إذا غاب هؤلاء.. فمن ينتصر لمشروعات مصر القومية؟
ثلاثة مدخلات أساسية تُحدد ماهية المواطن وفاعلية وجوده فى أى دولة، المواطن الذى تعتمد عليه حكومته فى إحداث التنمية التى تريدها للدولة، وتنتقل بها من مرحلة معينة إلى مرحلة أكثر تقدمًا وازدهارًا، هذه المدخلات هى: الصحة والتعليم والإعلام. فالصحة تُعنى بالبنية الجسدية والتركيبة النفسية للمواطن، حتى يكون مؤهلًا للمشاركة الفعالة فى مشروعات بلاده، بلا مرض أو وهن.
وكلما كانت الرعاية الصحية متكاملة ومبكرة فازت الدولة بطاقات خلّاقة فى قوتها البشرية، ووفرت على نفسها مليارات سنوية، يمكن أن تنفقها إذا استشرت الأمراض وكثرت الفيروسات، تدعم بها مواردها المالية، وهكذا.. أما التعليم فهو المسئول عن خلق عقول مبتكرة، وتخريج كفاءات ذات مواصفات مطلوبة لاقتحام سوق العمل، ومواكبة مستحدثات التكنولوجيا، وغيرها، مما يساعد على تنامى جودة المنتجات الوطنية التى تكفى الدولة مغبة الاستيراد، وتخلق منتجًا وطنيًا منافسًا، يمكن أن ينمى موارد هذه الدولة، إذا ما نافس على التصدير وعاد بعملات صعبة، تقوى مكانة العملة الوطنية لهذه الدولة، إلى غير ذلك كثير.. وتأتى ثالثة الأثافى، التى لا يستقيم الأمر بدونها، وهى الإعلام الوطنى الهادف والجاد، المُفسر لما غمض، الدافع نحو التنمية، القادر على تهيئة العقول والنفوس لاستيعاب أهداف ومرامى المشروعات القومية، حتى يكون المواطن ليس شريكًا فيها فحسب، ولا منتجًا لها وكفى، بل ظهيرًا قويًا يؤمن بها وينتصر لها، ويدفع بها إلى الأمام، مما يساعد على الاستقرار المجتمعى، واختزال الزمن فى تحقيق الأهداف المبذولة من الدولة تجاه مواطنيها.
وعندما نقول ذلك، فإننا لا نقصد دعاية جوبلز النازية، نزين بها الباطل ونجعل من الخطأ صوابًا، ولكننا نقصد المنظومة الإعلامية التى تترجم الحالة الوطنية الصرفة، ترصد الحراك الاجتماعى والتنامى الاقتصادى، والنهوض بالدولة، بمشروعات جادة، تنقلها إلى المواطن بدقة وأمانة، لا تُزيف الواقع، لكنها تُخبر بحقيقة ما يدور، فتقطع السبيل على المدلسين، الذين يحاولون جر الأوطان إلى الوراء، بالأكاذيب التى يروجونها، ولا تجد من يتصدى لها بالحقيقة الدامغة، وبصوت أعلى ومنافذ أكثر، تصل إلى المواطن، فتقيه شر الوقوع فى براثن هذه الأكاذيب، والنأى به عن الكفر بكل القيم الوطنية، خاصة إذا كان للمشروعات القومية التى تقوم عليها الدولة آثار سلبيةــ مؤقتةــ تنسحب على المواطن، فتكون الجرح الذى ينكؤه المحرضون، فيستفزون المشاعر ويهيجون النفوس ضد الدولة، وضد كل ما يحدث على أرضها.. وهو عين ما آمنت به الدولة المصرية فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، الذى رأى أن معركة الإعلام لا تقل أهمية عن معركة البناء، بل هى أشد خطورة من المعارك الحربية، إذ إن ضحايا الحروب محدودة بساحاتها، بينما ضحايا معركة الإعلام أعم وأشمل، ومساحاتها واسعة، ولا يمكن احتواؤها. وبالتالى، فقد وقف الإعلام ومعه الفنون المختلفة وراء كل ما أقدم عليه عبدالناصر من أجل مصر، وفى سبيلها، حربًا أو تنمية، وتلقى الشعب إنجازاتها وبشائر خيراتها، فى الكلمة والصورة، فى الفنون والموسيقى، فى السينما والدراما، حتى قال البعض إن ناصر كان محظوظًا بإعلامه، ومساندة الفن لمشروعاته. فمن منا لم يتغن بالسد العالى، ومن منا لم يعرف حلاوة عيشة الفلاح، وعظمة منجزات الصناعة، وغيرها؟!. ومع أن ما يدور على أرض مصر، الآن، يفوق ما فعله عبدالناصر، إلا أن حظ العهد الحالى قليل من المساندة الإعلامية لمشروعاته ومنجزاته، فلم نجد من يتغنى بشق الطرق فى الصحراء، ولا بما تحفره الماكينات من أنفاق وقنوات، وما نقتحم به الأرض الجرداء فنحيلها جنة خضراء، ولا بأولئك الذين انتقلوا من مهابط الموت إلى العيش الكريم، فى مساكن تحفظ لهم إنسانيتهم.. وغيرها.
