لغة «حوار» أم «ردح» شعبى فى شارعنا المصرى؟!
...وانعكس هذا على سيناريوهات الأعمال الدرامية بشكل فج، فباتت آذاننا تصطك بما تقشعر له الأبدان من ألفاظ نُسبت ـ زورًا وبهتانًا ـ إلى قاع الحارة المصرية، والحارة المصرية الأصيلة منها براء، تمامًا كما نسمع عن هذا «الردح الشعبى» فى حوارى «روما القديمة» بإيطاليا، أو فى لغة البحارة المتمرسين فى «جنوة» كميناء يتعامل مع كل الطوائف والأطياف من البشر، وكما نقل إلينا الكاتب العظيم « نيكولاى كازنتزاكس» فى رائعته «زوربا» لغة الحوار المتدنية فى حوارى وأزقة جزيرة كريت اليونانية، حيث كان « زوربا» يلتقى بحبيبته « بوبولينا» حيث الطبقة الشعبية المهمشة والمعدمة، وذلك على سبيل المثال، فقد طالعنا الكثير من كتب المؤرخين وعلماء الاجتماع وكتب الأمثال والسيرة الشعبية وحتى ما أرَّخ به «الجبرتى» عن المجتمع المصرى، فلم نعثر إلا على عبارات مايسمى بـ«الردح الشعبى» الذى كان يُمارس فى دائرة محدودة جدًا فى بعض أنحاء جغرافيا القطر المصرى بأكمله، وفى أحياء بعينها كانت تُدار وتشرف عليها السلطات الاستعمارية التى تعمَّدت تمييع وتمزيق الهويَّة المصرية وجيناتها الأصلية الأصيلة.
ولكن .. لماذا انحدرت لغة التخاطب فى الشارع المصرى باختلاف طبقاته واستُحدثت ألفاظًا فى قاموس الشتائم والألفاظ النابية جرت على الألسنة بطريقة «ببغائية» تصحبها أحيانًا حركات إيحائية بلغة الجسد، دونما أدنى ظهور لحُمرة الخجل التى كانت تنتابنا إذا ما اصطدمت آذاننا بالبعض منها مصادفة عبر الطريق، حين يتبادلها العامة والبسطاء أثناء المعارك الكلامية الوقتية على طرق «أكل العيش» فى صراع الحياة اليومية، وكان المصريون إلى عهد قريب مضرب الأمثال والقدوة فى التمسك بالقيم النبيلة ونظافة اللسان، وكان المصرى فى الزمن الجميل يضع نصب عينيه دائمًا قول أمير الشعراء «شوقى بك» المكتوب على أغلفة الكتب والكراسات:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيتْ .. فإن همُوا ذهَبَتْ أخلاقهم ذهبُوا !
وإذا كان البعض يرجع هذا إلى الانفلات الأمنى نتيجة الظروف القهرية الناتجة عن التحولات الاجتماعية الساعية إلى التغيير، فإن الانفلات الأخلاقى كان صنو الانفلات الأمنى لغياب الرادع السريع، خاصة مع أعداد الهاربين من السجون، الذين فرضوا سطوتهم ولغتهم وسلوكياتهم على بعض التجمعات السكانية، وخصوصًا فى المناطق الشعبية مكمن الخطر لتكدسها بالسكان وتفشى الجهل وغياب الوعى بينهم، والمعروف أن السلوك الجمعى بطبيعته يميل إلى التقليد ويتعامل بالخطأ مع مفهوم الحرية الفردية دون مراعاة لقيم المجتمع، والملاحظ أن التردى اللغوى فى معاملاتنا لا يعمل على البناء بل الهدم لكثير من الروابط الإنسانية وتفكيك لُحمة المجتمع، لأن الكلمة الطيبة صدقة تؤلف بين القلوب وتصبغها بالتراحم . لذا كان لزامًا علينا أن نلفت الانتباه إلى هذه الظاهرة المدمرة لوشائج التواصل المجتمعى السليم، فترك أو إهمال لغة الحوار السوى سيحوله إلى معول هدم للقيم والمثُل، ومن هنا نتوجه بادئ ذى بدء إلى الأسرة المصرية نرجوهم الالتفات إلى لغتهم فى الحديث مع الأبناء فهم أول ناقل للغة وألفاظها، وتأتى المدرسة مكمِّلاً يؤكد على هذه التربية السليمة، وبطبيعة الحال سجلت أقلام كثيرة صرخاتها الغيورة على لغتنا من الاندثار فى مناسبات كثيرة نضم إليها صرخة اليوم لنقوى لهجة المطالبة بإنقاذ لغتنا الفصحى والعامية فى آن معًا، لأن الانحطاط فى الاستخدام اللغوى لم يقتصر على ذلك فحسب، بل انسحب على أشياء أخرى سلوكية، وكلنا شهود عيان على الأحداث التى جرت فى السنوات الأربع الماضية والتى تعتبر من الفترات الطارئة فى أرضية المجتمع .
