محمد الباز يكتب: السيد يسين .. الشيخ الصاخب الذي يصارع الموت
لا يملك تلاميذ ومريدو المفكر الكبير السيد يسين إلا أن يطلبوا من الله له الشفاء.
الكاتب الذى لم يترك قلمه طوال حياته المهنية التى تزيد على 65 عامًا، يقترب هو الآن من عامه الخامس والثمانين- اضطر إلى أن يتخلى عنه، وهو راقد على فراش بارد فى غرفة العناية المركزة بمستشفى دار الفؤاد.
مرضه الشديد، وحالته الصحية الحرجة، منعا محبيه من أن يلقوا عليه نظرة ولو عابرة، بعضهم يعتقد أنها يمكن أن تكون الأخيرة، فأستاذهم الذى خاض معارك كثيرة فى الحياة والسياسة، ولم يستسلم مرة واحدة، يبدو أنه سيضع الرحال هذه المرة.
عرفت السيد يسين كاتبا، عبرت على بعض كتبه، وكانت تستوقفنى كثير من مقالاته، وأعترف بأن بعضًا من الكتاب لا تستطيع الادعاء بأنك تعرفهم لمجرد أنك تقرأ لهم أو حتى عنهم. لابد أن تجلس معهم، أن تتحدث إليهم وجهًا لوجه. تعرفت عليه فى منتصف 2014.
كانت الثورة، التى اقترب عمرها من عام، تعانى من عنف الإخوان وتراجعات بعض من انضموا لصفوفها، وجدوا أنها بالنسبة لهم بلا مكاسب تقريبًا، فبدأوا فى طعنها بلا رحمة.
كنت أجهز ملفًا عن ثورة 30 يونيو، توقفت قليلًا أمام توصيفها بكلمة شاملة، تحيط بكل ما جرى فيها، وازنت بين عدة تعبيرات، لكننى التقطت الوصف من مقال كتبه يسين، وكان مفروضًا أن يكون جزءًا من الملف، فإذا بى أضعه فاتحة له، قال قولًا فصلًا، فما حدث فى 30 يونيو «انقلاب شعبى».
هذا ما حدث بالفعل، فنحن إمام انقلاب كبير، قام به الشعب المصرى على حاكم أقل ما يقال عنه إنه كان عارًا على مصر كلها.
امتدت جلسات النقاش بينى وبين السيد يسين، دع آراءه وأفكاره جانبا، اختلف معه ومعها كما تشاء، تعلق بذيله إذا أردت، فما جعل إعجابى به يتجدد كل يوم، أنه وهو الذى تجاوز الخامسة والثمانين من عمره، لا يكف عن القراءة والكتابة والمتابعة، لا يصدر كتاب جديد فى مصر والعالم العربى ربما فى العالم إلا ويعرف على الأقل طرفًا مما فيه، لا يكتب فى الصحافة كاتب صغير أو كبير إلا ويعرفه، بل يبدى إعجابه إذا كان هناك ما يستحق الإعجاب، بل كان يطلب منى أرقام تليفونات صحفيين شباب، قرأ لهم ما أثار انتباهه وإعجابه، ويريد أن يتحدث معهم بنفسه.
قليلون هم من عرفت من الكتاب والمثقفين المصريين والعرب الذين يؤمنون عمليًا بما يطرحونه من أفكار نظرية.
السيد يسين كان واحدًا من هذا القليل.
هو ليبرالى كامل.. تقاطعت معه فى موقفين تأكدت منهما أنه لا يبدى شيئًا غير ما يخفيه.
يقول إنه يؤمن بحرية الرأى، ولما وقفت معه على المحك تأكدت من ذلك تماما.
كان الدكتور جابر عصفور بعد عودته للحكومة فى وزارة الدكتور حازم الببلاوى عقب 30 يونيو قد شكل لجنة لوضع استراتيجية ثقافية لمصر، ووجدنا أن إجمالى أعمار أعضاء هذه اللجنة يقترب من 1500 سنة، فقد كان أقلهم عمرًا يتجاوز الخامسة والسبعين، سخرنا من اللجنة وفلسفة اختيارها، وبالطبع أوردنا اسمه فى التقرير.
توقعت أن يغضب، لكنه اتصل بى وضحك بشدة، أعجبته ملاحظة جمع أعمار اللجنة، وقال لى: مش هتبطلوا شقاوة.