والمصيبة أن هذا العجز الإعلامى لا يأتى من قلة فى الوسائل ولا محدوديتها، بل من كثرة، كغثاء السيل، فالحكومة المصرية تمتلك ٢٣ قناة تليفزيونية و٦٠ محطة إذاعية، تنتج بضاعة رديئة، بجهود مشتتة، لا تخضع لاستراتيجية عمل ولا لرقابة جودة، وصلت بخسائر ماسبيرو إلى ٣٢ مليار جنيه، وتحدد له ــ أى ماسبيرو ــ ملياران ومائتا مليون جنيه أجورًا للعاملين فيه، بموازنة ٢٠١٨، بزيادة ٨٢ مليون جنيه على العام الماضى، وتشير أرقام الموازنة إلى خسائر متوقعة عن أنشطته، تصل إلى ستة مليارات جنيه، مع أن دولة، مثل فرنسا، لا تملك سوى ثلاث قنوات تليفزيونية، تابعة للدولة.. فهل نحن أغنى من فرنسا؟.. وأين تكمن المشكلة؟!.
المشكلة بدأت منذ سنوات، حين اعتمدنا الكم على حساب الكيف، ربما كانت النوايا طيبة، لكن النتائج جاءت مخيبة لما ذهب إليه البعض، من أن يكون الإعلام الإقليمى، مثلًا، مستنهضًا للتنمية فى محافظات مصر المختلفة، لكن قنواته جاءت صورة مصغرة وباهتة عن قنوات كورنيش النيل. وحين سيطرت ثقافة تمكين أهل الثقة واستبعاد أهل الخبرة، الذين هربوا فيما بعد إلى القنوات الخاصة فصنعوا مجدها، وبدأت رحلة أفول إعلام الدولة، حتى الهيئات والمجالس المتعاقبة على منظومة الإعلام، فيما بعد يناير ٢٠١١، أخطأ من اختار بدايتها، فجاءت نهاياتها، على نفس القدر من خيبة الرجاء، وما زال نفس الخطأ ساريًا إلى أجل غير مسمى، حتى لخص هؤلاء مشكلة الإعلام الوطنى المصرى، فى كيفية تحقيق الكفاية المالية للعاملين فى وسائله المختلفة، دون النظر فى استراتيجياته ولا إنتاج برامجه، فزهد المشاهد شاشاته، ووجه مؤشر جهازه إلى قنوات القطاع الخاص، الأكثر بريقًا، والأجود صناعة، والأقدر مهنية، ولكنها مهنية يحفها كثير من سوء القصد والكيد للدولة، وتصفية الحسابات وحماية مكتسبات رجال الأعمال، على حساب كل الثوابت، وفى مقدمتها الثوابت الوطنية.. ولذلك حديث آخر.
وبعد..
رحم الله أستاذنا، الكاتب الصحفى الراحل صلاح عيسى، الذى كان يود لو انتشل الصحافة القومية من أزمتها، بمليارى جنيه، طلبها من الرئيس عبدالفتاح السيسى.. اختلفت معه حول عدم وجود استراتيجية إصلاح قبل الدفع بهذه الأموال إلى المؤسسات القومية.. وكانت النتيجة أن حصلت هذه المؤسسات على ما يزيد على مليارى جنيه، لكن بقى الحال على ما هو عليه.. ويظل الفكر والعقل أسبق من الإمكانيات، وإلا ضاعت الأموال هباءً.. والبقاء لله وحده.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.