لغتنا.. وإزاحة الهويَّة المصرية «١-٢»
ماذا تفعل ـ عزيزى القارىء ـ إذا وقفت أمام المرآة ذات صباح؛ فلم تجد ملامح وجهك الذى تعرفه.. ووجدته خليطًا مشوَّش التعابير والقسمات، وتعكس المرآة وجهًا غير وجهك الحقيقى المعجون بكل جينات عائلتك المتوارثة عبرالأجيال؟ هل ستكسر المرآة؟ أم ستعيد النظر فى قسمات وجهك وتكوينه الذى تعكسه بالضرورة أعماقك بحسب الحالة المزاجية والتكوين النفسى الذى جعل المرآة تلتقط صورتك بهذا الشكل المُغاير.
أسوق اليك ـ هذا المثال مع الفارق ـ بالطبع ـ لمحاولة تقريب الهدف الذى أصبو إليه من حديثى عن المرآة وانعكاسات الملامح على صفحتها البيضاء الملساء.تمامًا كما نعرف هويَّتك وملامحك من خلال «اللغة» التى نتبادلها فيما بيننا للكشف عن هويتنا المصرية، وتحمل فى طياتها كل ملامح التراث المصرى الأصيل الذى يعرفه كل من يستمع إليه حتى لو كان من جنسية أجنبية غير عربية فإنه يستدل على ملامح الشخصية المصرية فور الاستماع إلى مفردات وألفاظ ودلالات من يتحدث بها. ولكننا اليوم نواجه الكثير من أنواع «التمييع» لمفردات تلك اللغة المصرية الأصيلة فى شتى المجالات الإعلامية والإعلانية، ويظهر هذا بوضوح فى الدراما المصرية من أفلام ومسلسلات وأغنيات.. إلخ.. ناهيكم عن استمرار هذا التمييع فى اللغة المستحدثة على شبكة التواصل الاجتماعى من «فيس بوك» و«تويتر» وحتى رسائل الجوال وشتى سبل الاتصالات على «النت»، وتلك الظاهرة آخذة فى التفشى والذيوع دون وعى أن فى هذا هدما للغتنا وهويتنا فى آنٍ معًا.. كذا محاولة البعض تضفير تلك اللغة بمصطلحات أجنبية كنوع من الوجاهة الاجتماعية ومحاولة الإبهار والاستعراض الذاتى والفردى، وللأسف تأخذ هذه المصطلحات طريقها على ألسنة المتحدثين فى البرامج الإعلامية والإعلانية لتصبح بمرور الوقت من الثوابت التى لا تقبل التغيير، وتنتقل بدورها كالعدوى لتصبح على ألسنة العامة فى الشارع وتدخل فى لغة الحياة العامة والمعاملات اليومية دون الانتباه إلى ما يحدث من طمس لملامح تلك اللغة الأصيلة، والتى تضيع معها الشخصية والهوية المصرية، والأغرب أننا نواجه مشكلة بين غالبية قطاع الشباب الذى قام بتعريب بعض المصطلحات والمفردات الأجنبية والنطق بها فى لكْنة عربية غريبة على الأذن أصبحت «مسخًا» مشوهًا مُستهجنًا لا يقبله عقل ولا منطق، وانسحب هذا المسخ والتشويه والتمييع على لافتات المحال التجارية، وتحوَّل «المقهى إلى كافيه» وتحولت بقدرة قادر «سوق البقالة إلى سوبر ماركت»، وننادى صاحب أو زميل العمل بكلمة «مستر» رغم أن البديل لغويًـا هى كلمة «السيد» إلى آخره من تلك الألفاظ والألقاب والصفات التى أصبحت تغلب على لغتنا فى الاستعمال دون الأصل، ولاأدل على ذلك من مثال فى استعمال الأطفال منذ نعومة أظفارهم للألعاب والأجهزة الإلكترونية المرتكزة على اللغة الأجنبية، فيكون لها السبق لديهم فى التحصيل اللغوى، لذا فإنهم عند بدء تعلمهم للغة العربية بالمدارس أو الحضانة تجدهم يشعرون بمشقة كبيرة فى تعلم لغتهم العربية «الأم»، إذن فإنه من الضرورى أن نتخلص من «عقدة الخواجة» التى تسيطر على عقول الشباب الذى يتوهم أن استخدام تلك المصطلحات من قبيل التباهى دون إدراكه أن هذه اللغة لا تنتمى إلى صميم لغته العربية الأصيلة. ولكنها موجة مرفوضة نتمنى أن تنحسر فى القريب العاجل، واستثارة دافع الغيرة على اللغة والهوية فى عقول التلاميذ الصغار منذ المرحلة الابتدائية ليتعود النشء الصغار على اللغة الصحيحة السليمة، دون اللجوء إلى مفردات لا تتفق مع مجتمعنا المصرى الذى حافظ على تماسكه بوحدة نسيجه فى اللغة منذ أقدم العصور.. وحتى لا يؤدى هذا إلى انهيار قيم ومثاليات تربَّت عليها كل الأجيال العظيمة من رجالات مصر ونسائها.وهذا التمييع والمسخ والتشويه هو ما تهدف إليه كل الحملات الخارجية التى تحاول النيل من تراثنا ومحاولة محوه بغرض السيطرة والتحكم فى مقدرات الوطن وأهدافه السامية نحو التقدم والازدهار. إذن فهى موجة عاتية ومحاولة استعمار فكرى جديد يحاول غزوالعقلية المصرية ويختلف عن الاستعمار العسكرى بالدبابات والأسلحة والجنود الذى عانينا منه أحقابًا طويلة من الزمن وتحررت منه الإرادة الشعبية المصرية بفضل النهضة الحديثة، ولا يجب العودة إلى تلك الممارسات بالوعى والتوعية بأهمية اللغة الصحيحة السليمة للحفاظ على الشخصية المصرية الخالصة.. والبقية غدًا.
■ مركز اللغات والترجمة ـ أكاديمية الفنون