القصد جنوب لبنان وليس حزب الله وحده!
لم يُطق رئيس الوزراء الإسرائيلى صبرًا على وقف إطلاق النار فى لبنان، رغم أنه لم ينقضِ على سريانه أكثر من ثمانى وأربعين ساعة.. إذ قال الجيش الإسرائيلى، فى بيان مساء أمس الخميس، إن سلاح الجو استخدم ضربات دقيقة لإطلاق النار على من سماهم «إرهابيين»، والقصد هنا أعضاء من حزب الله فى جنوب لبنان، بعد أن حدَّد جنوده اثنين منهم، يصلان إلى قاعدة «إرهابية» معروفة، كانت بمثابة نقطة إطلاق لعشرات الصواريخ تجاه إسرائيل.. ونتيجة لذلك، بقى الجيش الإسرائيلى فى جنوب لبنان، ويُقال إنه نفذ أيضًا غارتين فى صيدا.. وقد أصدر نتنياهو، فى اليوم نفسه، تعليماته للجيش بالاستعداد لحرب شاملة مُحتملة فى لبنان، محذرًا من التصعيد فى حال انتهاك وقف إطلاق النار الذى تم التوصل إليه مؤخرًا.. وفى بيان صحفى، أكد نتنياهو أن «التهديد فى الشمال انخفض بشكل كبير»، معتبرًا أن العمليات العسكرية «نجحت فى الحد من المخاطر على طول الحدود الشمالية لإسرائيل».. وطمأن المواطنين بأن الحياة الطبيعية ستعود مع استقرار الوضع.
وفى وقت سابق من الخميس، أفاد الجيش اللبنانى عن خروقات متعددة لوقف إطلاق النار من قبل القوات الإسرائيلية، من خلال طلعات جوية واعتداءات على الأراضى اللبنانية، وذكر أنه «وعقب الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار، خرق العدو الإسرائيلى الاتفاق عدة مرات، من خلال الخروقات الجوية واستهداف الأراضى اللبنانية بأسلحة مختلفة.. وتقوم قيادة الجيش اللبنانى برصد هذه الخروقات بالتنسيق مع الجهات المعنية».. فى الوقت نفسه، أشار رئيس الأركان، هيرتسى هاليفى، إلى أن الجيش الإسرائيلى يتجه نحو مرحلة جديدة فى الحرب مع لبنان: «نحن نعلم على وجه التحديد، أن حزب الله توَّصل إلى هذا الاتفاق من موقف الضرورة والضعف.. وبالقوة نفسها التى استخدمناها لتأمين الاتفاق، سننفذه الآن، لا أقل من ذلك.. أى انحراف عن هذا الاتفاق سيتم تنفيذه بالنار.. القيادة الشمالية تعرف هذا.. ولكن أكثر من ذلك، فإن سكان الشمال يراقبون الآن، ويريدون أن يروا أننا ننفذ هذا الأمر بحزم، حتى يتمكنوا من العودة إلى ديارهم.. هذا هو واجبنا تجاههم، وواجبنا تجاه أنفسنا.. لذلك، سنمضى قدمًا بعزم لا يتزعزع فى تنفيذ هذا الأمر».. فهل يصمد وقف إطلاق النار أمام رغبة إسرائيل فى القضاء التام على حزب الله، وإعادة تشكيل الدولة اللبنانية؟.. وهل سيتحلى حزب الله بضبط النفس أمام خروقات إسرائيل، بأسباب مُخْتَلَقة؟
●●●
ستواجه إسرائيل معضلات جديدة فى التعامل مع انتهاكات وقف إطلاق النار العلنية وغير الواضحة، حيث قد يُشكل كل صاروخ من لبنان صداعًا سياسيًا محتملًا لها.. فبعد ما يقرب من أربعة عشر شهرًا من القتال، الذى شمل العديد من العمليات القتالية ضد حزب الله فى لبنان، وافقت إسرائيل على وقف إطلاق النار.. وورغم أن هيئة تحرير صحيفة «وول ستريت جورنال» أعلنت عن انتصار إسرائيل، فإن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ومستشاريه لم يذهبوا إلى هذا الحد فى تصريحاتهم العلنية وإحاطاتهم الخاصة، بل وعدوا بأن إسرائيل ستحقق «النصر الكامل» الذى طالما سعت إليه فى المستقبل.. وشدد نتنياهو على أن «الحرب لن تنتهى حتى نحقق جميع أهدافها، بما فى ذلك عودة سكان الشمال سالمين إلى ديارهم»، على حد قوله.. لقد وُلِد هذا الموقف، على الأقل جزئيًا، من الاعتراف بأن وقف إطلاق النار وآليات تطبيقه غير المجربة، من شأنه أن يؤدى إلى سيناريوهات مُعقدة بالنسبة لإسرائيل، فى محاولتها الحفاظ على أمن مواطنيها، فى مواجهة محاولات حزب الله شبه المؤكدة لإعادة تجميع صفوفه وتهديد إسرائيل.