لم ينه يسين المكالمة إلا بمناقشة واضحة وحادة حول مسألة العواجيز.
قبلها وعقب ثورة 25 يناير، كان قد كتب: مطالب بعض النشطاء الذين رفعوا شعار آن الأوان لدولة العواجيز أن ترحل - لا تصح، فلا مجتمع حقيقيًا ينحى أجيالًا كاملة عن القرار أو التفكير. الأجيال الجديدة لا تقرأ وكل ما يهمها هو فيسبوك وتويتر والشات والعبث الإلكترونى.
كنت أعرف موقفه من صراع الشباب بعد الثورة مع جيله وربما مع أجيال تالية له، لكنه هذه المرة تحدث بعنف عما يسمى سياسة تمكين الشباب، قال: أى كلام عن تمكين الشباب كلام فارغ تماما، دول شوية عيال، مفروض يتعلموا ويتدربوا وبعدين يبقوا يمكنوهم، مفيش مجتمع ممكن يفكر بالطريقة دى، ومفيش بلد ممكن تقف على رجليها لو خضعت لابتزاز الشباب.
مرة ثانية وكان الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى قد ارتقى إلى ربه، وبعدها بأيام ترددت شائعة عن موت الكاتبة الكبيرة نوال السعدواى، وقادنا الشر المهنى أن ننسج تقريرًا نضع فيه أسماء الكبار من الفنانين والكتاب والمثقفين والسياسيين، وأشرنا إلى أنهم جميعًا على قائمة الانتظار.
وجدته يتصل بى، هذه المرة، وبعد العتاب الرقيق على هذه الفكرة الشيطانية التى مؤكد أنها ستغضب من وردت أسماؤهم على هامشها، وستجعلهم يكرهون من كتب ومن نشر، لأنه لا أحد يريد أن يحدثه الآخرون عن موته، حتى ولو بالإشارة، وجدته يضحك بشدة، ويقول لى: بس إنت مش ملاحظ إنك محطتش اسمى فى القايمة دى.
قلت له: نسينا والله يا أستاذنا؟
فرد ضاحكًا: أهو ده اللى كان ناقص.
لم يتعصب السيد يسين لرأى أو لفكرة فيما دار بينى وبينه من مناقشات.
لكنه لم يكن يتسامح أبدًا فى الموقف من ثورة 30 يونيو، كان يرى من يطعنون فى الجيش المصرى وما قام به، مجموعة من الرعاع الذين لا يعون أهمية أن يكون لدينا وطن مستقر هادئ نعيش له وبه.
لم يكن السيد يسين رافضًا لثورة 25 يناير كثورة، فهو كباحث ومتخصص فى علم الاجتماع السياسى يعرف جيدًا أن الثورة كانت ضرورة، لكنه كره ما نتج عنها، ولم يكن غريبًا أن يصف ما حدث فى يناير بأنه كان انقلابًا سياسيًا وانفلاتًا اجتماعيًا.
قبل أن تعيب عليه ما قاله، أو تنقض على فكرته، عليك أن تقرأ فقط ما كتبه نصًا: بعد ثورة يناير أصبح المصريون جميعًا يعملون فى السياسة، وبات هناك إسراف فى العمل بالسياسة، والكل أصبح يفتى، سواء كان يعلم أو لا يعلم.
لم يتحدث السيد يسين هنا كسياسى أو رجل من رجالات عهد مبارك، فهو لم يكن كذلك، فقد عبر عصورًا مختلفة أخلص فيها لما يعتقد أنه صحيح، بغض النظر عن رأى الآخرين فيه، ولكنه تحدث كباحث يعرف جيدًا الأثر المدمر الذى سيجنيه المجتمع من انقلاب الأوضاع وانفلاتها، وأعتقد أن كثيرًا مما تخوف منه جرى.
ربما كان هذا تحديدًا سببًا واضحًا ومباشرًا فى امتنان السيد يسين لثورة 30 يونيو.
التعبير صحيح، لا شبهة خطأ فيه، لم يكن مؤيدًا لما جرى على يد الشعب والجيش، بل كان ممتنًا له، اعتبر أن هذه الثورة استعادة للوعى، لم يقل مرة إنها مكملة لـ25 يناير، ولكنه اعتبرها ثورة كاملة، منفصلة ومتفردة، وعلى من قاموا بها أن يحموها.
