فيها حاجة حلوة
فى حفل للموسيقار عمر خيرت، قبل أيام، كان قاعد جنبى واحد من إخواننا العرب.. سألنى: هو أنا لو حبيت أتصور مع الأستاذ عمر، هقدر؟... قلتله: آه طبعًا، ده راجل محترم جدًا.. لقيته بيقولى: أنا بقالى سنتين بحاول أجيب تذاكر وآجى أحضر ومعرفتش، إلا لما نزلت التذاكر أونلاين، ولقيناها بالعافية، وجيت من سفر ١٠ ساعات، وهسافر بعد الحفلة مباشرة.
استعجبت من إصراره، وكنت عايز أقوله ليه يعنى؟.. ولاحظ ما يدور فى نفسى، وقالى: متستعجبش.. إنتو، كمصريين، عندكو حاجات كتير حلوة جدًا.. إحنا منقدرش نشتريها ولا نعمل زيها.. كفاية يا أخى الروح اللى موجودة فى شوارعكم، حتى لو زحمة.. طعم الموسيقى.. أنا والدى كان بييجى يحضر حفلات أم كلثوم وعبدالحليم ومسرحيات عادل إمام، وطلعت لقيت نفسى متربى على الذوق المصرى.. يمكن تكون بلادنا غنية.. بس معندناش الحاجات الحلوة اللى دايمًا موجودة عندكم.. معندناش نماذج تخلى العالم كله يتكلم عنها، زى مجدى يعقوب ومحمد صلاح ومصطفى مشرفة.. حتى لو بلدكم زحمة، وفيها مشاكل أو فيها سلوكيات، ملحوظ إن بعضها وحش، بس صدقنى الحلو فيها موجود جدًا، وكل حاجة هتلاقى ليها طعم.. لو حبيت تسافر وتتفسح، هتعرف، وبدل المكان ألف.. لو حبيت تخرج مش هتفكر كتير.. لو حبيت تذاكر هتلاقى ألف باب علم.. لو حبيت تتعلم أى صنعة، هتلاقى ليها أساتذتها ومعلميها.. لو حبيت تفرح هتعرف تفرّح نفسك.. لو حبيت تعمل خير، هتلاقى أبواب كتير.
بعد كل اللى الراجل قاله ده، قلت له: إنت أد كده بتحب مصر.. قالى: إنت بتحبها؟، قلت له: دى حتة منى ومن ناس كتير.. رد وقالى: شفت بقى، أنا بحبها علشان إحساسك إنت واللى زيك بيها.. حتى لو مغلباكو بس بتحبوها.. قال صديق الفيس بوك، حسام المصرى: «ترددت أن أكتب الكلام ده، اللى ممكن ميفرقش مع ناس كتير وياخدوه بتريقة.. بس بجد، فيه ناس كتير مش مصريين وبيحبوا البلد دى، أكتر من ناس عايشة ومولودة فيها».
هذه هى مصر فى عيون كل من عرفها، فى الوقت الذى لا يعرف بعض أبنائها قدرها، فلا يرون فيها إلا القبيح والسيئ، ولا ينظرون إلا إلى نصف الكوب الفارغ منها، بالرغم من أنها أحن بقاع الأرض عليهم، ومن خرج منها، فقد خيرًا كثيرًا، وما ينبئُك مثل خبير، عايش الغربة، واكتوى بنيران البُعد عن ديار الأهل والأحبة.. قد تجمع مالًا كثيرًا، وتحظى بمنصب رفيع، ولكنك فى النهاية تبقى معلقًا فى الهواء، لا تجد أرضًا ترتكز عليها قدماك، ولا يصادف همك صدر يخفف منه، ولا يد تربت عليك، كتلك التى تجد منها ألفًا، لو أنك بين أحضان هذه المحروسة، المغروسة بين لحم ودم من أحبها وعشق ترابها.. هذه هى مصر فى عيون من عرف فضلها، وتربى على يد أساتذتها، حتى ولو كانوا من غير جلدتنا، بينما لا ترى عيون بعض أبنائها إلا القذى، فيسيئون إليها ويرمونها بكل نقيصة، بجهل فى حين وعن عمدٍ فى أحايين.. وانظروا إلى الذين يخرجون علينا فى كل وقت، يشوهون الوجه الرائق لأرض الكنانة، وبخبث يلقونها بالحجارة، وكأنهم أحرص الناس عليها، ويقولون «أليست هذه هى الحرية؟!».. تَعِست كل حرية تنال من الرحم الذى حمل وأخرج إلى النور أناسًا لم يجدوا إلا النكران، يردون به الجميل، غير مدركين أن بلادهم، وهى تخوض حربًا، بكل المقاييس العالمية للحرب، تحتاج تضافر جهود أبنائها، وأن يكونوا على كلمة سواء.
فمن غير المنطقى أن يقف جنودنا من القوات المسلحة والشرطة، على خطوط النار، يضحون بأرواحهم ودمائهم فى مواجهة عدو غادر، كفر بكل القيم الإنسانية، ولا يرى حياته إلا فى فناء غيره، ويخرج البعض، وفى كامل حُلته، وعبر استديوهات مكيفة، ليحبط الناس بالزور من القول، نجح آخرون فى خداع وعيه الغائب، وقد تخلى عن حصافته الإعلامية وواجباته المهنية.. كل ما سعى إليه، هو كيف يحقق خبطة لبرنامجه الجديد، تجعله مجالًا للجدل، فيشتهر ويقبل الناس على مشاهدته، حتى ولو كان ثمن الفرقعة التى عمد إليها غاليًا!.