ليس هناك شك فى أن إسرائيل أضرت، إلى حد ما بحزب الله.. أدت عملية أجهزة «البيجر» فى سبتمبر، التى أعقبتها تصفية زعيم الحزب، حسن نصر الله، وكبار قادة قوة الرضوان النخبوية، إلى إخراج الجماعة عن توازنها.. كما أدى استمرار تصيُّد قادة وحدات الحزب الميدانية، إلى مزيد من تدهورها، وإدخالها فى حالة من الفوضى المؤقتة.. وأدى الغزو البرى، الذى استمر شهرين، إلى تدمير بعض البنية التحتية والأسلحة التى بناها حزب الله على مر السنين، كجزء من خطة ضرب الأسوار الهشة لإسرائيل فى الكيبوتسات الحدودية والقواعد العسكرية.. لقد اختفى الكثير من ترسانة حزب الله من الصواريخ والقذائف.. قبل شهر، قال وزير الدفاع الإسرائيلى آنذاك، يوآف جالانت للضباط، إن 80% من مخزون حزب الله قد دُمر؛ وقد ارتفعت هذه الأرقام منذ ذلك الحين.. وهو زعم لا يقوم عليه دليل أكيد.
ولعل الأهم من ذلك كله، هو أن الحاجز النفسى الذى منع إسرائيل لسنوات، من القيام بأى شىء ضد حزب الله فى لبنان، قد تم تفكيكه.. فقبل الحملة الحالية، كان القادة الإسرائيليون يعتقدون أن تصعيد العنف مع حزب الله، يعنى إطلاق آلاف الصواريخ على الجبهة الداخلية وشلل المجتمع الإسرائيلى.. والآن، وفقًا لنتنياهو، فإن حزب الله لم «يُعد عقودًا إلى الوراء) فحسب، بل تم إخضاعه إلى الحد الذى لم يعد بمقدور حماس الاعتماد عليه حليفًا للمساعدة.. وأضاف أن وقف إطلاق النار: «يفصل الجبهات ويعزل حماس.. فمنذ اليوم الثانى للحرب، كانت حماس تعتمد على حزب الله للقتال إلى جانبها.. ومع خروج حزب الله من الصورة، أصبحت حماس وحيدة.. وسوف نزيد من ضغوطنا عليها، وهذا من شأنه أن يساعدنا فى مهمتنا المقدسة المتمثلة فى إطلاق سراح رهائننا»!!
