كارثة لحقت بـ «خير جليس»!
«.. وخَيرُ جَليس فى الزَّمَانِ كتابُ!».. هكذا قال الشاعر أبوالطيب المتنبى فى سالف الزمان، وكان يهدف إلى التنبيه إلى أهمية هذا الرفيق العظيم الذى يجعلك تسبح فى عوالم رائعة تهِب لك المعرفة؛ وتفتح لك النوافذ المضيئة على مسارات العالم من حولك، برغم أن عصر المتنبى لم تكن فيه آلات الطباعة العملاقة التى نشهدها فى عصرنا الحديث، وكانت الكتب عبارة عن مخطوطات يعكف عليها «الورَّاقين» لإخراجها بخط اليد...
... ويتم تداولها بين أيدى طالبى العلم والثقافة للوقوف على آخر ابداعات العقل البشرى من فنون وعلوم، بل كانوا يقطعون الصحراء بمئات الفراسخ على ظهور الإبل؛ ليحصلوا على ما تنامى إلى علمهم عن مدونات عبر أحاديث التجار الذين يجوبون المشارق والمغارب ليكونوا بمثابة وكالات الأنباء لدينا.
وبما أن قضية الكتاب لمن يبدأ أولى خطواته على درب العلم والمعرفة والتلقى تعد جوهرية، كانت نظرتى نحو الكتاب المدرسى الذى يحفر بإزميله أولى النقوش على جدران عقول الأجيال الصاعدة، لكونه من أهم الوسائل التعليمية لارتباطه المباشر بالطلاب والمعلمين، نظرًا للمفترض أن يحتويه بين دفتيه من أهداف سامية راقية؛ تمثل خارطة ومنهجًا ينتهجه المعلّم للسير فى عملية التدريس؛ تحقيقًا للوصول إلى الأهداف المرجوَّة بحسب الاستراتيجية التى تضعها الدولة نصب عينيها ويتم تكليف الخبراء والتربويين لهذه المهمة القومية فى المقام الأول.
وعند قيامى بتصفح بعض من الكتب المدرسية المقررة ضمن مناهج هذا العام، وجدت بعضا مما طالعته من رسومات صاحبت الدروس قد غلب عليها سوء الإخراج ورداءة الرسوم شكلاً ومحتوى؛ وكأننا عدمنا الفنانين والرسامين الأفذاذ الذين يفهمون عقلية وسيكولوجية الطفل والطالب المصرى بوجهٍ عام، الأمر الذى يجعلنا نخشى عليهم من تقويض أركان وبنيان ذائقتهم الفنية، وإهدار لملكاتهم الإبداعية فى الخلق والابتكار ولو على سبيل التقليد لما تحتويه كتبهم التى بين أيديهم، اللهم إلا إذا كان الهدف هو تغييب العقول الشابة عن قيم الحق والخير والجمال التى تربينا عليها منذ نعومة أظفارنا. وتأكدت من حقيقة شعورى من خلال صرخات أولياء الأمور على صفحات التواصل الاجتماعى وشكواهم المُرَّة من محتوى الكتب الدراسية التى لا ترتقى إلى ما نصبو إليه من علم وتحصيل جاد تتفاعل معه عقول أولادنا فى مقاعد الدرس والتحصيل، وليظل سؤالنا معلقًا مفاده.. أين دور اللجان والأجهزة الرقابية على الكتاب المدرسى ومحتواه؟ والأمل أن يتم تكوين لجان على أعلى مستوى من أساتذة الجامعات وعلماء التربية والنفس، مع مشاركة جمعية الفنون الجميلة التى تقوم بترشيح الفنانين التشكيليين أصحاب الرؤية فى هذا المجال، حتى يتم إخراج الكتاب المدرسى بشكل يُقبل عليه الطلاب بكل الحب وحتى لا يكون أداة منفرة تجعل الطالب يهرب منها إلى الكتاب الخارجى الذى برع مخرجوه فى التفنن لجذب القوة الشرائية له، وبهذا تكون الدولة قد خسرت مايوازى مليار جنيه تنفقها على كتاب لايقرأه أحد ولايعجب به أحد!
ترى.. إلى من نتوجه بهذا النداء العاجل لتدارك هذه الكارثة قبل أن تستفحل ويصعب السيطرة عليها، خاصة ونحن فى بداية العام الدراسى الجديد وقد بدأ دوران العجلة التعليمية التى ستطحن بقسوة عقول أطفالنا وشبابنا وهم الأمل المنشود فى غد أجمل وأرقى مما نحن فيه الآن؟ خاصة ونحن نحاول الخروج الآن من كهف التجريف الذى أصاب كل أركان الحياة فى مصر خاصة فى ظل غياب استراتيجية واضحة لمناهج التعليم، فلم تعد أهمية التعليم محل جدل فى أى مكان فى العالم، وألف باء المعرفة أن تقدُّم الأمم ورفعتها يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياسة التى تنتهجها تجاه ما يكون بين أيدى طالبى المعرفة والثقافة من طلائع الأجيال المتعطشة إلى الفهم والإدراك والوعى، فلقد تغيرت المفاهيم فى جوهر الصراع بين الأمم باختلاف أشكاله وألوانه سياسيًاواقتصاديًا وعسكريًا، فالأساس هو صراع تعليمى بحت ومن يقوده ويحمل صولجانه فى المقدمة هو «الكتاب» الذى نحن بصدد التنبيه إلى خطورة مايحمله بين دفتيه، فلا يكون كالبندقية المحشوة بالرصاص لاتفرز سوى القتل والدماء، وصحيح أنه تشبيه مع الفارق، ولكنى برؤيتى أراه أكثر خطرًا بهذا الشكل الذى بين أيدينا من السلاح الموجه إلى الصدور، ﻷنه يبتر العقول زينة الإنسان.. رجاء.. أغيثوا خير جليس!