رفـقًـا بكبارنا
إقرأوا هذا الإعلان، وتعالوا معى إلى كلمة ٍ سواء: «أنا شاب 26 سنة من الصعيد ومقيم بالقاهرة، بكالوريوس تجارة، غير مدخِّن صبور وحنون، أرغب بالعمل جليسًا لمسنْ فى المنزل، أجيد التعامل مع المسنـِّين وأيضا أجيد الطهى وجميع الأعمال المنزلية الأخرى!، أرغب بالعمل ولكم جزيل الشكر، رقمى...
....»... هذا الإعلان المنشور على صفحات «الفيس بوك» وأحيانًا فى إعلانات صفحات الجرائد القومية، على قدر مايحرك أحاسيس الشجن والحزن فى روحى، فإنه يحرِّك وبالقدر نفسه الإعجاب والتعجُّب ملايين الأسئلة الواجبة الطرح على الرأى العام فى بلادنا التى يعرض فيها «شاب بكالوريوس تجارة»العمل كجليس لأحد المسنين، تمامًا كما تعرض جليسات الأطفال أنفسهن للعمل مقابل مرتب يسد الحاجة إلى متطلبات الحياة.
وهنا تذكرت على الفور هذه الشريحة التى قد نسيناها كثيرًا فى زحمة أحاديثنا عن الإصلاح والتنمية والخطط المستقبلية للوطن، وعن دور الشباب الفاعل فى تحقيق هذه الخطوط العريضة للأمنيات والأحلام. وعفوًا إن ذكرت عبارة «شريحة قد نسيناها، لأصحح العبارة إلى «شريحة قد تغافلنا عنها» وهى الشريحة التى تمثل حوالى 5% من السكان.. ألا وهى شريحة أصحاب الخبرة والشعر الأبيض وغالبًا الكثير من الأمراض ووهَن العظام وضعف الذاكرة، وهم كبار السن أو المسنِّين، وبتعبير أولاد البلد: الناس الكُبَّـارة! وهم بالفعل كبارة فى الخبرة فى معركة الحياة الطويلة، والمعارك الحياتية لابد أن تترك آثارها على الملامح والأجساد، وتترك بصماتها على جدران الأرواح المتعبة قرب نهاية المشوار، ليعودوا منهكين بعد هذا الماراثون الطويل فى اتجاه المنعطف الأخير الذى قد يطول أو يقصُر، ولكنه بالتأكيد لن يحمل فى طياته الحيوية التى كانت فى أول انطلاق المسيرة. وقفزت إلى ذهنى الآية الكريمة: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ». سورة الروم «54»
من هذا المنطلق، تجيء دعوتى للنظر بعين الرعاية من الدولة تجاه الذين وهبوا حياتهم لوطنهم بكل طاقاتهم، فلا يجب أن نتركهم يلهثون فى نهاية المشوار، وضرورة استصدار التشريعات التى تتيح الراحة وضمان الحياة الكريمة لهم ولأسرهم فيما تبقى لهم من أنفاس على ظهر المعمورة، هذه التشريعات التى لابد أن تشتمل على إقرار معاش محترم وكاف ليكفل تحقيق الإحساس بالآدمية والانتماء للوطن، وبأن فناء سنى حياتهم فى خدمة بلادهم لم تذهب أدراج الرياح، وبأنهم ليسوا عالة على المجتمع الذى قاموابخدمته طيلة عمرهم، مع ضرورة وجوب حق العلاج والعمليات الجراحية لهم على نفقة الدولة، سواء فى المستشفيات العامة أو الخاصة، وإيفاد المحتاج منهم للعلاج فى أوروبا، مع زيادة القوافل الطبية التى تحقق تمام تلك الرعاية العلاجية الواجبة.ولعل التجربة اليابانية الرائعة، خير شاهد على الرفق بهذه الشريحة المهمة فى حياتنا، إذ قامت الحكومة اليابانية بدراسة مستفيضة عن قيمة تكلفة الفرد المعيشية، والمقارنة بينها وبين التكلفة عينها فى «سويسرا»، فاتضح أنها أقل كثيرًا عنها فى اليابان، مع وجود الخدمات العالية والأجواء الصحية النقية، فقامت بإرسال قوافل هؤلاء المسنِّين للإقامة الدائمة بسويسرا، مع تكفل الحكومة بكلالنفقات السنوية بدءًا من تذاكر السفر والإقامة والرعاية إلى أن يقر الله أمرًا كان مفعولاً! فكان هذا أعظم تكريم وتعظيم لقيمة كل من خدم الوطن بأمانة.وآن الأوان لنا اليوم هُنا فى مصرنا الحبيبة أن ننظر إلى هذه الشرائح فى المجتمع بعين الرعاية والعناية، ونطالب الدولة بالإسراع بإنشاء دور الرعاية المجهزة بأحدث تقنيات الأجهزة الطبية، لتكون بمثابة دور إقامة ومشفى على نفقتها من حصيلة دافعى الضرائب، يذهب إليها كل من يرغب معززًا مكرمًا، مع استمرارية الرقابة الفعالة والمستمرة على هذه الدور، حبذا لو جاءت هذه الرقابة من منظمات ومؤسسات المجتمع المدنى والشركات الداعمة والممولة لهذا المشروع الحيوي، لضمان النزاهة والحيدة التامة فى مراجعة ومراقبة أسلوب التعامل مع روادها من المسنِّين، مع الاستعانة بقوافل الشباب الراغب فى العمل فى هذا المجال، للمساهمة فى تخفيض نسبة البطالة التى تفتك بأحلام الشباب.ودعونى أذهب بأحلامى بعيدًا، وأقترح المطالبة بإنشاء «نادى كبار السن» فى كل مربع سكني، وليكن هذا النادى بالدور الأرضى بإحدى العمارات السكنية، نظير اشتراك شهرى زهيد يفى بسداد الإيجار والخدمات، ويمكن إلحاق كافيتريا بسيطة لخدمة الرواد من المسنين، على أن يقوم بعض الشباب بالنظافة والخدمة للرواد، إما بالتطوع المجانى أو بمقابل يومية بسيطة، مع إمكانية تزويد هذا النادى ببعض الأجهزة الرياضية عن طريق التبرعات أو بالمساهمة من القادرين أو الشركات المتخصصة فى الأجهزة الرياضية .
بهذا .. نكون قد أصبنا عدة عصافير على شجرة مشاكلنا المجتمعية المتشابكة، ولنرفع عن كاهل الأسرة المصرية معاناة تحمُّل تكاليف الشيخوخة والعجز التى تقتطع أكثر من ثلث دخل الأسرة فى الإنفاق على الأدوية والعلاج، ونبعد عنهم شبح الخوف من المستقبل المجهول لديهم، وبإقرار تلك القوانين الحتمية، نكون بحق قد رددنا بعضًا من الدَّين لمن أعطونا عصارة رحيق شبابهم.. فرفقًا بكبارنا!