وبعيدًا عن مكاسبها فى الحرب، تُصر إسرائيل على الحفاظ على حرية ضرب حزب الله، إذا حاول التحايل من وجهة نظرها على وقف إطلاق النار، كما قال نتنياهو، قبل وقت قصير من مصادقة مجلسه الأمنى على وقف إطلاق النار: «إذا انتهك حزب الله الاتفاق وحاول تسليح نفسه، فسنهاجم. وإذا حاول إعادة بناء البنية التحتية للإرهاب بالقرب من الحدود، فسنهاجم. وإذا أطلق صاروخًا، وإذا حفر نفقًا، وإذا أحضر شاحنة تحمل صواريخ، فسنهاجم».. إن ضرب حزب الله عندما ينتهك وقف إطلاق النار يبدو أمرًا مباشرًا، ولكن إذا أعادت إسرائيل سكانها الشماليين إلى ديارهم، فمن المرجح أن تجد نفسها فى مواجهة مُعضلات مُعقدة، بشأن أى رد على حزب الله.. إذا تم رصد فرقة صواريخ مضادة للدبابات، تابعة لحزب الله تزحف نحو الحدود، فلن ينزعج أحد من ضربة للجيش الإسرائيلى.. لكن حزب الله يعرف كيف يستخدم أدواته لأغراض عسكرية، ومن المؤكد أن هناك مناطق رمادية سوف تظهر.. إذا قام المزارعون فى لبنان بتصوير قوات الجيش الإسرائيلى عبر الحدود على هواتفهم، فهل تهاجم إسرائيل؟.. وإذا توجه ثمانية رجال على دراجات نارية نحو الحدود، فهل تهاجم إسرائيل؟.. هذا ما حدث بالأمس!!.. إذا قام حزب الله بتقليد تكتيك حماس الفعال، وطلب من المدنيين إطلاق البالونات الحارقة تجاه الحقول الإسرائيلية، فهل يأمر نتنياهو بشن هجوم؟
من المفترض أن تتقدم إسرائيل بأى شكاوى إلى هيئة رقابية جديدة، تقودها الآن الولايات المتحدة وفرنسا.. فهل تسمحان لإسرائيل بالعمل فى السيناريوهات المذكورة آنفًا؟.. وما العقوبات التى قد تفرضها إسرائيل إذا تجاهلت قرارات اللجنة؟.. الإجابات واضحة.. ومن المؤكد أن حزب الله سوف يكون عازمًا على إظهار أنه لا يزال فى القتال، وسوف يسعى إلى إعادة إرساء قدر من الردع ضد إسرائيل، التى أقسم على تدميرها.. قد تتجاهل إسرائيل الرسالة الأمريكية، التى تُبارك حقها فى العمل ضد حزب الله، ولكن الجماعة ستفعل كل ما فى وسعها لتقييد وتعقيد هذه الحرية فى العمل.. إن الجهود الرامية إلى الحد من قدرة إسرائيل على القيام بعمل عسكرى، بعد انتهاكات وقف إطلاق النار، قد تأتى فى شكل إطلاق صاروخ أو اثنين على منطقة شمال إسرائيل المُعاد توطينها.. وفى المرة الأولى التى يُطلق فيها حزب الله صواريخه، ويُرسل السكان إلى غرفهم الآمنة والملاجئ، من المفترض أن ترد إسرائيل بإطلاق النار على مطلقى الصواريخ، وسوف يعود الهدوء الهش، وستواصل إسرائيل استهداف الخروقات الأخرى الأقل وضوحًا.. ولكن من المرجح أن يُطلق حزب الله المزيد من الصواريخ بعد ذلك، فى رد ظاهرى، ما يخلق مشاكل عملية وسياسية لنتنياهو.
قبل وقف إطلاق النار، لم يكن إطلاق صاروخ من حزب الله على شمال إسرائيل سببًا فى إثارة غضب الحكومة الإسرائيلية.. والآن، بعد أن عاد الهدوء إلى طبيعته، أصبح كل صاروخ يشكل تحديًا مباشرًا لوقف إطلاق النار، ووعد نتنياهو القاطع بالرد على أى انتهاك.. كم عدد صافرات الإنذار التى سينتظرها السكان العائدون حديثًا إلى المجتمعات الشمالية، قبل أن يقرروا أن الحكومة لم تضمن سلامتهم، ويعودون إلى الجنوب مرة أخرى؟.. من المؤكد أن السياسيين المعارضين وأعضاء الائتلاف، مثل وزير الأمن القومى، إيتمار بن جفير، سوف يهرعون إلى استديوهات التليفزيون، مُعلنين أن الحكومة مُتساهلة للغاية، ولا تعرف كيف توفر الأمن للشمال المُحاصر.. وفى ظل هذه الظروف، تُصبح التكلفة السياسية المترتبة على كل إجراء تنفيذى تتخذه القوات الإسرائيلية، عاملًا مؤثرًا فى تصميم الحكومة على العمل ضد حزب الله.. وإذا كُرِرَت هذه العملية مرات عديدة، فسوف تظهر قواعد جديدة للعبة، حيث يعمل حزب الله مرة أخرى على ترسيخ قوة الردع.