وربما كان هذا أيضًا سببًا فى خوفه الشديد على تجربة عبدالفتاح السيسى السياسية، كان يراه منقذًا يحتاج إلى دعم الجميع، ولذلك رأيته غاضبًا بشدة بعد عودته من لقاء الرئيس بالمثقفين، قال لى: المشهد كان مؤسفًا جدًا، لأول مرة أرى رئيس الدولة أكثر وعيًا وقدرة على التواصل من المثقفين، الذين لا يهتم كل منهم إلا بأن يتحدث، رغم أنهم فعليًا لم يقولوا شيئًا له قيمة.
كان السيد يسين حادًا فى مواجهته مع جماعة الإخوان وكل من ينتمى إليها، ولم تكن هذه الحدة نتيجة دراسة فقط.
ولا معرفة عابرة من خلال موقعه كباحث فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية (1957 – 1963).
ولا من خلال إدارته المباشرة لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ( 1975 – 1994).
ولا من خلال بحوثه التى أشرف عليها ونفذها منذ العام 1994، عندما أصبح أستاذًا متفرغًا فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية.
ولا من خلال رئاسته للمجلس العربى للبحوث والدراسات، وهو المركز الذى كانت مهمته الأولى والأساسية كشف كل ما يتعلق بجماعة الإخوان وكل من ينتمى إليها إلى يوم الدين.
عرف السيد يسين جماعة الإخوان المسملين جيدا، لأنه ببساطة كان إخوانيا.
وقبل أن تتعجب سأقول لك، نعم كان كذلك، عندما كان طالبًا فى الثانوية العامة، فى الخمسينيات تقريبا، دخل الإخوان كأى شاب كانت الجماعة تعرف جيدًا كيف تخطط لاقتناصه، لكنه بعد أن أنهى دراسته فى كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، أنقذ نفسه من أنياب جماعة لا ترى إلا نفسها، ولا تعمل إلا من أجل مصلحتها، فلا قيمة عندها لشعب ولا لأرض ولا لدولة، وهو ما جعله متيقظًا فى كل كتاباته لأهدافها ومراميها القاتلة.
تنتظر أن أستعرض لك كتابات وأفكار السيد يسين، تنتظر أن أقول لك عدد كتبه ومقالاته وأحاديثه الصحفية والتليفزيونية والجوائز التى حصدها، واللجان التى شارك فيها، ورسائل الماجستير والدكتوراه التى أسهم فى مناقشتها، كل هذا سهل وبسيط ويمكنك أن تطلع عليه، فالمعرفة متاحة، ثم إننى لن أفعل ذلك، لأننى أعرف أنه فى النهاية لا يبقى من الكاتب إلا ما قدمه للحياة من قيمة إنسانية، من تغيير فى حياة الناس ومصائرهم.
كل ما كتبه السيد يسين سيصبح تراثًا، أرشيفًا ورقيًا أو إلكترونيًا.
بعد سنوات لن يلتفت إليه إلا من يبحثون عنه، لكن تأملوا تجربته، واعرفوا جيدًا عنه، إنه عاش كما أراد، لم يستسلم رغم أن الحياة لم تمنحه ما يستحق، فلا يزال يشعر بحرج من معاشه الهزيل الذى تقاضاه من الأهرام بعد أن منحها أجمل سنوات عمره، ولايزال يتحسر على من تقدموا الصفوف رغم أنهم بلا كفاءة على الإطلاق.
قيمة السيد يسين أنه علمنا جميعًا أن الحياة لا تروق إلا بما تنجزه فيها، فتمسك بأن تكون رقمًا إيجابيًا حتى نفسك الأخير.
قد تعتبر أننى أنعى الرجل، أتعجل موته.
هذا خيالك المريض وحده، ففوق أن الأعمار بيد الله، فإن أمثال السيد يسين لا نعى لهم حتى لو ماتوا، فهم فعليًا لا يموتون، ثم إننى تعلمت أن كلمة واحدة عنك أو عنى ونحن على قيد الحياة، أفضل من كتاب كامل بعد أن نموت.
ادعوا لمفكرنا الكبير بالشفاء.. وادعوا لأنفسكم بالرحمة.