وحتى نعرف الفرق بين رجل أحب مصر، وبنى آدم لا يبحث إلا عن ذاته، اسمعوا هذه الرواية عن بطل مصرى قتلته الطائرات المصرية فى حرب أكتوبر!.. لا تستعجلوا.. اقرأوا لتفهموا القصة التى تؤكد أنه، بعد اقتحام الجيش المصرى خط بارليف، الذى أقامه العدو الإسرائيلى على شط قناة السويس، وسيطرة قواتنا المسلحة الباسلة عليه خلال حرب أكتوبر.. فوجئ الجنود والضباط المصريون المتواجدون فى خط بارليف بزيارة قائد عسكرى مصرى كبير يرافقه وفد، إلى حيث موقعهم.. وأخذوا يبحثون بين جثث الجنود اليهود، حتى وجدوا ما يريدونه.. جثة الجندى الإسرائيلى «موشى رافى».. انتشلوا الجثة ولفّوها بعلم مصر، وقرأوا عليها الفاتحة ثم نقلوها إلى القاهرة.. ولم يكن «موشى رافى» إلا البطل المصرى «عمرو نصار» الذى زرعته مصر فى خط بارليف، ليعرف كل كبيرة وصغيرة موجودة فى هذا السد الدفاعى المنيع، كما كانوا يسمونه.. وتم تجنيد عمرو فى الجيش الإسرائيلى عام ١٩٦٩ تحت اسم «موشى رافى»، يهودى مصرى مهاجر إلى إسرائيل.
وبعد عام من التحاق عمرو بالجيش الإسرائيلى، انتقل للخدمة فى خط بارليف.. عمرو نقل كل تفاصيل الخط إلى المخابرات المصرية حتى يوم ٦ أكتوبر ٧٣.. وقبل اندلاع الحرب بساعة، صدرت الأوامر من المخابرات المصرية إلى عمرو بضرورة مغادرة الموقع نهائيًا حتى يتم ترتيب عودته إلى القاهرة.. لكن عمرو رفض تنفيذ الأمر، وأصر على انتظار الطائرات المصرية لتوجيهها إلى مخازن الأسلحة والذخيرة الإسرائيلية الموجودة فى موقع الخط.. وبالفعل اندلعت الحرب وضربت الطائرات المصرية خط بارليف، وهرب الجنود الإسرائيليون يمينًا ويسارًا، بين قتلى وجرحى، بينما وقف عمرو نصار وسط الموقع يهلل ويكبر «الله أكبر.. الله أكبر».. وضربته الطائرات المصرية التى لم تعرفه.. واستشهد بطل مجنون بعشق مصر وترابها.
أتدرون أين تكمن مشكلة مصر؟.. المشكلة فى الإعلام الذى يفتقد الرؤية وخارطة الطريق التى تحدد مساره، فى وقت تخوض فيه البلاد حربًا ضروسًا ضد الإرهاب، وفى معركة البناء.. إعلام لم يفهم متطلبات المرحلة وافتقد أدواتها، كما افتقد عقله المُدبر، بالرغم من وجود هيئات ثلاث تحكم مسيرته، الإدارية وليست المهنية.. لم يقم مسئولوها بتحديد الرؤية الإعلامية لمصر، بل انخرطوا فى مشاركات سياسية، يحاولون بها إعلاء شأن أنفسهم فى نظر من يظنون أنهم يملكون قرار بقائهم.. ربما يكونون قد وفروا المال لمن يريد من مؤسسات الإعلام المختلفة، لكن غاب العقل القائد، الذى يُحسن اختيار الرجل المناسب فى منصبه، للقيام بالدور المحدد له فى خارطة مستقبل مصر، ليس تسبيحًا بحمد الحاكم، كما قد يفهم البعض، لكن تعبيرًا عن آمال مصر وطموحاتها.. رسم صورتها الحقيقية فى عيون من ينظر إليها.. اتخاذ زمام المبادرة فى الإخبار والتفسير والتوضيح لكل ما يجرى على أرض المحروسة، بدلًا من تركها نهبًا لكل من أراد أن ينهش لحمها، ويكون إعلامنا بعد ذلك، مجرد رد فعل ساذج، لرصاصة قد انطلقت وأصابت سويداء قلب حقيقة الحدث.. وانظروا لكل ما جرى على الساحة خلال الأيام القليلة الماضية، تخرسات الـ«بى بى سى» عن الاختفاء القسرى المزعوم لزبيدة، وقضية استيراد الغاز من إسرائيل، الذى يقول عنه الخبراء، إنه باب خير لمصر، تربح منه كثيرًا، عبر معامل الإسالة التى تملكها، ومنفذ لغاز إسرائيل إلى الخارج، الذى وصف رئيس وزرائها، لحظة التوقيع على الاتفاقية بأنها «يوم عيد»، لأنه بدون ذلك، فإن على تل أبيب أن تحرق غازها فى الهواء!.. فإذا ما وقع المواطن فى حيرة من أمره، لأنه لا يفهم مغزى ما جرى، فإن اللوم يقع على الإعلام.. والإعلام وحده.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.