لا تستطيع إسرائيل منع حزب الله من إعادة التسلح.. فمن الصعب بما فيه الكفاية، وقف تهريب الأسلحة بوجود قوات متمركزة على طول الحدود.. ومن المستحيل القيام بذلك باستخدام الأقمار الصناعية والطائرات دون طيار، رغم أن إسرائيل قادرة على إبطاء خط الإمداد، وفرض تكلفة على حزب الله ورعاته الإيرانيين.. وتُكلف اتفاقية وقف إطلاق النار القوات المسلحة اللبنانية بمراقبة وإنفاذ «أى دخول غير مصرح به للأسلحة والمواد ذات الصلة إلى داخل لبنان وفى جميع أنحائه، بما فى ذلك من خلال جميع المعابر الحدودية»، لكن من الصعب أن نتخيل أن تقف القوات المسلحة اللبنانية فى وجه حزب الله، الأقوى بكثير، أو فيلق الحرس الثورى الإسلامى الإيرانى، أثناء عملهما على إعادة البناء.. وليس من الواضح على الإطلاق، كيف يمكن لنتنياهو أن ينجو من هذا السيناريو.. ذلك أن أى عملية برية محدودة أخرى، سوف تؤدى إلى إطلاق المزيد من الصواريخ على شمال إسرائيل، فضلًا عن الاعتراف بأن وقف إطلاق النار هذا، كان غير مدروس.
إن شن غزو شامل بهدف تدمير القوة العسكرية لحزب الله ليس أمرًا مُرجحًا أيضًا.. فبعد أربعة عشر شهرًا من القتال، أصبح الجيش الإسرائيلى قوة منهكة.. فقد دخل جنود الاحتياط جولتهم الرابعة من الخدمة، كما أن مخزونات الذخائر منخفضة.. وهذا يعنى خوض حرب طويلة ومُعقدة فى ظل ظروف غير مثالية، على أقل تقدير.. وفى الوقت نفسه، ونظرًا للعملية العسكرية التى نفذتها إسرائيل فى لبنان، فإن صدور قرار جديد ومُحسَّن من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701، هو أفضل ما يمكن أن تتوقعه إسرائيل.. ولم يقاتل جيش الدفاع الإسرائيلى لتدمير التنظيم العسكرى لحزب الله، بل عمل ضد بنيته التحتية فى قرى حدودية خالية فى أغلبها.. لقد أدت الغارات الجوية فى بيروت وأماكن أخرى فى لبنان، إلى تدمير مخازن الصواريخ وقتل المزيد من القادة، ولكن الكثير من قوات حزب الله لا يزال سليمًا.. فهو لا يزال يحتفظ بأغلب مقاتليه، ونظام قيادة وسيطرة مُنخفض ولكنه فعال، والكثير من معداته.. لقد أصبح ميزان الردع مائلًا بشكل حاسم لصالح إسرائيل؛ وإلا لما وافق حزب الله على وقف إطلاق النار.. ولكن الحزب لا يزال مقاتلًا قويًا، وهو يعمل بالفعل على تحويل هذا التوازن إلى الوراء.
