دعوة إلى تكريم الروَّاد
... ليدرك أنه لم يعش عمره يحرث فى البحر. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم ؛ لما نراه هذه الأيام من اعتلاء منصات التتويج والتكريم لكثير ممن لم يتركوا بصمة واضحة متفردة فى المجالات التى كُرموا من أجلها، ونجد ـ بكل الأسف ـ أن أحضان صفحات الجرائد القومية واللاقومية تُفتح لهم على مصراعيها بالمانشيتات العريضة وبكل ألوان الطيف الإعلامى، ونجد فى الوقت نفسه تجاهلا عظيمًا إنحسارًا لعمالقة الرواد عن الأضواء فى جميع الفنون والعلوم والآداب والموسيقى وغيرها؛ ربما فى غفلة منهم وعدم تداركهم أن هذا النسيان يؤدى ـ بالضرورة ـ إلى تصدير الإحباطات لكل من أسهم وشارك بعقله وفنه ليسمو بعطائه المائز ناشدًا الولوج إلى صفحات التاريخ، متناسين أن هذا التكريم سيكون بمثابة منح شهادة ميلاد جديدة واعتراف صريح بتلك الجهود الحثيثة طوال مشوارهم، وحافز للأجيال الجديدة من المبدعين على الخلق والإبداع والابتكار والسير على نهج أساتذتهم الذين منحتهم الدولة كل التكريم والتقدير واعتلاء منصات التتويج، وبهذا تتلاشى الفجوة التى قد تحدث بين تواصل الأجيال التى لابد أن تحافظ على جذوة الإبداع فى توهج مستمر.
وكم كانت سعادتنا فى الأمس القريب عندما شاهدنا ما أثلج صدورنا، عندما تحققت المبادرات الطيبة من أكاديمية الفنون وبعض الجامعات والمراكز العلمية والبحثية بقيامها بتكريم بعض رموز الفن والسياسة والعلم فى مصر والعالم العربى وذلك بمنحهم شهادة الدكتوراه الفخرية فى احتفاليات مهيبة تليق بمنجزاتهم، تكريمًا وتقديرًا لما قدموه من إنتاج سياسى أو علمى أو فكرى أو وجدانى راقٍ له صفة الخلود والتأثير الايجابى على المجتمع.
ولـن أذهب بكم بعيدًا؛ ولن تعصف بى رياح الخجل من الحديث عن رائد من رواد الفن المصرى والموسيقى العربية لم يأخذ حقه ـ فى تقديرى فى التكريم الرسمى من الدولة؛ وهو الذى أعطى جُل إبداعه وفنه الذى تخصص فيه على مدى سنوات عمره؛ لكل ما يحمل على عاتقه الإحساس الوطنى الصادق، فخرجت إلى النور موسيقاه التى علمت أجيالاً كيف يكون الإبداع الحقيقى الذى يحمل أصالة المصرى المخلص لتراث وطنه وجذوره الضاربة فى أعماق التاريخ، هذا الموسيقار المعروف فى الأوساط الفنية والأكاديمية الذى أعتز وأفخر بأننى ابنته التى تعلمت على يديه كل قيم الحق والخير والجمال والإبداع، ذلك هو والدى أ. سيف الدولة حمدان، أستاذ البيانو والغناء المسرحى العربى بأكاديمية الفنون سابقًا والملحن والموزع الموسيقى، ومعه غالبية معاصريه من أبناء جيله الذين لم يحظواـ أيضًاـ بشرف التكريم الرسمى على أى مستوى، برغم جهدهم الدءوب طوال حياتهم فى منح كل جديد من عصارة ابتكاراتهم الفنية والمواكبة لكل الأحداث الوطنية منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضى، ولا زالوا حتى يومنا برغم زحف السنين يقدمون عصارة فكرهم بمنتهى القوة والعزيمة لهذا الوطن وبمنتهى الالتزام والإيثار، ويمنعهم الاعتزاز بالنفس من المطالبة المستحقة بالتكريم والتقدير أسوة بمن يرونهم ممن هم فى عُمر تلامذتهم الذين يعتلون منصات التكريم والتتويج دونما استحقاق .والأدهى والأمرأنهم يديرون ظهورهم لأساتذتهم ممن علموهم!
وأنا متأكدة تمام التأكد أنه لن تلقى فى وجهى تهمة الانحياز والتعصب، لأن دافعى بجانب حبى لأبى أنى وجدت من أفرد كتابًا كاملًا للحديث عن والده وأعماله؛ فلاضير أن أخصص بعضاً من سطورى بالمثل وهو كتاب «من أجل أبى» لنجل فنان الشعب سيد درويش، ولأننى أتحدث عن شخصية عامة بوصفه أستاذًا أكاديميًا ومؤلفًا وموزعًا موسيقيًا؛ له الباع الطويل وسط الشخصيات العامة التى لها إسهاماتها الإيجابية، فأرشيف الإذاعة والتليفزيون يزخر بأعماله إلى جانب مؤلفاته الأكاديمية فى مجال التراث الغنائى المسرحى العربى. فوجدت أنه لا غرو أن نكتب عنه وعن الرواد اليوم بكل الفخر والإعزاز ليروا فى حياتهم تلك اللفتة الواجبة من الدولة والجهات الرسمية التى تحمل لواء الفنون والآداب، وليعيشوا لحظات الفرح التى تشبه فرح الفلاح فى حقول القمح لحظة الحصاد، وهو يمسك بأعواد السنابل الخضراء ويعرف تمام المعرفة أنها ستكون فى لحظة ما «رغيفًا» فى كل يد شريفة تحب الوطن. ترى.. هل سنعيش مع هؤلاء الرواد أجمل لحظات الفرح التى ننتظرها؟
■ أستاذ الدراسات اللغوية ـ أكاديمية الفنون