الإدارة قبل العمارة فى مؤسسات صاحبة الجلالة
«الإدارة قبل العمارة»، مفهوم فى التنمية، أميل إليه وأتمسك به، وقد اتضح لنا مرارا أن أهم ما يُعيق تطورنا ونمونا، هو افتقادنا الإدارة الرشيدة الواعية، فى بعض المؤسسات والهيئات، رغم عظمة مشروعاتنا وإبداع أفكارها، إلا أننا كلما توسمنا فيها أن تكون مناط قفزة نوعية، يشهدها هذا المجال أو ذاك، وتدفع بنا خطوة نحو الأمام، سرعان ما يخبو وهج المشروع أو تنطفئ شمعة هيئة أو مؤسسة، لأنها لم تجد هذه النوعية الواعية، الفاهمة والمتحركة، من الإدارة، لا لشىء إلا لأننا لم نُحسن الاختيار، بعد أن فقدنا معايير هذا وآلياته، ونفاجأ، فى كل حين ومناسبة، بتصدر «أهل الثقة» للمشهد، ليزيحوا «أهل الخبرة» عما كانوا أولى به من قيادة وإدارة.
وليس لى من تفسير لذلك، إلا أنها ثقافتنا التى تربينا عليها، وأكدها فينا ما كان من أهل الحكم فى الأزمان الغابرة، ثقافة تقوم على الكفر بالصالح العام، وتحقيق ما يصب فى خانة الذات، أو يُرضى عنا من أحاطوا بنا.. وقد قال لى زميل، ساخرا، إن هناك ألفاً وخمسمائة اسم بعينها يتناوبون فيما بينهم إدارة دفة الأمور، فى الإعلام والسياسة والاقتصاد والرياضة، وغيرها من مناحى حياتنا.. ولذا فنحن نراوح مكاننا، لا نبرح ذات الدائرة، نعود فى كل دورة داخلها، إلى ذات نقطة البداية، لأنه ما من جديد طرأ على الفكر، أو تغير شهده السلوك، ولأننا لم نجد من يكسر جمود هذه الدائرة ويأتى بقوم آخرين، ربما كان عندهم ما يفيد، فى بناء هذا الوطن الذى لم يعد يملك رفاهية الوقت، لتحقيق التنمية المطلوبة، كما أنه لم يعد يحتمل مبدأ «التجربة والخطأ»، فى الإدارة والعمل!.
ومع أننى توقفت أمام الرقم الذى طرحه صديقى لمن يُستعان بهم فى إدارة مجالات الحياة فى مصر، إلا أن صديقى لم يجافِ الحقيقة والواقع، حتى ولو اختلفت معه على صحة الرقم، زيادة أو نقصانا، فكل الشواهد تشير إلى ذلك، وجُل الواقع يؤكد المبدأ الذى ذهب إليه، لأننا، ببساطة، نفتقد المعايير الموضوعية للاختيار، حتى لو أردناها، فلن نجدها، لأننا لا نملك أدواتها ووسائلها، وعلى رأسها قاعدة بيانات بقدرات ومؤهلات وخبرات المواطن المصرى، فى كل المجالات، والغلبة دائما لمن برع فى تقديم نفسه عبر الشاشات، أو أحاط نفسه بهالة من العلاقات، وكان- فى أحسن الظن منا- حسن النية، مخلصا فى توجهاته، إلا أن فاقد الشىء لا يُعطيه، والإدارة فن وعلم وموهبة، قامت الأيام على صقلها، وتولت الخبرات هيكلتها.. ولذلك، ليس غريبا أن نصرخ، بين حين وآخر، أن المُراد لم يتحقق، وأن الأهداف ضلت طريقها، بل إننا فقدنا أسلحة الحرب التى نخوضها، فتعطلت مسيرتنا أو تأخرت، وتكالبت علينا ضِباع الداخل والخارج، ينهشون لحومنا، ونحن لا نفعل أكثر من إلقاء اللائمة على بعضنا البعض، ونلقى بتقصيرنا على غيرنا، وكأن هناك كرة من اللهب، يُلقى بها كل منا فى حِجر أخيه، بدلاً من أن نتعاون على إطفائها، كلٌ فيما يخصه.. ولنا فى مواجهة الإرهاب، مثلا ودليلا. أقول ما سبق، ونحن أمام هيئات ثلاث تشكلت، لإدارة منظومة الإعلام فى مصر، بعد أن استشرت فوضاه، وذهب معظم العاملين فيه، كلٌ فى طريق يخصه، يحقق أهدافه هو، اقترابا من، أو بُعدا عن مصلحة الوطن، وليس هناك من استراتيجية جامعة مانعة، تحدد الإطار العام للممارسة الإعلامية المطلوبة، تطلق الحريات فى إطار المسئوليات، تجعل من أبناء الوطن الواحد، جنودا يذودون عن حياضه ضد مؤامرات الخارج، ويدرأون نكبات الداخل، لأن الشيطان يقبع داخل بعضنا، يأتمر بأمر نفسه الأمارة بالسوء، وتحريض مشايخ المصائب، وبتحفيز وإغراء من أعداء الخارج، ولذا فالمسئولية عظيمة والخطب جلل، وكما قلت، لم نعد نملك رفاهية الوقت ولا محاولات التجربة والخطأ.. فكل سنة من عمر مصر الآن، بألف سنة فيما عداها من أزمان، لأن القطار قد انطلق، ولابد أن يصل إلى منتهاه فى أسرع وقت، والزمن لا يرحم والتاريخ لا يُحابى، وكل إنسان أصبح مسئولاً عما يقرر ويفعل.. والناس تنتظر!.