●●●
يقولون، لكل حكاية بداية، ووراء كل حدث أسباب، ترسم خيوطه وتحدد مُجرياته.. ويُخطئ من يظن، أن خيار الدخول البرى الإسرائيلى جنوب لبنان، هو التحدى الأبرز، الذى قد يؤدى إلى إخلاء المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطانى من سلاح حزب الله، وتحديدًا فرقة الرضوان النخبوية، ليصبح النهر هو خط التماس الجديد بدلًا من الخط الأزرق، وتصبح الحرب دائرة فى داخل الجغرافيا اللبنانية، لا بين لبنان وإسرائيل.. بالعكس، فهناك من يقول، إنه «من الناحية التاريخية، فإن جنوب لبنان هو فى الواقع جزء من شمال إسرائيل، وجذور الشعب اليهودى فى المنطقة عميقة»!!.. إذ يقول مايكل فرويند، الذى شغل منصب نائب مدير الاتصالات فى حكومة نتنياهو، بينما تقاتل القوات الإسرائيلية لتطهير جنوب لبنان من إرهابيى حزب الله، فمن الجدير تسليط الضوء على حقيقة تاريخية مثيرة للاهتمام، والتى يبدو أن كثيرين قد نسوها.. وبما أننا نشأنا فى ظل وجود حدود دولية بين الدولة اليهودية وجيراننا إلى الشمال، فإننا نعتبر أن هذا هو الوضع الذى كان عليه الأمر دائمًا، وهذا ما ينبغى أن يكون عليه.. لكن الحقيقة هى أن الحدود الحالية بين إسرائيل ولبنان لا يزيد عمرها على قرن من الزمان، وهى حدود مصطنعة بالكامل، من بقايا زمن كان فيه المستعمرون الأوروبيون يرسمون خطوطًا على الخرائط، على زجاجة براندى فى غرف مليئة بالدخان.. وقد تناسى فرويند، أن عمر الكيان الإسرائيلى، لا يتجاوز الستة وسبعين عامًا فقط.. فأين كانت إسرائيل قبل القرن الذى يقول به هذا الكاتب؟
بل إنه مُصرٌ على أنه من الناحية التاريخية، فإن جنوب لبنان هو فى الواقع شمال إسرائيل، وجذور الشعب اليهودى فى المنطقة عميقة.. وسواء كان من الممكن أو ينبغى أن تُترجم هذه الحقيقة الآن إلى واقع سياسى، فهذه مسألة أكثر تعقيدًا، ولكن لا يمكن إنكار ارتباطنا بالأرض.. ويدعى أنه، فى العصور التوراتية، كان جنوب لبنان جزءًا واضحًا من أرض إسرائيل.. فى سفر التكوين «10:19» يقول: «وكانت حدود كنعان تمتد من صيدا نحو جرار إلى غزة، ثم نحو سدوم وعمورة وأدمة وتسيبويم إلى لاشع».. تقع صيدا، وهى مدينة فى لبنان، فى منتصف الطريق تقريبًا بين الحدود الإسرائيلية الحالية وبيروت.. وقبل وفاته بقليل، بارك بطريركنا التوراتى يعقوب أبناءه الاثنى عشر، وكانت البركة التى أعطاها لزبولون، هى «ويسكن زبولون عند شاطئ البحر ويكون ميناء سفن، ويكون تخومه إلى صيدا».. ويذكر سفر يشوع «13: 6» صيدا صراحةً باعتبارها المدينة الموعودة للشعب اليهودى، ويقول، أيضًا، إن حدود سبط آشير كانت تمتد إلى صيدا.
ومن المثير للاهتمام يقول فرويند إن المدراش فى سفر تكوين ربة «39: 8»، يقول إنه فى صور، وهى مدينة تقع الآن على بعد 12 ميلًا شمال الحدود الإسرائيلية، وعد الله إبراهيم بأرض إسرائيل.. ويقتبس المدراش عن الحاخام لاوى قوله: «عندما كان إبراهيم يسافر عبر آرام النهرين وآرام ناحور، رآهم يأكلون ويشربون ويمرحون.. قال: ليت نصيبى لا يكون فى هذه الأرض.. وعندما وصل رأس صور، رآهم مشغولين بإزالة الأعشاب الضارة فى وقت إزالة الأعشاب الضارة، والحرث فى وقت الحراثة.. قال: ليت نصيبى يكون فى هذه الأرض.. قال له القدوس المبارك: لنسلك أعطى هذه الأرض».. ويمكن العثور على أدلة أخرى على الارتباط اليهودى بالمنطقة، فى مختلف الأماكن المقدسة ومقابر الصالحين فى جنوب لبنان!!، وأشهرها قبر زبولون فى صيدا، الذى ظل لعدة قرون مكانًا للحج لليهود من مختلف أنحاء المنطقة وخارجها.. وفى القرن السادس عشر، زار الحاخام الإيطالى، موشيه باسولا، القبر وكتب عنه، وفى منتصف القرن الثامن عشر، قال الحاخام يوسف سوفير، إن العائلات كانت تجتمع وتقيم وجبات احتفالية بجواره.. ووصف الحاخام ناتان من بريسلوف، تجربة روحية ملهمة فى قبر زبولون؛ وعندما زار السير موسى مونتيفيورى إسرائيل فى القرن التاسع عشر، سافر أيضًا لرؤيته.
روايات لم يقم عليها دليل من التراث، أو أحداث فى التاريخ، بل إنها لا تتجاوز المزاعم والأكاذيب الإسرائيلية، التى دأبت عليها حكومات الكيان الصهيونى، الذى ثبت أنه كثيرًا ما سيّر رجالًا يُغيرون معالم الأماكن فى جنوب لبنان، لدعم أكاذيبهم التاريخية.. ولعلنا نذكر ما أعلنه الجيش الإسرائيلى، مساء الأربعاء، العشرين من نوفمبر الجارى، عن مقتل الباحث الجيولوجى الشهير، زئيف الرايخ 71 عامًا فى معارك جنوبى لبنان، بعد انضمامه إلى نشاط عملياتى لقوة من لواء جولانى، دخلت خلالها إلى قلعة أثرية مُطلة على مدينة صور فى إحدى قرى جنوب لبنان.. وقد أظهر مقطع فيديو متداول، الباحث الجيولوجى زئيف الرايخ، وهو يرتدى زيًا عسكريًا ومسلحًا، ويقدم بعض النصائح لوحدة جولانى.
نعود إلى فرويند، الذى يزعم أن قبر شخصية توراتية أخرى، وهو أهولياف بن أخيساماخ، الذى ساعد بتسلئيل فى بناء المسكن فى البرية، يقع فى قرية سجود فى جنوب لبنان.. وحسب زعم عالم الآثار الإسرائيلى، تسفى إيلان، فإن قبر أهولياف، كان موقعًا مهمًا للحج اليهودى خلال الفترة العثمانية.. كما كان العرب المحليون يقدسون الموقع، ويقولون إنه قبر «نبى يهودى».. وحتى أوائل القرن العشرين، اعتاد اليهود فى صفد السفر إلى القبر لأداء عادة «أوب شيرين»، وهى أول قصة شعر للصبى، وهو أمر شائع فى الوقت الحاضر فى ميرون.. ومن الأماكن المقدسة اليهودية الأخرى فى جنوب لبنان، قبر النبى التوراتى، صفنيا، الذى يقع فى قرية جبل صافى اللبنانية.. ويتكهن البعض بأن اسم القرية مشتق من اسم النبى الذى دُفن هناك.. ولعل من غير المستغرب، أن يقع أحد أقدم المعابد اليهودية فى العالم، فى حارة اليهود فى صيدا.. وقد بُنى هذا المعبد قبل نحو 1200 عام، ويُعتقد أنه بُنى على موقع بيت عبادة يهودى أقدم، يعود تاريخه إلى فترة ما بعد تدمير الهيكل الثانى.. ورغم أنه لم يعد قيد الاستخدام، بسبب هجرة معظم اليهود اللبنانيين خلال الحرب الأهلية فى البلاد بين عامى 1975 و1990، فإنه يقف كشهادة صامتة على الوجود اليهودى الطويل الأمد فى المنطقة!! انتهى.
وهنا، يخلط الكاتب الإسرائيلى بين اليهودية كديانة سماوية، كان أصحابها موجودين فى الكثير من البلدان العربية، ويمثلون جزءًا من النسيج الاجتماعى لهذه الدول، دون أن يعنى ذلك، أن أى دولة من هؤلاء كانت يهودية، وبين إسرائيل ككيان صهيونى، اتخذ من اليهودية، رغم كونها ديانة، وجعل منها قومية، تبريرًا لاحتلاله أرض فلسطين، وطمعه فى المزيد من الأراضى العربية.. ولكى يزيدنا الكاتب من الشعر بيتًا، قال إنه فى وقت سابق من هذا العام، تأسست منظمة إسرائيلية تدعى «أورى تسافون»، أو «استيقظ يا شمال»، بهدف تشجيع الاستيطان اليهودى فى جنوب لبنان، ودعت الحكومة إلى التحرك.. ورغم أن البعض قد ينظر إلى هذه الفكرة باعتبارها فكرة بعيدة المنال، يضيف فرويند: فمن الجدير أن نتذكر، أنه قبل قرن من الزمان فقط، كانت فكرة الدولة اليهودية ذات السيادة بعيدة المنال أيضًا.. فى نهاية المطاف، تميل أحلام اليوم إلى التنبؤ بواقع الغد، وخصوصًا فى الشرق الأوسط!!
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين