤيته أحد.
بعد عبور الحدود المصرية أصبحت تكتلات وتجمعات الجبال فى صحراء الأردن واضحة تمامًا.. شكلت لعينىّ موائد ذات لون بنى محمر تتناثر عبر صفحة الصحراء.. فتذكرت المائدة الاختبار التى طلبها أصحاب عيسى، ورأيت جد الرسول يهشم الخبز لضيوفه.
عندما أعلن قائد الطائرة دخولنا المجال الجوى العراقى.. وبدأ فى خفض ارتفاعه.. صرت على موعد مع قطعة من بساط علاء الدين.. مساحات وتقسيمات هندسية، مستطيلات ومربعات سوداء أو خضراء غامقة اللون.. الخضرة فى العراق ليست زاهية أو براقة.. لكنها طحلبية، ثقيلة، كثيفة، رصينة، كامرأة تمشى الهوينى لا تلقى بالًا للعيون التى تتبعها.
هبطنا من الطائرة.. وإذا كانت عينا الإنسان هما منفذ روحه فإن مناخ أى مدينة كفيل بتحديد درجة قربها أو بعدها عنك.. وأول الألفة مع بغداد كان جوها الذى كان قاهريًا بامتياز.
بعد إنهاء إجراءات دخولى والصديقين الكاتب «علاء عبدالهادى» رئيس تحرير كتاب اليوم، والشاعر «سامح محجوب»، استقللنا سيارة الدكتور كرار، وهو طبيب بيطرى، لكنه يساهم كمتطوع، سلكنا الطريق المتجه من المطار إلى محافظة بابل.
لاحظت أن كل البيوت على الجانبين لا يزيد ارتفاعها على دورين. فالعراقيون كما شرح مضيفنا يفضلون التوسع الأفقى، وما عدا ذلك فالطريق هو نسخة من الطريق الذى يربط القاهرة بمحافظات الدلتا.. المطاعم، محلات الحلويات، الاستراحات، قاعات الأفراح، الكبارى العلوية، وجود مجرى مائى على أحد جانبى الطريق، الكثافة المرورية الشديدة، مركبات النقل الثقيل حاملة البضائع، تصاعد التراب والعفرة، كمائن التفتيش.. حتى أننى قلت: يا الله، يبدو أننى سافرت لدمياط بالطائرة.
من وحى الحنين للقاهرة:
ترتفع النافذة عشرين سنتيمترًا فقط عن سطح أرضية الغرفة، بما يسمح لى أن أمد ساقى للخارج، أن أفرد جناحىّ وأطير، لكن أصواتًا كثيرة داخل رأسى، ونداءات ملحة تصب فى أذنى تمنعنى.
كم من الدقائق الصامتة أحتاج كى يشتد ريشى؟ يبدو أن العمر كله لن يكفى.
فيرجينيا وولف: سامحينى، حقًا أنا أملك غرفة تخصنى وحدى.. لكنى لا أجد وقتًا كى أجمع حجارة وأضعها فى جيب معطفى، والنهر المار بجوار بيتى مسور بكازينوهات وأندية، فلا أستطيع النزول إليه رغم روحى المثقلة.