رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

20 عامًا من اللقاءات مع "أديب نوبل".. سهام ذهني وجها لوجه مع نجيب محفوظ (حوار)

الكاتبة الصحفية سهام
الكاتبة الصحفية سهام ذهني تحاور أديب نوبل

"أنا أشعر بالتعب من ملاحقة الأحاديث المحلية والخارجية لمدة عامين، وبالتعب لما حدث بعيني اللتين أصبحتا كأذني، حيث ضعف البصر بشدة مثلما سبقه ضعف السمع".. رغم أنه صرح لها نجيب محفوظ بهذه الكلمات إلا أنها استطاعت عبر 20 عاما أن تحاوره بواقع لقاء صحفي كل عام؛ بدءً من يناير 1983 حتي يناير 2002؛ وتكشف عّبر لقاءاتها مع نجيب محفوظ ملامح متعددة من شخصيته إنسانيًا ومجتمعيًا بل وسياسيًا.. إنها الكاتبة الصحفية سهام ذهني الصحفية بمجلة "صباح الخير"، ومسئولة تحرير مجلة "سيدتى"، ورئيسة تحرير جريدة "الحلوة"؛ والتي وثقت لقاءاتها بأديب نوبل في كتابها الذي صدر في طبعته الأولي فبراير 2002 عن "كتاب اليوم"  تحت عنوان "ثرثرة مع نجيب محفوظ"؛ وصدر في طبعة جديدة عن "هيئة الكتاب" مؤخرًا ولكن تحت عنوان " أحب رائحة الليمون.. حوارات مع نجيب محفوظ".

للكاتبة الصحفية سهام ذهني مؤلفات أخرى، نذكر منها:"كتاب كلام خاص جدا، الحب والزواج السري، من أيام عبد الناصر والسادات"، وغيرها من المؤلفات التي أثرت المكتبة المصرية والعربية.

و في السطور التالية نصحبكم في رحلة مع الكاتبة الصحفية التي أجرت أطول لقاء صحفي مع عالم أديب نوبل على مدار 20 عاما.

◄ لفت إنتباهي في كتابك المدى الزمني للقاءاتك الصحفيه به والتي استمرت  20 عاما بواقع لقاء صحفي كل عام تقريبًا رغم انه من المعروف عن أديب نوبل قلة لقاءاته الصحفية كيف استطعتي اقتناص كل هذا العدد الكبير من اللقاءات معه؟

الحقيقة أنني لم أقتنص الحوارات مع الكاتب الكبير نجيب محفوظ بصعوبة، إنما يسرها الله في كل مرة، إلى درجة أنني عندما صدر كتابه "أمام العرش" ووجدت أنه جدير بأن ألتقي معه حوله، وذلك في صيف عام 1983، فكانت المشكلة عندي أنني أعرف أنه يقضي فصل الصيف كله بالإسكندرية، ووقتها لم يكن التليفون المحمول قد ظهر، ولم أكن أعرف رقم تليفونه بالإسكندرية، فقررت إتباعا لفكرة شرف المحاولة أن أتصل به على رقم بيته الذي معي بالقاهرة. 

وقتها ردت عليّ السيدة الفاضلة قرينته، وعندما أخبرتها برغبتي في السفر لمقابلته بالإسكندرية، واستأذنتها في الحصول على رقم شقتهم هناك، إذا بها بلطف شديد تعطيني رقم الإسكندرية - تساهيل من ربنا في المقام الأول- ومن ناحية أخرى، كان قد سبق اتصالي هذا نشر حوار لي معه حول زوجته وبناته وأسرته خلال يناير من العام نفسه، فربما تكون السيدة الفاضلة عندما أخبرتها بإسمي قد تذكرت ما جاء في ذلك الحوار لي معه فاطمأنت إلى أنها تعطي الرقم لشخص أمين. 

الأكثر إبهارا بالنسبة لي هو أنه عندما رد على اتصالي به في الإسكندرية ضحك وقال لي إنه قد سمع رنين الهاتف بالصدفة عندما تصادف أن رن الهاتف وهو يسير إلى جواره متجها إلى مكان معين في الشقة، وأنه لو لم يكن بالصدفة يمر إلى جوار التليفون فإن سمعه لم يكن سيتيح له سماع الرنين.

