صديقى الماركسى
نذر «أبوفتحى» أن يذبح لوجه الله ثلاثة عجول، إذا حقق حلمه ونجح «فتحى» ابنه فى الثانوية العامة، وكان ذلك حدثًا كبيرًا فى منتصف الثمانينيات. زاد من أهميته وقتئذ حصول «فتحى»- وكان له من اسمه نصيب- على مجموع عالٍ، يؤهله للالتحاق بكلية الطب. الأمر الذى أثار غيظ عمه «أبى ياسر»، الذى أخذ يوبخ ابنه:
ـ هل أنت راضٍ الآن، ها هو ابن عمك «فتحى» سيكون «تكتور»، أما أنت لا أعرف ماذا ستكون؟
ـ سأكون محاميًا يا أبى، وإذا كنت لا تعرف، فالمحامى لا يقل عن الطبيب أهمية.
أقاما معًا فى شقة مؤجرة بحى «الدقى»، كانا يتجولان ذات مساء فى «وسط البلد»، عندما رأى «ياسر» صديقه، ويدعى «صالح»، جالسًا فى المقهى بمفرده.
ألقى «ياسر» عليه التحية، تساءل «فتحى» بصوت خفيض عمن يكون؟
ـ «صالح»، أحد أصدقائى، وهو من «رفح».
ـ كيف يكون منها ولا أعرفه؟!
ـ ستعرفه الآن.
لم يكن «فتحى» من هواة ارتياد المقاهى، لم يعتد على ذلك؛ فقد كان الجلوس فى المقهى فى ذلك الوقت يعدُّ فى عُرف البادية عيبًا!
قال «فتحى» لنفسه «لا ضير، سيصافح الرجل ويمضى لحال سبيله، أما (ياسر) فليَبق مع صديقه كيفما شاء».
كان «صالح» جالسًا فى ركن من المقهى يطالع كتابًا، وضعه جانبًا، واستقام واقفًا ليسلم عليهما.
جاء النادل، طلب «ياسر» فنجان قهوة «مضبوط».
التفت «صالح» إلى «فتحى»:
ـ وأنت، ماذا تشرب؟
ـ لا شىء.
وأصر «فتحى» على ذلك.
بادره «صالح» بالسؤال عما إذا كانت له هوايات وميول.
أخبره بأنه يحب القراءة وسماع الأغانى.
نصحه «صالح» بألا يسمع إلا لفيروز ومارسيل خليفة، ويقرأ محمود درويش وسميح القاسم وغسان كنفانى، وأن يحاول الاطلاع على كتاب «رأس المال» لكارل ماركس.
أثار اسم كارل ماركس دهشة «فتحى»، وأكد صدق هواجسه، عندما كان يتحدث عن الشرق والغرب، عن الاشتراكية العادلة والرأسمالية المتوحشة.
«لا بد أنه ماركسى»، قال «فتحى» فى سرِه، ونفر من (صالح) قليلًا، لكن إعجابه بثقافة الرجل كانت أكبر من نفوره منه.
قال لنفسه «كلهٌ حر فى ما يعتنق من أفكار».
وفى ذات الليلة أخبره «ياسر» بأن «صالح» من أبناء رفح، لكنه اضطر للإقامة فى «العريش» مع عائلته العائدة من «الوادى»، إذ لم تكن «رفح» حينها قد تحررت من الاحتلال الإسرائيلى بعد.
دعاه «صالح» لزيارته فى شقته المؤجرة بحى عين شمس، وعندما زاره «فتحى» تملكته الدهشة، إذ وجد شقة صاحبه أشبه بمتحف صغير؛ كوفية فلسطينية معلقة على الحائط بمسمار، تعلوها صورتان لكارل ماركس وصدام حسين، وعلى المكتب فى المقابل عدة دواوين شعرية لمحمود درويش، وأعداد من مجلة فلسطينية كانت تصدر من «قبرص»، وشرائط كاسيت كثيرة لفيروز ومارسيل خليفة.
لم يثر استغراب «فتحى» ما رآه فى متحف صديقه الصغير، بقدر استغرابه من كيف لشخص ذى توجه إسلامى، ملتزم، يصلى الفروض الخمسة فى وقتها، مثل «عابد»، الذى تعرّف إليه مؤخرًا، أن يقيم مع ماركسى مثل صالح! كيف يجتمع النقيضان!
مضت السنون، اقتلعت الحرب كل شىء من جذوره فى «رفح»، نزح صالح بعائلته مع من نزحوا لمحافظة الشرقية»، وعمل مزارعًا.
اشتاق «فتحى» إليه، هاتفه ليطمئن على حاله وأحواله، ذكّره، أثناء المحادثة، بأيام الجامعة الخوالى، ومازحه عمّ إذا كان ما زال متحمسًا لأفكار ماركس كما كان فى مقتبل العمر.
اغتصب «صالح» ضحكة، وقال بصوت مختنق: إنه لم يعد الشخص الذى يعرفه، ولم يعد يهتم الآن بغير كيف يوفر قوت أولاده اليومى.
بادله «فتحى» ضحكًا بضحك، وتذكّر المقولة: «مجنون من لم يكن ماركسيًا فى العشرينيات، وأحمق من ظل عليها فى الثلاثينيات».
أغلق الهاتف، وبكى فى صمت ليس على ما آل إليه حال صالح والكثيرين غيره وحسب، بل على ما أصاب موطنه، ولحق به من خراب..