عيد الغطاس: رمزية القصب والقلقاس وحكايات النيل في التراث المصري
- عيد الغطاس بين الكتب التاريخية والذاكرة الشعبية: من "الخطط المقريزية" إلى "بلامبيصا" الفوانيس البرتقالية
- من النيل إلى القلوب: كيف وحد عيد الغطاس المصريين عبر العصور؟
يحتفل المسيحيون يوم 19 يناير من كل عام بعيد الغطاس، أو كما يُعرف بـ"أبيفانيا" (Epiphany)، وهو أحد الأعياد السيدية الكبرى التي تأتي بعد عيد القيامة والميلاد في الأهمية. العيد يُحيي ذكرى معمودية السيد المسيح في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، ويشكل جزءًا مهمًا من التراث الديني والاحتفالي للشعب المصري.
في هذا الإطار، يُبرز الدكتور عبد الرحيم ريحان، عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة ورئيس حملة الدفاع عن الحضارة، أن مظاهر الاحتفال بعيد الغطاس تختلف حول العالم، ولكن في مصر تمتاز بخصوصية شعبية وثقافية فريدة. يوضح ريحان أن هذا العيد لم يكن مقتصرًا على المسيحيين فقط، بل كان عيدًا شعبيًا يحتفل به المصريون جميعًا، مسلمون ومسيحيون، عبر عصور مختلفة.
عيد الغطاس في كتب التاريخ
تناولت العديد من المصادر التاريخية مظاهر الاحتفال بعيد الغطاس في مصر. أشار المؤرخ المقريزي في كتابه "الخطط المقريزية" إلى الطابع الرسمي والشعبي لهذا العيد. ذكر أن الحاكم آنذاك، برفقة رجال دولته، كان يشارك في الاحتفالات التي تشمل نصب الخيام، إشعال المشاعل، وتوزيع المأكولات على الأهالي. كما أشار إلى عادة غطس المصريين في مياه النيل تبركًا بالمناسبة.
من جانبه، وصف المؤرخ المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" ليلة الغطاس بأنها "أحسن ليالي مصر". أشار إلى أن الاحتفالات كانت تجمع أكثر من مائة ألف شخص على ضفاف النيل وفي المراكب، حيث يضيئون المشاعل ويزينون المراكب ويقدمون المأكولات والمشروبات.
رمزية التعميد
يشير الدكتور ريحان إلى أن عيد الغطاس يُعرف أيضًا بعيد "العماد"، ويرمز إلى معمودية السيد المسيح. يُطلق على المعمدانية اسم "فوتوستيريون" باللغة اليونانية، التي تعني "التنوير"، حيث يمثل طقس التعميد رمزًا للحياة المتجددة والتطهر من الخطايا. ويوضح ريحان أن السيد المسيح تم تعميده في نهر الأردن واقفًا، وأن طقوس التعميد تُجرى في مياه جارية، وإذا لم تكن متاحة، في أي مياه أخرى.
القصب والقلقاس: رمزية الأطعمة في الاحتفال
تؤكد الدكتورة أمنية صلاح، المتخصصة في الفنون القبطية، على أن الأطعمة الشعبية المرتبطة بعيد الغطاس تحمل دلالات رمزية وروحية. القلقاس، على سبيل المثال، يُظهر رمزية التطهر، حيث تتحول المادة السامة التي تخرج منه أثناء غسله إلى مادة نافعة عند تغطيسه في الماء، وهو ما يعكس تطهر المؤمن من الخطايا في طقس المعمودية.
أما القصب، فهو نبات طويل ومستقيم يرمز إلى حياة الاستقامة الروحية. يوضح الدكتور ريحان أن القصب ينقسم إلى عقلات، وكل عقلة تمثل فضيلة اكتسبها المؤمن في كل مرحلة عمرية. كما أن قلب القصب الأبيض يرمز إلى النقاء الداخلي، فيما تشير حلاوته إلى طيب المعشر.
احتفالات الغطاس عالميًا
ينوه الدكتور ريحان إلى اختلاف مظاهر الاحتفال بعيد الغطاس بين دول العالم. ففي اليونان وروسيا، يتم إلقاء صليب في البحر، ويتسابق الشباب لاستعادته. أما في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، ترافق الاحتفالات مواكب ضخمة تُقدم خلالها الهدايا للأطفال على غرار أسطورة المجوس الثلاثة. وفي مصر، يبدأ الاحتفال بالقداس الإلهي، ومباركة المياه، ثم يتم تزيين المنازل بفوانيس مصنوعة من البرتقال، تعرف باسم "بلامبيصا".
أصداء قومية
يُبرز الدكتور علي أحمد الطايش، أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، أن عيد الغطاس كان مناسبة قومية في مصر. أشار إلى منطقة "قصر الشمع" بمصر القديمة، حيث اعتاد الأقباط صناعة الفوانيس والشموع الخاصة بالاحتفال. ويؤكد الطايش أن الحكام في مصر، بغض النظر عن ديانتهم، كانوا يشاركون في هذه المناسبة الشعبية ويأمرون بتوزيع الصدقات وإقامة الزينة.
إرث خالد
لا يزال عيد الغطاس يُحتفى به في مصر كرمز للتعايش والوحدة بين أفراد الشعب، مسلميه ومسيحييه. استمر العيد عبر العصور كشاهد على عبقرية المصريين في تحويل المناسبات الدينية إلى احتفالات شعبية تجمع الجميع، تحمل في طياتها قيم النقاء والتجدد الروحي ورمزية التآخي الوطني.