محمد الباز يكتب: هل نفتقد الأستاذ هيكل حقًا؟
فى ١٧ فبراير من العام الماضى، جمع الأستاذ محمد حسنين هيكل أوراقه، وقرر أن ينهى رحلته التى امتدت لـ٩٣ عامًا فى حياة صاخبة، ملأها عملًا وإنجازًا، كان مغرمًا خلالها بجعل العالم من حوله يعيش فى قلق، فالكاتب، أى كاتب، من المفروض أنه جاء إلى العالم ليزعجه، لا ليطمئنه ويجعله مسترخيا هادئ البال.
تسابق أصدقاؤه ومحبوه وتلاميذه ومريدوه، وهم كثيرون، للكتابة عن ذكرياتهم معه، مواقفه السياسية والإنسانية، أفكاره وآرائه، أسراره وأحاديثه الخاصة، وزاد أحدهم وقال إنه يفتقد إطلالته علينا، وهى إطلالة كانت تبعث الحيوية فى المشهد السياسى.
لا يمكن لأحد أن يعيب على دراويش الأستاذ حديثهم المطول عنه، لكننى أعتقد أن كل ما كُتب عنه حتى الآن يفتقد الاحترافية، فهى كتابات عشوائية لا يضمها سياق واحد، فما قدمه هيكل للصحافة المصرية وللفكر السياسى العالمى يستحق دراسات منضبطة، تمكن الأجيال القادمة من التعرف عليه بشكل منظم وعلمى، بدلًا من أن يضيع بين سطور وصفحات المذكرات والكتابات الإنشائية التى كان يمقتها بشدة.
سأتوقف فقط عند من يبدون انزعاجًا من غياب هيكل، يمكن أن تلتمس لهم العذر، لأنهم يفتقدونه إنسانيًا، قَرَّبَ كثيرين منه خلال سنواته الأخيرة، وبعضهم بنى شرعيته فقط على أنه جلس إليه أو استمع منه، أو أجرى حوارًا معه، وعليه يشعرون بغربة شديدة من دونه.
خارج هذه الدائرة، أعتقد أن غياب هيكل لم يمثل أى فراغ من أى نوع، ففى السنوات الأخيرة كان ما يقوله هيكل أقرب إلى الطاقة السلبية، وصلات من الندب على ما يجرى على الأرض، دون تقديم رؤى واضحة لما يجب علينا عمله.
الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، فى ضميرى المهنى هو الصحفى الأول والأوحد المكتمل فى تاريخ الصحافة العربية، لكنه فعليًا أصبح ماضيًا، ما قاله يناسب عصره وزمانه، وعلى من يذرفون الدموع على غيابه أن يشتبكوا مع الواقع بتحدياته، بدلًا من تصدير الحسرة على غيابه، وكأنه لو كان موجودًا لتغير شىء فى المعادلة السياسية.
لقد خاض هيكل الحياة، ناسجًا تجربته الخاصة، يعجبك فيها ما يعجبك، ويغضبك فيها ما يغضبك، هى تجربته وحده فى النهاية، وبدلًا من البكاء عليه، ليس علينا إلا أن نلتفت لتجاربنا الحية، نشتبك معها بأفكارنا لا بأفكاره، وبتصوراتنا لا بتصوراته، فنحن الذين نعيش وليس هو.
الذين يتحدثون عن فقدانهم هيكل، يتنازلون طواعية عن أى شرعية لهم فى الحياة والعمل العام والسياسى، المجال أمامكم مفتوح تمامًا، ولا ينقصكم سوى نسج تجاربكم الخاصة كما فعل هو.. قدموا للحياة ما تستحق، ولا تسمحوا لميت أن يحكمنا من قبره، حتى لو كان الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل.