شيخ النقاد «مندور» فى يوبيله الذهبى
ترى .. ماذا لو أصبح هذا الفتى النابه العنيد وكيلاً للنيابة حسبما كان يخطط فى مقتبل حياته حين التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، هل كانت المكتبة العربية ستثرى بكل هذا النتاج الذى عرفته دنيا الأدب؟
إنه عالمنا العملاق الدكتور محمد مندور، الذى أطلق عليه العقاد ـ رغم خصومتهما الأدبية ـ لقب شيخ النقاد، وبالتعرف على آرائه نجد أن جوهر نظريته النقدية تتجلى فى أن مهمة الأدب إبراز الجمال واستثارة الروح لإمتاعها وليس لإصلاحها، ولذا عارض فكرة الالتزام فى الأدب، لكنه لم ينكر ما يمكن أن يحمله من قيم اجتماعية أو فكرية...
... غير أن هذه القيم ـ فى رأيه ـ يجب أن تنبع من العمل الأدبى نفسه لا أن تكون سابقة التأسيس، أى مقصودة لذاتها . ولكنه فى منتصف الخمسينيات تبنى مقولة النقد الأيديولوجى الذى يُعنى بالمضمون والجمال معًا، وكان يرى أن النقد الأدبى فنٌ لا علم، فهو يقوم على الحس الباطنى النابع من ثقافة الناقد وطبيعة شخصيته وذائقته لا على المنهج العقلى المستند إلى حقائق العلم، لذا وقف مندور موقفًا معارضًا للمذاهب النقدية العلمية، كالنقد النفسى المبنى على اكتشافات علم النفس، وسيظل كتابه «النقد المنهجى عند العرب» معلمًا بارزًا فى مسيرة النقد الأدبى الحديث.
لذا .. يُعد مندور أحد قادة الفكر الحر القديم والحديث، وبرحيله عن عالمنا «1965» سقطت ورقة من تلك الشجرة الكبيرة اليانعة بكبار النوابغ والعباقرة الذين خلدهم الزمان، وتركوا البصمة الواضحة الجلية فى تاريخ الفكر المصرى والعربى المعاصر، خاصة بأفكاره التقدمية، وهو من نشأ فى كنف الأب الذى ينتمى إلى الأجواء الروحية الصوفية، حيث كان يتبع الطريقة النقشبندية ومعناها: النقش على القلوب .. فلا غرو أن يشب الفتى مندور وهو ينقش على القلب كل ماتقع عليه عيناه من كتب وجماليات سواء فى الحياة أو الطبيعة، فقد ترك لنا إلى جانب الترجمات التى قام بها من الفرنسية والإنجليزية إلى اللغة العربية، كتبًا تجاوزت الثلاثين كتابًا فى شتى قضايا الفكر والأدب والنقد، كما ترجم ثمانية كتب، التى لم تقف على النقد وحده، بل نقد النقاد أيضًا، وأسهم فى المسرح ولو فى مرحلة متأخرة نسبيًا، وحسنًا فعلت وزارة الثقافة بإقامتها احتفالية باليوبيل الذهبى لذكرى رحيل الدكتور محمد مندور، بالمجلس الأعلى للثقافة مؤخرًا، بمشاركة أدباء ومفكرين وسياسيين من مصر والأردن ولبنان والمغرب وتونس، تمحورت حول محمد مندور بين الفكر الأدبى والفكر السياسى.
وعن أهميتها قال وزير الثقافة إن: « الاحتفالية مهمة، حيث جاءت لإحياء ذكرى شخصية رائدة فى الثقافة المصرية والعربية، وهو الدكتور محمد مندور، الذى لم يكن ناقدًا أدبيًا فقط، بل سياسيًا وصحفيًا بامتياز»، ومن أجل هذا المفكر العظيم القيمة والقامة، توقف أمامه طويلاً الكثيرون من أدباء مصر وبخاصة الأديب الكبير الراحل الأستاذ فؤاد قنديل فى كتابه «محمد مندور: شيخ النقاد»، فى طبعتين.
وتحدث عنه أحد أبرز تلامذته المفكر والأديب الكبير أ.د. فوزى فهمى، رئيس أكاديمية الفنون الأسبق الذى حياه وكرمه فى أكثر من مقال ساردًا علاقة الأستاذ بتلميذه علام تنبنى وكيف تقوم، فهى تبدأ بالافتنان وتنتهى بالتمرد، وإن لم يتمرد على أستاذه أبدًا، فقد استقى منه الاختلاف فى الرأى واحترام ذلك. رحم الله شيخ النقاد وأمد فى عمر تلامذته ممن ساروا على دربه عطاء وعلمًا!