متى تصبح حدائق للرفق بالحيوان!
هل تذكرون كتاب «كليلة ودمنة» والحوارات الشيقة بين الملك «دبشليم» والفيلسوف «بيدبا»؟ والذى قام بترجمته إلى اللغة العربية عبد الله بن المقفـَّع، ولقد كنِّى باسم «المقفع» لأن أصابعه كانت معقوفة من آثار تعذيب الحجاج بن يوسف الثقفى له.. ولكن هذه المعلومة ليست هى الهدف من حديثى عن «كليلة ودمنة»...
... فكتاب «كليلة ودمنة» هو كتاب هادف وليس مجرد سرد لخطابات تشتمل على خرافة حيوانية، بل هو كتاب يهدف إلى النصح الخلقى والإصلاح الاجتماعى والتوجيه السياسى.. وسنعتبر هذه البداية فرصة جيدة للحديث عن لغة الرمز التى استخدمها «ابن المقفع» فى الحديث على لسان الحيوانات.. لإعطاء العظة والعبرة وانتقاد الحاكم الطاغية، وهو ما يقول عنه اليوم أساتذة النقد والأكاديميون فى زماننا هذا لغة الإسقاط والمعادل الموضوعى فى لغة الأدب، للهروب من المواجهة مع أى سلطة باغية تريد الحجر على لغة الإبداع والمبدعين.
ويأخذنى الفيلسوف «بيدبا» ومحاولته فى تجسيد لغة الحيوانات والطيور فى رائعته «كليلة ودمنة» إلى نظرة شاملة لما هو عليه الحال فى حدائق الحيوان فى بلادنا، والمفترض أن تكون أولى رحلات أطفالنا إليها للتعرف على هذا العالم الفريد وعجائب مخلوقات الله العظيم، وتكون هذه الرحلات بريادة الأساتذة الأجلاء دارسى التراث العربى؛ لشرح ما قد يخفى على الصغار من روائع عالم الحيوان؛ ولكى يتدبروا فى خلق الله من أجناس، ولكن للأسف.. نجد هذه الحيوانات الرائعة كالأسرى بين القضبان.. تلمح فى وجوههم ذلـَّة الأسر ونظرة الاستكانة والاستسلام؛ ويخضعون لمن لا يعرف قدرهم من القائمين على حراستها وتغذيتها، وهم فى الغالب مجرد عمالة لا تملك ولو القدر البسيط من الثقافة والعلم، فلا يكفيهم عذابات تلك المخلوقات خلف قضبانها وسجنهم الاضطرارى؛ ليتخذوا منها وسيلة تسلية للزائرين لكسب بعض المال عن طريق إجبارهذه الحيوانات على القيام ببعض الاستعراضات قهرًا وجبرًا تحت نير الكرباج للتخويف والتجويع، ليخضع الحيوان لقهرهم تحت ضغط الجوع والرضوخ لأوامر حارسيهم، دون الاهتمام من القائمين على الحديقة باختيار عناصر مثقفة واعية ومدربة؛ تشرح للسادة الزائرين الأطفال والكبار نبذات سريعة مكثفة عن فصيلة هذه الحيوانات وعمَّن كتب عنها من الأدباء، ليكون استقاء الثقافة فى مهدها ومن مصادر موثوق فى علمها وثقافتها، ونتساءل كم من القائمين على تلك الحراسة قام بدراسة ما كتبه فيلسوف الهند «بيدبا»، وماذا قرأ عن طبائع الحيوان والحكمة والموعظة خلف ما تركه من تراث عظيم؟!.
إننا نهيب بالسادة القائمين على تلك المنشآت الحيوية فى بلادنا، إعطاء القدر الكافى من الاهتمام بمن يعملون على شئون الحراسة والتغذية لتلك الحيوانات خلف قضبان سجنها الأبدي، من قبيل الرحمة والعطف والشفقة، وتعميم الاستفادة العلمية والمعلوماتية لأجيال من الزائرين، خاصة الأطفال فى سن تحصيل الدروس الأولى فى الحياة، لتنطبع فى ذاكرتهم وأذهانهم طبيعة هذه الروائع من المخلوقات وكيفية التعامل الرحيم معها، فتكون لحظات المتعة ليست فى «الفـُرجة» وقتل الوقت فقط،، ولكن لتصبح بمثابة سياحة عقلية وذهنية يسعى إليها الطفل أو الكبيرعلى حدٍ سواء فى القيام بزيارة هذه الحدائق التى يجب أن تكون مزارًا عالميًا وأحد الأماكن المهمة فى سجل زيارات القادمين إلى بلادنا؛ ولتكون جديرة بمسمى جديد «حديقة الرفق بالحيوان». حينئذ سيعرفون أننا بالفعل وطن ومهد الحضارات التى علمت العالم أبجديات الرقى والرفعة وعظمة الرفق بالحيوان، بل قاموا بتكريم تلك المخلوقات العظيمة بنحتها على جدران المعابد فى طيبة، واتخذوا من أشكالها أقنعة للملوك الذين اعتلوا العرش فى مصر القديمة.
ولا ننسى دعوة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم للرفق بالحيوان وما انطوت عليه أحاديثه من حث على ذلك لنسير على دربه. فالتراحم والرحمة هى غاية كل الديانات السماوية التى بعث بها الله إلى عباده، وهذه قصة من حديث صحيح يقول: «بينما رجل يمشى بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذى كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا فى البهائم أجرًا؟ فقال: فى كل ذات كبد رطبة أجر». وليس هذا فحسب، فإنه قد أوصى بالرحمة عند ذبح الحيوان للمنفعة بالأكل والطهى بوجوب سوق الحيوان إلى مذبحه برفق، وأن يعرض عليه الماء قبل ذبحه، وكانت قمة الإنسانية والرفق عندما أمر بألا يرى الحيوان «شفرة» الذبح التى سيذبح بها! أليس هذا قمة الرحمة والإنسانية، ودرسًا واضحًا لمن يستحلون اليوم دماء البشر بكل الحجج لتأجيج الصراعات الدينية والعرقية، ونرى بأم أعيننا فى شتى البقاع؛ من يرتكبون أعنف الجرائم ضد البشر، متسترين تحت عباءة الدين الحنيف، ودين الرحمة منهم بريء. أفلا يكون لنا فى رسول الله ـ نبى الرحمة ـ أسوةحسنة ؟! ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء!