صندوق الدنيا.. أم شاشة السينما؟ !
كنا فى صباح العيد صغارًا .. نتلقف «العيدية» ونهرع لتلبية النداء الذى ننتظره بفارغ صبر : قرَّب قرَّب .. واتفرج يا سلام ! لنجلس مع صحبتنا الأليفة على «الدكّة الخشبية» فى الهواء الطلق، بعد أن نختبئ خلف «ستارة» بسيطة تحجب الضوء عن عيوننا التى نضعها فى الدوائر البللورية ؛ وسرعان ما ننتقل فى غمضة عين إلى عالم جميل يشبه السحر وعالم الأساطير لنشاهد العجب العُجاب من حواديت تراثنا المصرى والعربى ؛ ونشاهد بأم أعيننا قصص ست الحسن والجمال والشاطر حسن والبقرة الذهبية التى كانت تنطق بأسرار القصور، وقصة أبو زيد الهلالى سلامة، والأميرة ذات الهمة، وعنترة بن شداد، وشمشون ودليلة، والزير سالم.ونعيش مع القصص المصرية والعربية التى تضارع قصص الإلياذة والأوديسَّا التى كتبها «هوميروس» نقلاً عن تراثنا العربى الثرى بكل المواعظ والحكم الإنسانية التى ترتقى بالذوق العام وجمالياته .
إنه «صندوق الدنيا» .. حيث كان يضارع مسرح خيال الظل ،هذا الصندوق الخشبى الذى يحتوى على فتحات صغيرة وله فى كل طرف أسطوانة تحتوى على القصص التاريخية وصور الأبطال والصناديد الذين صنعوا التاريخ وتركوا بصماتهم البطولية عليه، وكان هذا الصندوق العجيب بمثابة «سينما العصر وتليفزيونه»؛ وهو عالم المعرفة والمعارف التى تلقيناها صغارًا وشببنا على قصص أمجاد وروائع بطولات أبطاله وأحداثهم التاريخية فى معارك البطولة والشرف وتلقين أبسط قواعد المعاملات الإنسانية والذوق الرفيع، ويقول الباحثون إن المصرى الوطنى العبقرى اخترع هذا الصندوق السحرى ليحارب الاحتلال البغيض بعرض القصص التى تحمل «إسقاطات» على الواقع لتوعية المصريين بخطورة الاحتلال والتجهيز للتخلص منه لنيل الحرية للوطن، وكانت الأحداث داخل الصندوق تتوالى - وكأنها حقيقة - ويشرحها لنا ماكنا نناديه بـ «عم دنيا» فى لغة سهلة بسيطة تأتى إلينا وكأنها آتية من وديان السحر والجمال لتزرع فينا حب الانتماء للوطن وأبطاله الشرفاء .
ولكن - وآه من كلمة لكن هذه- جاءت بشائر العيد السعيد، لتخرج علينا إرهاصات الإعلان على الشاشات الفضية والبوتاجازات والصنابير عن «سينما العيد» القادم ؛ وما ستجىء به شاشتها من الفتوحات العنترية والانقلاب المنتظر فى عالم «قواميس اللغة» المتدنية التى يفخر كاتبوها بأنها تحمل كل ما هو قمىء من شتائم كالصواريخ الموجهة ـ بكل الأسف ـ للأمهات والآباء، وكأنها المؤامرة الكبرى على عقليات شبابنا ومجتمعنا بالكامل، وتهدر كل القيم الطيبة وتهدم أواصر الأسرة المصرية ورباطها المقدس، وتُصدر المفاهيم الخاطئة عن المجتمع المصرى البرىء براءة الذئب من دم ابن يعقوب من هذه الموبقات التى ألصقوها بالمصرى ظلمًا وعدوانًـا وافتئاتًا على تراثه اللغوى والحضارى الذى لم يعرف سوى اللغة العالية طوال تاريخه منذ نحتها على جدران المعابد والقصور، وكانت لغة سامقة محترمة وكأنها لغة «الشعر» الرصين ومفرداته التى تعلو بالذوق العام .وكنا نتعشم أن ترتقى لغة السينما المصرية بما تملكه من تقنيات ومن مستحدثات التكنولوجيا فى عصرنا هذا، إلى مانجح فيه مسرح خيال الظل وصندوق الدنيا - وحتى فن الأراجوز - الذى كان يجوب الشوارع والحوارى والأزقة والعطوف فى جنبات مصر المحروسة، يُعلِّم الناس كل القيم الرفيعة ويزرع بذور الذائقة الجمالية فى الوجدان الشعبى ؛ بلا مقاعد وثيرة ولا قاعات مكيفة ولا أثمان باهظة للمشاهدة، ولكننا اكتشفنا أن العيب ليس فى الآلات الحديثة ولا فى التكنولوجيا المتقدمة، ولكن العيب فى العقول والرءوس التى تدير العملية الإنتاجية برمتها، وهى العقلية التى تسعى إلى الربح البحت بصرف النظر عن ضرورة احترام القيم الأخلاقية التى تربى عليها الإحساس الجمعى المصرى، فاتجهوا إلى مخاطبة الفئة الشاردة عن المجتمع التى تبحث عن مشاهد العنف والجنس ودخان المخدرات الأزرق الذى يُذهب العقول والأفئدة دونما حسيب أو رقيب، ونعود باللائمة على المجتمع والشباب، ولا ننكر وجود تقصير من جانب الأجهزة المعنية بشئون الثقافة فعليها أن تعمل على ردع هؤلاء وضرورة إلزامهم بانتهاج سياسة إنتاجية تخضع لمفاهيم وقيم المجتمع، بالعودة إلى انتقاء الأعمال الروائية لكبار الكتاب بتحويلها إلى أعمال سينمائية جادة لا تخدش عينًا ولا تؤذى سمعًا بل تغذى عقولًا وتربى وجدانًا وتسهم فى تربية أجيال على ذائقة راقية تلفظ الردئ وتميز الحميد، حتى نراها فى المستقبل القريب منافسة لحكاوى التراث الشعبى التى كنا نشاهدها فى العيد ونحن صغار فى .. صندوق الدنيا !
وكل عام وأنتم ومصر بكل الخير والسلام .