أدرك أن من تم اختيارهم لهذه الهيئات الثلاث، جاءوا إلى ثغر من ثغور الدولة المصرية، قادة فى الميدان، يديرون المعركة الإعلامية، فى حرب الدولة المصرية، فى البناء والتنمية ومجابهة الفساد، وضد أعدائها، داخليا وخارجيا.. والقائد عليه مسئولية التخطيط المُحكم، وتهيئة الجند، معنويا ولوجيستيا، لمعركة البقاء، وقبل ذلك وبعده، اختياره لمن يتولى مسئولية القيادة والإدارة فى مواقع العمل، فى حرب مع عدو لا يرحم.. ولذا، فليس علينا استباق الأحداث، بقرار من أى نوع، أو تصريح، قد يضر ولا يفيد، يحدث جلجلة دون الطحين، وعلينا تجريد الذات عن الهوى، واعتبارات الصداقة والزمالة، فالوطن أهم من كل البشر، ومستقبل المؤسسات الصحفية أصبح على المحك، ومازال من هم على الكراسى حتى هذه اللحظة، يعقدون اتفاقات وتحالفات، للتأثير على أصحاب القرار فى الهيئات، علها تأتى إليهم، من بعدهم، بمن يُدارى عوراتهم التى أصبحت على رءوس الأشهاد.. على القائد لمنظومة الإعلام فى مصر أن يضرب لنا مثلا لما يجب أن تكون عليه الإدارة من المسئولية عما تفعل، والمحاسبة، سلبا أو إيجابا، تثمينا أو تكديرا، بالنظر فيما كان عليه واقع الحال، لأنه من غير المقبول أن نترك من أساء وأفسد أن يذهب إلى حال سبيله وينعم بغنيمته التى خرج بها على حساب مستقبل مؤسسته والعاملين فيها، بعد أن غابت المحاسبة من المجلس السابق، عما كان يفعله هذا، وفيم أنفق المليارات التى دفعتها الدولة، دعما لمسيرة هذه المؤسسات، فأحسن التدبير من أحسن، وأساء من أساء، وكل إنسان مسئول عما يفعل.. نحاسبه على الوقت الذى أهدره، والمال الذى بدده، وسياساته التى أدت إلى الإحباط وقعود العاملين عن العمل، لأنهم لم يجدوا من يضع لهم خريطة البناء، ويدفع فى عروقهم الحماس، بعد أن رأى هذا المسئول فى منصبه، مغنما لابد من اقتناص فرصته، وإلا ضاعت عليه، فأضاع مؤسسته، كما أضاع أهلها، وتلك جريمة لا تغتفر!. لا أقول بتصفية الحسابات، لكن المحاسبة على الأفعال التى لا يزال أثرها السلبى موصولا إلى اليوم، عبر سنوات ثلاث ونصف السنة، مضت وكأنها أثر بعد عين.. محاسبة تكون مصداقا للمثل القائل «اضرب المربوط، يخاف السائب»، لأن من أمِنَ العقاب أساء الأدب، وإساءة الأدب هنا تنسحب على مستقبل أمة بأكملها، إذا ما تخلى الإعلام عن دوره، وترك الناس نهبا لما يُقال، هنا أو هناك، وإذا ما تخلى عن مسئوليته، كرمانة ميزان فى بلد تتقاذفه أمواج الفساد والمؤامرات، ويؤمن رئيسه بأن الإعلام واحد من أمضى أسلحة المواجهة والمكافحة، وقد بُح صوت الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى كل مناسبة، وعلانية، من أجل أن يقوم الإعلام بدوره، بمسئولية وموضوعية، وفهم وشفافية، لأن معركة التنمية والبناء تُحتم تلاقى كل القوى والأسلحة، وليس أهم من الإعلام القومى بأنواعه، سلاحا مضاءً فى هذه المعركة.. لو يعلمون.. وبعدُ لا أريد إلا الإصلاح ما استطعت.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.