ولكننا لن نبكى على اللبن المسكوب، وآن الأوان أن نبحث عن جذور وأسباب هذا التراجع الذى أصاب المجتمع بكل طوائفه، وكنا فى الماضى ننسب أسبابه إلى الكبت الذى عانى منه المجتمع، يستوى فى هذا الكبت الاجتماعى والسياسى والغياب الأمنى القسرى فى بعض الفترات، وربما فى بعض الأحيان يرجع إلى انشغال الوالدين فى تدبير الأموال لتربية الأبناء وترك تربيتهم إلى الجهات التى لا يعنيها التربية طبقًا للأصول والأعراف، الأمر الذى يتضح معه أن المشكلة تكمن فى غياب استراتيجية واضحة لأساليب وسياسة التعليم فى مصر وخططها للمستقبل .وعلينا الآن أن نسأل أنفسنا: ما الحل؟ وصحيح أنه لن نصل إلى ما ےنريد بين يوم وليلة، ولكن علينا البدء بالتضافر الجاد مع منظمات المجتمع المدنى والقنوات الإعلامية لتدارك هذه المعضلة الشبيهة بالسُّوس الذى ينخر فى جدران المجتمع بالإسراع فى زيادة الاهتمام بالبرامج التى تعمل على إصلاح وتهذيب سلوكيات الأفراد، والابتعاد عن اللهجة الخطابية والتلقين الممل حتى لا نفقـد الذاكرة الأخلاقية التى تربينا عليها وتربى عليها جيل الزمن الجميل الذى منحنا قامات من الأدباء والكتاب والعلماء فى شتى مجالات الحياة لنعود إلى ما كنا عليه، وهنا يأتى فى المقدمة أهمية الوقت لوضع استراتيجية خاصة بمنظومة التعليم فى مصر بدءًا من مرحلة الحضانة حتى الدراسة الجامعية، التعليم ثم التعليم ثم .. ألف مرة التعليم، لا صلاح لمصر ولا نجاة إلا بإصلاح التعليم وموضوع فلسفة التعليم الأساسى أساس ثورة فى التعليم .وعدم إغفال دور «التعليم الفنى» الذى تقلص فى السنوات الأخيرة، بل وينظر إليه البعض نظرة دونية رغم أنه من أهم المراحل التعليمية، مع ضرورة وضع الخطط قصيرة وطويلة الأجل لضمان خلق أجيال تحمل الجينات المصرية الأصيلة بكل سلوكياتها، والتنبيه المستمر على إعلاء دور الأسرة لأنها اللبنة الأولى فى صرح كل المجتمعات، حبذا لو قامت الدولة بعقد المؤتمرات الجماهيرية فى النقابات والجامعات وجميع المؤسسات ؛ للتوعية بدور الفرد وسلوكه فى بناء الأمم، والخروج بقرارات مُلزمة لا مجرد توصيات لا تأخذ طريقها إلا إلى أرفف الأضابير، فبناء الفرد لايقل أهمية عن بناء المصانع. هل من مجيب .. قبل أن يتسع الخرق على الراتق؟
■ أستاذ الدراسات اللغوية ـ أكاديمية الفنون