طبعا ضحكنا معا والحمد لله أعطاني موعد لمقابلته في اليوم التالي مباشرة في كازينو "جليم" الموجود على شاطئ البحر مباشرة، وأذكر أن أصوت أمواج البحر قد ترتبت عليها إضطراري لرفع صوتي بأعلى درجة ممكنة كي يتمكن من الإستماع لأسئلتي لما هو معروف عنه من ضعف السمع. 

وتصادف في العام التالي أن صدرت له أيضا في الصيف رواية "رحلة إبن فطومة"، وكان ما يطرحه فيها حول الدولة الإسلامية والحكم هو قضية هامة جدا، فإذا كان أحد لا ينكر أن تاريخ مصر الإجتماعي والسياسي يمكن أن نقرأه في روايات نجيب محفوظ، فإن الكاتب الكبير في روايته "رحلة إبن فطومة" قد تخطى الواقع المصري، باحثا مع "إبن فطومة" عن "المدينة الفاضلة"، ومما قاله خلال ذلك الحوار أن الإسلام يناسب كل عصر، وأن هذا لن يتأتى إلا بالاجتهاد.

المهم أن الرواية كما قلت قد صدرت في الصيف، وأن وصولي إليه عبر الهاتف الأرضي لشقته بالإسكندرية قد تطلب مني أن أكرر الإتصال به مرات عديدة إلى أن يتصادف ويمر إلى جوار الهاتف فيصل إليه صوت الرنين.

◄وهل ترين إختلافًا بين إجاباته في لقاءاتك التي أجريتها معه قبل فوزه بجائزة نوبل للآداب وبعدها ؟

|
أتذكر أن تلك اللقاءات قد بدأت قبل حصوله على نوبل بحوالي 6 أعوام، فكان لديه وقتا أكثر اتساعا لإجراء مقابلات صحفية، ليس هذا فقط بل كان عادة ما يطلب مني أن أخبره بموعد نشر الحوار، فيقرأه بعد النشر، أتمنى أن يكون إستمرار موافقته على إجراءي لحوارات معه نابعا من رضاه عن الأسئلة وعن الأمانة عند النشر، وربما عن استخدامي للغة العربية عند تفريغ الحوارات، ومن المعروف عنه انحيازه لاستخدام اللغة العربية حتى في حوارات أبطاله عبر رواياته إلى درجة استخدامها في مشاجرات بين فتوات في الروايات، وبمهارته في الكتابة تأتي اللغة مستساغة جدا. 

استمرت حواراتنا بعد نوبل على الرغم من تدفق طلبات الصحفيين من مصر والعالم للحوار معه، فصار يشعر بملل من أن يتم توجيه أسئلة له حول أعماله الأدبية، ولقد تصادف أن طلبت منه في أحد المرات إجراء حوار معه بمناسبة يوم عيد ميلاده، وهو يوافق 11 ديسمبر، أي في نهاية العام، ولكي لا أكرر عليه أسئلة تقليدية أخبرته أن الحوار سيكون عن أحداث العام في المجالات المختلفة، وبدأت رصدي لبعض أحداث العام ومن بينها أن أحد أكثر ما شغل الرأي العام على مستوى العالم كان تفاصيل وتطورات فضيحة "مونيكا" والرئيس الأمريكي "بيل كلينتون". فتألق الروائي الكبير في السخرية والقفشات حين سألته حول أننا لو أفترضنا أن الأستاذ نجيب محفوظ يقوم بكتابة رواية عن فضيحة "مونيكا"، فما العنوان الذي يطلقه عليها، فضحك الكاتب الكبير ضحكة "رايقة"، ثم جاء رده في البداية وكأنه بعيدا عن السؤال حيث أخذ يحكي قائلا: كانت هناك أغنية زمان تقول كلماتها "بستان جمالك من حسنه"، كان يغنيها "عبد الحي حلمي"، وقيل لي أن أصل كلمات هذه الأغنية هي "فستان جمالك" وليس "بستان جمالك". وأن كلمة "فستان" قد تم تغييرها بعد ذلك إلى "بستان". تضمن بقية المقطع: "بستان جمالك من حسنه أبهى وأحلى". لا أتذكر الكلمات بالكامل، إنما أختار للرواية عنوان "فستان جمالك". 

ثم يضحك الكاتب الكبير ضحكته المنتعشة على "القفشة" وهو يقول: لأن الفستان قد لعب دورا رئيسيا في الفضيحة، وبعد الضحك والقفشات تألق في الآراء والمناقشات. 

ثم تتابعت حواراتي معه في كل عام حول الأحداث المحلية والدولية مع ذكرى عيد ميلاده في نهاية العام مما ساعدني على أن تكون أسئلتي متجددة ومرتبطة بالأحداث، إلى أن ازداد سمعه تدهورا وتراجعت متابعته لما يجري في العالم، وتأخرت حالته الصحية فتوقفت الحوارات معه بشكل تلقائي.

◄في كتابك ثمة خيوط متناثرة بين نجيب محفوظ وامه وزوجته وبناته.. فالأولى كانت عيناه التي تفتحت على زيارة المتاحف والآثار والثانية كانت التابعة التي يرفض حتي رائيها في اعماله أما أبنتيه فكانت علاقة بهن تتلخص في تيار محافظ مقابل تيار ثائر.. كيف ترين تلك العلاقات المتناقضة ؟ 

لا يوجد أي تناقض وزوجته لم تكن التابعة التي يرفض رأيها في أعماله، إطلاقا بل هو يحمل لها كل الإحترام، ولها كل الحرية في القرار، فحين طلبت منه أن يدور حديثنا عن زوجته في وجودها، قال أنها هي التي ترفض تماما الإدلاء بأية أحاديث صحفية أو حتى الظهور معه، وأنها وابنتيه قد رفضن من قبل الظهور معه في برنامج تليفزيوني عن حياته. 

أما قوله أن زوجته تعتبر بعيدة عن الأدب، وأنه مستريح لذلك، ثم قوله أن ربما إذا كانت الزوجة قريبة من الأدب، فإن ذلك معناه أنها تنكد حياته الأدبية، ومستحيل أن يجد ناقدا يعاشره 24  ساعة في اليوم. فكان كلاما على سبيل السخرية، فهو لم يكن في بيته "سي السيد" أبدا.

◄كيف تلخصين لنا طفولة نجيب محفوظ كما عرفتيها من لقاتك معه ؟

في رأيي، أن كلامه عن طفولته كان من أجمل الحوارات لنجيب محفوظ فقد انطلق فيها بحكايات لطيفة خفيفة لم يبح بها من قبل، ربما لأن هذا الكلام قاله لإبني جمال عندما كان عمره 10 سنوات، فكان كلامه معه مثل كلام الجد عندما يستمتع بتذكر الحكايات وذكرها للحفيد. الضحكات التي لم تكن مجرد إنفراجة للشفتين، فقد تكرر من جمال إبني أن يستقبل بعض مايرويه الكاتب الكبير بالضحك الذي يصل إلى القهقهة بصوت مسموع، فما يكون من الكاتب الكبير إلا أن يتجاوب بتلقائية مع عفوية إبني الطفل كأنهما طفلان معا. 

ومن أهم ما ذكره خلال ذلك الحديث هو أنه قد قرأ سيرة "الأيام" لـ "طه حسين" فكتب "الأعوام" ترجمة لحياته مع والده ووالدتيه.

ومارواه حول أنه كان يجري بفرحة على بائع الآيس كريم التركي بمجرد سماع نداءه "كاي ماك دندورمة". وأنه كان يشتري شيكولاته عليها مسابقة "العِش يكسب"، وأنه لم يجد صورة العِش ولا مرة.

كذلك ما رواه حول أنه كان يقوم بتربية دود القز وأنه قد تابع "الشرنقة". وأنه قد تعلم السباحة عن طريق "القرع". وكيف أنه كان يلعب فوق السطوح مع الأرانب والبط.  وأن مصروفه كان "قرشا" في اليوم، وكيف كان يدخر من المصروف كي يذهب إلى السينما. وأنه كان منظما منذ الطفولة، كي يستمتع بهواياته المتعددة.

وعن المدرسة ذكر أنه كان يحب حصص الرياضيات واللغة العربية، وأن ضربة بالعصا من المدرس صارت حائلا بيني وبين حب الجغرافيا.

◄تحدث إليكي نجيب محفوظ عن علاقته بالشيخ محمد الغزالي رغم هجومه الشرس على روايته "أولاد حارتنا" نريد أن نستعيد معك ما قاله عنه ؟

عندما تعرض لمحاولة الإغتيال قام بزيارته في المستشفى، وأكمل لي نجيب محفوظ بسرعة قائلا: كما قام بزيارتي في البيت أيضا.

