تأملات حول مقاطعة «السلع الغذائية»
لم لانشرع فى تأمل ما وصلنا إليه من مفارقات غريبة تجتاح المجتمع المصرى، منها مسألة الرسم البيانى المتصاعد بجنون لمؤشرات الأسعار فى كل السلع الضرورية، ضاربةً فى مقتل مصادر حياته من غذاء وشراب وملبس ونحوه، الأمر الذى حدا بالبعض إلى تبنى حملة على صفحات التواصل الاجتماعى تدعوإلى المقاطعة، واقتصرت هذه الدعوة على ضرورة مقاطعة «اللحوم» ؛ احتجاجًا على ارتفاع أسعارها بشكل خيالى يقصم ظهر الغالبية الفقيرة، وكأن المجتمع المصرى يقوم من نومه صباحًا بادئًا معاناة يومه المرهق بالتهام اللحم المشوى «على الريق»، متغافلين عن نار الغلاء التى اشتعلت حتى فى أبسط مستلزمات الأسر بدءًا من رغيف الخبز، فأصبحت مادة لسخرية رسامى الكاريكاتير والمواطن البسيط الذى لاتهمه مسألة اللحوم على وجه الخصوص، ولكن يهمه فى المقام الأول أسعار مكونات وجبته البسيطة التى لايزورها «اللحم» إلا فى المواسم والأعياد وهى عادات أصيلة فى المجتمع تعتمد احتفالياتها على تلاوين الطعام.
فأصبحنا فى حال تشبه النكتة القديمة عن فنادق الدرجة الثالثة ذات «اللحاف» الواحد، على مشارف «محطة مصر، هذه الفنادق التى يرتادها المرهقون من وعثاء السفر فيتم تسكينهم بعد تسليمهم «اللحاف» الأوحد لديهم، وهم فى غاية الاطمئنان أن «النزيل» سينام خلال دقائق، وبعدها يتم سحب «اللحاف» لتسكين آخر أوقعه حظه العاثر فى هذا الفندق . وهكذا جاءت الدعوة ذات الاتجاه الواحد بمقاطعة اللحوم لتصنع ستارًا كثيفًا خادعًا يعمى الأبصار والعقول للتغافل عن بقية معاملات سوق البيع والشراء الذى أصبح بلا ضابط ولا رابط، وضربت مؤشراته الدرجات القصوى فى جداول الأسعار المتعارف عليهاونتج عنها ارتفاع، ففى المنتجات البروتينية البديلة. ومن دعوا إلى هذه المقاطعة تناسوا وجود النباتيين الذين لا يهمهم اللحم من قريب أو بعيد وهم شريحة كبيرة عن اقتناع أو عن فقر جيب. أما المواطن العادى فقد وجد فى مقاطعتها بغيته بعدما كان نائماً فى العسل ملقيًا حموله على «جمعية حماية المستهلك» التى خذلته فضاعت حقوقه واشتعلت الأسعار بدلاً من أن تناسب دخله كتوطئة لمقاطعات جديدة يديرها المواطنون للهيمنة على جشع التجار وتقويضه.
ولنا كمصريين تجارب سابقة أتت ثمارها فى مقاطعة اللحوم من سيدات حى «المعادى» منذ سنوات واستطاعت أن ترضخ الجزارين فوضعوا قائمة أسعار أكثر ملاءمة لدخل الأسر. والغريب أننا لانهتم بموضوع الغذاء والإحساس بمن يقرصهم الجوع إلا فى شهر رمضان الفضيل وقتئذ فقط يكثر الحديث عن «بنك الطعام» وما يقدمه من خدمات لإيصال الغذاء وبعض السلع الغذائية الضرورية لشريحة كبيرة من الفقراء والمحتاجين، والسؤال: لماذا لايمتد هذا العمل الخيرى على مدار العام؟! وبشكل أكثر كثافة لأن فصل الشتاء يمثل معاناة كبيرة للبسطاء من برودة الجو ونقص المؤن الغذائية التى ترفع مناعتهم ليقاوموا نزلات البرد وأمراض الشتاء ألايكفيهم معاناتهم من قرس البرد؟! فلم لانقيهم قرص الجوع والوهن خاصة الأطفال والشيوخ، ومن يشاهد برامج الطبخ على الشاشات يجدالاستفزاز الحقيقى من برامج تقدم مالذ وطاب من وجبات تحتوى على مكونات لاطاقة للبيت المصرى بها ودور هذه البرامج أن تسيل لعاب المشاهدين فى منازلهم وتغذى لديهم الغريزة الشرائية لبعض المنتجات والمكونات مرتفعة الأثمان ليدخلوها فى وصفاتهم متناسين تمامًا أن الفئة المقتدرة ليست الوحيدة التى تشاهد برامجهم وإن تعللوا بوجود بعض البرامج التى «على قد الإيد» إلا أنها تعتمد بشكل أساسى أيضاً على الوجبات المحتوية على اللحوم والدواجن والمكسرات والبهار وخلافه.
وتجد ربة البيت نفسها تعانى من مطالبة أطفالها بنوعيات مما شاهدوه من وجبات لاطاقة لميزانية المنزل بها فيشعرون بالحرمان فلصغر عمرهم لن يقدروا الأمور فى حجمها الحقيقى بل سيفسرونها بأن طلباتهم لاتجاب وستعانى الأم سخط الأبناء وضيقهم وبخاصة عندما يقابلون أقرانهم من المقتدرين ويجدونهم يباهون بما ليس لديهم مقدرة على التهامه من أطايب الطعام.. وهكذا نجد أن الخلل فى أمر ينسحب وراءه متاعب كثيرة مجتمعنا فى غنى عنها. أملى كمواطنة مصرية ينصب فى هذه اللحظة على ألا أرى فى بلدى طفلًا محرومًا ولا جائعًا فـ»الجوع كافر» ـ كما يقولون ـ نريد أن يُطعم الجميع والأمر جد هيّـن لو اهتممنا به بشكل حقيقى فخيرات بلادنا لاحصر لها وهذا من فضل الله فلم لاتهتم الجهات المعنية بمساعدة المواطنين على القضاء على الفئة المستغلة من التجار وأن تُحكم الحكومة قبضتها على الأسواق وتدفع بالمراقبين الشرفاء لإيقاع العقوبة على من يخالف قوائم الأسعار الحقيقية المنصوص عليها من الأجهزة المعنية، فالشبع بجانب فوائده الصحية والنفسية يحمى المواطن من مغريات كثيرة قد يتعرض لها للقيام بأعمال ضد مصلحة الوطن كما شاهدنا من استقطاب لأولاد الشوارع فى أعمال تخريبية فى فترة عصيبة مررنا بها مازالت عالقة فى أذهاننا حتى الآن. فلنسد الثغور والثغرات ياقوم!
■ أستاذ الدراسات اللغوية ــ أكاديمية الفنون