نقبض على التراب.. وندوس بأقدامنا الذهب
بنات فى عمر الزهور، كُبراهن فى سنوات الجامعة الأولى، وصُغراهن بالصف الأول الثانوى، صنعن من أحلامهن وقدراتهن أجنحة طارت بهن فوق القارة السمراء، ليعدن إلى مصر، ببطولة إفريقيا للكرة الطائرة، تحت عشرين سنة، وقد تأهلن لبطولة العالم فى المكسيك، خلال سبتمبر القادم، فى اللعبة التى ستشارك فيها فرق ست عشرة دولة، من كل الدنيا.. عدن، وقلوبهن تسبق أقدامهن إلى أرض الوطن الذى سيحتفل بهذا الانتصار الرياضى، فى وقت تعيد فيه مصر وجودها وتوسع من امتدادها الإفريقى.. تخيلن، وهن فى غفوة السفر الطويل، على مقاعد طائرة العودة، أن جمهورًا عريضًا، ووسائل إعلام، ومسئولين يحملون باقات الزهور، فى انتظار هذا الفوز المؤزر بالمطار.. حلمن، وهن لايزلن فى غفوة النوم، أن الأيادى ستتصارع لحملهن على الأعناق، فما كل يوم، نعود لمصر بنصر جديد.. ولم يفقن إلا على نداء مضيفة الطائرة بضرورة ربط الأحزمة، استعدادًا للهبوط فى مطار القاهرة الدولى، الذى خلا من أى مُنتظر، ومن أى صوت يهتف فرحًا بعودة منتخب لمصر، كان فى مشاركة إفريقية.. لم يجدن إلا ابتسامة ضابط الجوازات، وقد اختلط صوت قرقعة خاتم الدخول فوق صفحات جوازات سفرهن، مع صوته محييا: «حمد الله على السلامة»!.
عدن بالسلامة.. وأى سلامة نفسية؟، وهن يواجهن احتمال جلوسهن فى بيوتهن، دون المشاركة فى بطولة المكسيك، لأن الاتحاد الدولى لكرة الطائرة، قرر- نظرًا لظروفه المالية- تحمل كل دولة مشاركة فى بطولة المكسيك، قيمة تذاكر سفر أعضاء فريقها بالطائرة، وهى لفريق بناتنا، ألف وخمسمائة دولار لكل تذكرة، تساوى ثلاثين ألف جنيه، بإجمالى نصف مليون جنيه، لن تسمح ميزانية الاتحاد المصرى للكرة الطائرة بتحملها، حتى لو وصل الأمر إلى توقيع الاتحاد الدولى للعبة عقوبة عليه، نتيجة امتناع الفريق المصرى عن المشاركة فى البطولة، قد تصل إلى إيقاف نشاط الاتحاد نفسه!.
هل تتخيلون معى مدى فجيعة هؤلاء البنات، ومدى العار الذى يحيق باسم مصر.. هل تدركون أن جزءًا من ملامح الصورة المصرية، التى نحاول إعادة رسمها فى المحافل الدولية، يضيع بأيدينا، ونحن لا نحرك ساكناً.. لا الاتحاد المصرى ولا وزارة الشباب والرياضة، اللهم إلا برنامجًا أسبوعيًا على فضائية خاصة، أصابت الحالة، مقدمته، بغصة فى الحلق، فقررت مناشدة كل ذى عقل، أن يهب لنجدة الفريق المصرى، والاتحاد المصرى من أزمتهما.. خاطبت رعاة يمكن أن يتحملوا تكاليف سفر بناتنا، رهانًا على بطلات فى الرياضة، ورهانًا على فتيات، لايزال مستقبلهن أمامهن، وهن أرض خصبة، لبطولات قد تمتد بطول عمرهن الرياضى.. وكانت الاستجابة الفورية!.
لم تأت من إيمان اتحادنا المصرى ووزارة الشباب بأن لدينا فريقًا مؤهلًا لبطولة عالمية، يقف نصف مليون جنيه، حائلًا دون تحقيقه حلما مصريا جديدا، على أرض أمريكا اللاتينية، ولا بإيمان من مسئول بأن الأموال التى ستدفع من أجل مصر، فى صورة هؤلاء البنات البطلات، هى أموال مستردة، فى سمعة مصر، ودفعًا لشريحة جديدة من قوتها الناعمة، نحو مشاركة عالمية، تضيف إلى مكانة مصر بين العالمين، ولا تطبيقًا عمليًا لما ننادى به فى عام الشباب، ولا ضرورة تبنى المبدعين منه وأصحاب القدرات الاستثنائية، ولا أى شىء يمكن أن نتحدث عنه، ونسوّد به بياض صفحات كثيرة.. كانت الاستجابة من رجل أعمال إماراتى تعمل شركاته فى مصر، رأى أن أرض الكنانة التى أحبها قائدهم الراحل، الشيخ زايد آل نهيان، رحمه الله، وتقدرها قيادات بلده الحالية، جديرة بمساندة فريق له، يمكن أن يضع بصمة جديدة، فى مكان بعيد من العالم، تعود على مصر بالخير، وتدفع الأمل فى الشباب، بأن جهودهم، من أجل بلدهم، لا تضيع هباءً، أمام عجز مادى هنا، أو تقاعس مسئول هناك!.
لا أقول إنه لم تكن هناك استجابات من رجال أعمال مصريين أُخر، حيال هذا النداء الوطنى، أو أن مسئولًا استفاق بعد النداء، وتحرك بعد تفجر الموقف، فى حلقة برنامج منى الشاذلى.. لكن الانطباع الأول يظل سيد الموقف، واليد الأسبق فى الخير تعلو ما جاء بعدها.. انطباع يتسلل إلينا، بأن كل الخلائق المحبة لمصر تقدر مكانتها، وتثمن دورها فى المنطقة، وتقدر فضلها، وتؤمن بأن الشقيقة الكبرى قوتها قوة لهم، وأن أبناءها أحق بالرعاية والعناية، دون مَنّ ولا أذى، ولا رغبة فى الشهرة أو ذيوع الصوت.. وهذا ما فعله رجل الإمارات الذى رفض ذكر اسمه أو الإشارة إلى شركاته.. لأن ما فعله كان حبًا فى مصر، ربما غاب عن بعض أبنائها، أو شغلتهم دنياهم عن ضرورة الانتصار للوطن.
وأتساءل: هل قعدت بنا عقولنا عن التفكير السليم، واستغلال الفرص والمناسبات لرفعة شأن مصر، خاصة فى المحافل الدولية؟.. هل نبخل على ما هو ضرورى، فى وقت ننفق فيه ببذخ على ما يمكن الاستغناء عنه؟.. هل نعى أن بطولة عالمية فى المكسيك، تشارك فيها مصر إلى جانب خمس عشرة دولة من أصقاع الدنيا، ستكون منقولة على شاشات العالم، وأن أخبارها ستملأ الدنيا، وأن وجودنا، ضمن فعاليات هذه البطولة، هو حملة علاقات عامة. لو أردنا واحدة مثلها، لدفعنا عشرات ملايين الدولارات، لتحقق واحدًا مما يمكن أن تتركه المشاركة المصرية فى البطولة المكسيكية، من آثار إيجابية فى عيون العالم، لأن مصر حققت نصرًا رياضيًا، فى بطولة إفريقيا لكرة الطائرة، وها هى تشارك فى بطولة عالمية، ببنات لم يتجاوزن العشرين من أعمارهن؟. هى أسئلة كثيرة لا تنتهى.. ولكنها لا تصادف أذنًا تسمع أو عقولا ًتفهم!. حفظ الله مصر.. من كيد الكائدين.