وأضاف: لقد كانت علاقتي به طيبة جدا، وأذكر أنني في الأيام التي كنت فيها ما زلت قادرا على القراءة أن الشيخ "الغزالي" كان يكتب في جريدة "الشعب"، وقد كتب كلمة طيبة جدا في حقي عندما تعرضت للهجوم.

وعندما سألته هل علاقتك به مقصورة على فترة المرض، رد: علاقتي به من بعيد، فانا معجب به، وقرأت معظم كتبه، وهو من مفكري الإسلام العظام.

وعندما طلبت منه أن يذكر لي أعمالا معينة للشيخ "الغزالي" لفتت نظره إختار من كتب الشيخ الغزالي كتابه "مائة سؤال عن الإسلام"، وأوضح أن السبب هو أنه يرى فيه ثقافة دينية وتعليمية هائلة.

كذلك اختار كتابه "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم"، وكتاب "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، وأضاف أن الشيخ الغزالي قد تعرض لهجوم شديد بسبب هذا الكتاب.

◄نريد أن تحدثنا الكاتبة الصحفية الكبيرة سهام ذهني عن كتابها الجديد "تحرير الأقصى..بشارة القرآن" وفكرته العامة؟

في الوقت الذي كنت أجهز فيه لكتابي عن نجيب محفوظ إندلعت انتفاضة الأقصى، فأعادت لي ذاكرتي تسجيلات للشيخ الشعراوي يخالف فيها مفسرين القرآن القدامى حول سورة الإسراء، متحدثا عن أن زمن هزيمة اليهود في المرتين المذكورتين بالسورة لم يكن قبل الإسلام مثلما فسر السلف، إنما كانتا بعد الإسلام وتحديدا أن المرة الأولى تتمثل في الانتصار على يهود المدينة المنورة أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن المرة الثانية هي حاليا في فلسطين.

هذا الذي أطل من ذاكرتي تسبب في تعطيل إستكمالي لتنقيح كتابي الذي اتفقت عليه مع سلسلة "مكتبة نجيب محفوظ" التي ترأسها د فاطمة قنديل بالهيئة العامة للكتاب، إلى أن استكملت مراجعة تسجيلات الشيخ محمد متولي الشعراوي، وغيره من المراجع كي أكتب كتابي الذي صدر بعنوان "تحرير الأقصى: بشارة القرآن" عن دار "كتوبيا" للنشر في الوقت نفسه الذي صدر لي كتاب "أحب رائحة الليمون: حوارات مع نجيب محفوظ".

فوجدت نفسي بين شخصين أحبهما الشيخ الشعراوي في كتاب، ونجيب محفوظ في الكتاب الثاني.

كلام الشيخ الشعراوي يطمئننا على أننا سننتصر على إسرائيل، ويفسر ما يتعلق بهزيمتهم في القرآن. وكلام نجيب محفوظ يجدد وجداننا ويفسر أحوالنا.

ولو سألتني عن وجه للشبه عندي بين نجيب محفوظ والشعراوي فأرد عليك بأنه موقف كل منهما من المرض فلقد تعلمت من كل منهما الرضا بالمرض. ففي حوار لي مع فضيلة الشيخ الشعراوي خلال أيام عمره الأخيرة وكان التعب باديا عليه قال لي جملة رائعة بصياغة تليق ببلاغته حيث قال معلقا على مرضه: أن ألم الفانية فان، بينما ألم الباقية باق. 

أما نجيب محفوظ فروى لي أنه بسبب مرضه بحساسية في عينيه لا يستطيع القراءة ولا الكتابة طوال أشهر الصيف بأكملها، مع ذلك فقد تقبل الأمر باعتبار أن لديه بفضل الله بقية شهور السنة تتخلص فيها عيناه من الحساسية، فصار المهم عنده هو تنظيم ما تبقى من الوقت.

الكتاب يعتمد على مخالفة الشيخ الشعراوي للسلف في تفسير سورة الاسراء حيث فسر ان المرتين التي يتم فيهما هزيمة اليهود بعد افسادهم ليسوا ايام البابليين مثلما قال السلف انما بعد الاسلام وان الاولى ايام الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة والثانية حاليا في فلسطين

فتحرير المسجد الأقصى بشارة سورة الإسراء " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ".

يتناول الكتاب هذين الإنتصارين، وأن النصر يرتبط بأن نكون عبادا لله كما ورد في سورة الإسراء.

واستمرارا لفهم سورة الإسراء يتناول الكتاب بحثا علميا حصل به الدكتور "يحيى وزيري" مدير عام المجلس الاسلامي العالمي للدعوة والاغاثة منذ سنوات على جائزة وزارة الأوقاف الكويتية.

من يقرأ سورة "الإسراء" يلاحظ أن الله سبحانه قد ربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى عبر الآية الأولى في السورة بقوله تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ". 

والله سبحانه لم يقل من "مكة" إلى "القدس"، إنما من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

معلومة هامة ربما لا يعرفها الكثيرون هي أن الشكل الأصلي للكعبة يتشابه مع شكل عمارة المسجد الأقصى.

واسم الكعبة ليس مشتقا من "المكعب"، فلفظ "الكعبة" في اللغة العربية يعبر عن الشئ البارز، مثلا العظمة البارزة بين ساق الإنسان وقدمه نقول عنها "الكعب". أما اعتبار الكعبة بارزة عن الأرض فهي بارزة بما تحمله الكلمة من تعبير عن السمو والإرتفاع بالمعنى المعنوي وليس فقط بالمعنى المادي.

وأهمية هذا البحث أن هذه النتائج العلمية الواقعية على الأرض تنسف ادعاء الصهاينة بأحقيتهم في أرض المسجد الأقصى وادعاءهم بأن هيكلهم كان موجودا قبل المسجد الأقصى. 

فإذا كان الحديث الشريف لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد جاء فيه أن المسجد الأقصى قد أقيم بعد الكعبة بأربعين سنة، فإن في هذا التشابه المعماري لكل من المسجدين توضيح مادي ملموس بالتشابه الذي قام به من قام ببناء كل منهما. 

وقد حمل المسجد اسم "الأقصى" باعتباره بعيدا عن المسجد الحرام بمقاييس ذلك الزمان.

والكعبة هى أول بيت لعبادة الله سبحانه وأقيمت منذ أيام سيدنا آدم. 

أما الذي قام به سيدنا إبراهيم بمساعدة سيدنا إسماعيل فهو رفع قواعد كانت مازالت موجودة من البيت الذي أقيم منذ أيام سيدنا آدم بعد أن تهدم مع مرور السنين، وقد قال الله تعالى "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل". 

فالكعبة هى أول بيت وضع لعبادة الله سبحانه وتعالى في زمن سيدنا آدم، والمسجد الأقصى بالتالي قد أقيم من قبل أي بناء يدعي الصهاينة أن سيدنا سليمان كان قد أقامه كما يزعمون في البقعة التي يوجد عليها حاليا المسجد الأقصى.

الله سبحانه وتعالى أطلق على هذا المكان إسم "المسجد الأقصى" تحديدا، بقوله تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ".

فالآية تسجل أن هذه البقعة الطاهرة من أرض القدس التى أُسرى بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام إليها تحمل إسم "المسجد الأقصى".

وحتى لو كان المسجد وقت الإسراء كبناء غير موجود، فالإسم حدده الله سبحانه وتعالى للمكان الذي كان عليه البناء الذي حمل هذا الإسم بعد بناء الكعبة بأربعين سنة. 

المسجد الأقصى بالقدس الذي ربط الله سبحانه وتعالى بينه وبين المسجد الحرام بمكة في أول آية بسورة الإسراء هو ربط يبعث بإيحاءات. فمكة مهبط رسالة الإسلام، بينما القدس هي رمز استمرار الرسالة السماوية.

مكة هي "أم القرى"، والقدس هي "بوابة السماء"، ومحشر الخلق. 

وإذا كانت مكة مثابة للناس وأمنا، فإن القدس هي أرض الصراع المتواصل بين الخير والشر، بالتالي هي أرض الرباط والجهاد. 

كما يتعرض الكتاب لشخصية اليهود عند القتال، فبنص القرآن في سورة "الحشر" هم يستعدون للقتال إلى درجة يظن المسلمون معها حتى أيام الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لن يستطيعوا التخلص من اليهود: "مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا". 

كذلك من ناحية اليهود يظنوا أنهم في حماية بسبب قوتهم وتحصيناتهم: "وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ".

لكن الله إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون: "فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا".

ونلاحظ أهمية سلاح الرعب في هزيمة اليهود من خلال الآية التالية "وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ".

والرعب الذي يقذفه الله في قلوبهم تكرر باللفظ نفسه "قذف" في سورة "الأحزاب": "وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا".