مصر دافعت عن القضية.. وكسبت معركتها
الولايات المتحدة لا تحب التعامل إلا مع الأقوياء.. هكذا قال الدبلوماسى الراحل، وزير الخارجية الأسبق هنرى كيسنجر، مُشيرًا إلى مصر فى سبعينيات القرن الماضى.. لذلك، بادر الرئيس الأمريكى، جو بايدن، بالاتصال بالرئيس عبدالفتاح السيسى، ليعرب عن شكره للرئيس على قيادته، مشيدًا بدور مصر الوسيط طوال العملية التفاوضية بين حماس وتل أبيب بشأن وقف الحرب فى قطاع غزة، وجهود الوساطة المكثفة التى تبذلها مصر والولايات المتحدة وقطر، للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فى القطاع، وتبادل الأسرى والمحتجزين.. وأكد بايدن للرئيس السيسى أن هذه الصفقة لم تكن لتتحقق أبدًا، لولا الدور الأساسى والتاريخى لمصر فى الشرق الأوسط، وتعهد الزعيمان بالبقاء فى تنسيق وثيق مباشر ومن خلال فرقهما، خلال الساعات المقبلة.. مع الحاجة الملحة لتنفيذ صفقة لإغاثة شعب غزة على الفور، من خلال زيادة المساعدات الإنسانية عقب وقف إطلاق النار، تلك التى بذلت مصر جهودًا كبيرة، خلال الشهور الماضية للعمل على تحقيقها.
الاتفاق، الذى وصفه الرئيس الإسرائيلى، إسحاق هيرتسوج، بالخيار الصحيح والمهم والضرورى، «لاستعادة أبنائنا وبناتنا، سواء لكى يتعافوا فى ديارهم أو ليرقدوا بسلام»، والذى يوقف الحرب المدمرة المستمرة منذ خمسة عشر شهرًا فى غزة، ويمهد الطريق أمام عودة العشرات من الرهائن الإسرائيليين إلى ديارهم- سيدخل حيز التنفيذ يوم الأحد المقبل، ويشمل ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى مدتها اثنان وأربعون يومًا، ستشهد وقفًا لإطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية شرقًا، وبعيدًا عن المناطق المكتظة بالسكان، للتمركز على الحدود فى جميع مناطق قطاع غزة، وتبادل الأسرى والرهائن، وفق آلية محددة، وتبادل رُفاة المتوفين وعودة النازحين إلى أماكن سكنهم، وتسهيل مغادرة المرضى والجرحى لتلقى العلاج.. كما تتضمن تكثيف إدخال المساعدات الإنسانية، وتوزيعها الآمن والفعال على نطاق واسع فى جميع أنحاء قطاع غزةـ وإعادة تأهيل المستشفيات والمراكز الصحية والمخابز، وإدخال مستلزمات الدفاع المدنى والوقود، وإدخال مستلزمات إيواء النازحين الذين فقدوا بيوتهم بسبب الحرب.. وبحسب الاتفاق، ستطلق حركة حماس، فى المرحلة الأولى، سراح ثلاثة وثلاثين محتجزًا إسرائيليًا، بما يشمل النساء المدنيات والمجندات والأطفال وكبار السن والمرضى والجرحى المدنيين، مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية ومراكز الاعتقال.. أما تفاصيل المرحلتين الثانية والثالثة، فسيتم الاتفاق عليها خلال تنفيذ المرحلة الأولى.. وستعمل مصر بشكل مشترك مع قطر والولايات المتحدة، لضمان تنفيذ الأطراف لالتزاماتها، وضمان استمرار المفاوضات لتنفيذ بقية المراحل.
بعد إطلاق سراح سبعة محتجزين إسرائيليين، تنسحب قوات الاحتلال بالكامل، فى اليوم السابع من الاتفاق، من شارع الرشيد شرقًا حتى شارع صلاح الدين، وتبدأ عمليات تفكيك كل المواقع فى هذه المنطقة.. كما تبدأ عمليات عودة النازحين إلى مناطق سكنهم، وضمان حرية تنقل السكان فى جميع القطاع، إضافة إلى دخول المساعدات الإنسانية عبر شارع الرشيد من أول يوم ودون معوقات، كذلك، فتح معبر رفح الحدودى بين غزة ومصر، وإدخال كميات كافية من المساعدات الإنسانية ومواد الإغاثة والوقود عبر ستمائة شاحنة يوميًا، تنقل خمسون منها الوقود، وتتوجه ثلاثمائة شاحنة إلى شمال القطاع.. وفى اليوم الثانى والعشرين من بدء تنفيذ الاتفاق، تنسحب قوات الاحتلال الإسرائيلى من وسط القطاع، خصوصًا من محور نتساريم ودوار الكويت، إلى منطقة قريبة من الحدود، ويتم تفكيك المنشآت العسكرية بالكامل، مع استمرار عودة النازحين إلى أماكن سكنهم، ومنح السكان حرية التنقل فى جميع مناطق القطاع.. والأهم فى هذا، ما قالت به هيئة البث الإسرائيلية، بأنه جرى التنسيق مع مصر والولايات المتحدة بشأن الانسحاب من محور فيلادلفيا، إذ إن الجيش الإسرائيلى سينسحب تدريجيًا من محورى نتساريم وفيلادلفيا.
إذًا، انتصرت الإرادة المصرية.. ولولا الوقفة الصلبة التى اتخذها الرئيس عبدالفتاح السيسى، ورفضه تهجير أهالى قطاع غزة من أرضهم، جبرًا أو اختيارًا، إلى سيناء أو غيرها، لما كانت هناك قضية، وما كان هناك شعب يتم الاتفاق على وقف إطلاق النار عليه.. مبدأ، اعتبر أن الوجود الإسرائيلى الدائم فى محور فيلادلفيا خطًا أحمر، لا يجب على إسرائيل تجاوزه.. واتخذ الجيش المصرى العظيم عدته وعتاده، ليوقف بها الأعداء عن أى لحظة حماقة قد تدفع أهالى القطاع إلى هجرة أراضيهم هربًا من جحيم القصف الإسرائيلى، الذى أودى، حتى كتابة هذه السطور، بحياة أكثر من ستة وأربعين ألف فلسطينى، أغلبيتهم من النساء والأطفال، وإصابة ما يقرب من مائة وعشرة آلاف آخرين، فى حصيلة غير نهائية، إذ لا يزال آلاف الضحايا تحت الأنقاض وفى الطرقات، ولا تستطيع طواقم الإسعاف والإنقاذ الوصول إليهم.. وقد أظهرت دراسة دولية أن العدد الحقيقى للضحايا، الذين سقطوا بشكل مباشر نتيجة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ربما أكبر من الإحصاء الفلسطينى الرسمى بنحو 41%، حتى منتصف عام 2024، فى ظل انهيار البنية التحتية للرعاية الصحية فى القطاع الفلسطينى.
●●●
نص الاتفاق على إعادة النازحين فى الوسط والجنوب إلى شمال قطاع غزة، وهو ما يمثل تقويضًا صريحًا لأحد أهم المخططات التى تبناها الاحتلال منذ بدء العدوان، بينما ارتكز فى بنود أخرى على دخول المساعدات الإنسانية، ناهيك عن الانسحاب الإسرائيلى التدريجى من غزة، وهو ما يعنى العودة إلى مربع ما قبل السابع من أكتوبر، وهو ما يمثل هزيمة دبلوماسية لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو.. وبالنظر إلى ملف التهجير، فإن الدولة المصرية ركزت بصورة كبيرة، ومنذ اليوم الأول للعدوان، على التصدى لكل المحاولات المرتبطة بتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، سواء من خلال قمة القاهرة للسلام، التى عقدت بعد أيام من بدء العمليات العسكرية، وفى كل المحافل الأخرى، إلى أن نجحت فى تحقيق توافق دولى حول رفض المخطط الإسرائيلى، بينما حشدت العديد من القوى الرئيسية فى محيطها الجغرافى لدعم رؤيتها، فى ضوء ما يمثله مثل هذا المخطط من انتهاك للشرعية الدولية، والقائمة على حل الدولتين.
وعلى الرغم من التعنت الإسرائيلى، إلا أن الدبلوماسية المصرية تمكنت من انتهاج سياسة النفس الطويل فى مواجهة الاحتلال عبر العديد من المسارات.. أولها تحقيق التوافقات، باعتبار الاتفاق الأخير بادرة مهمة لتبريد المنطقة، لأن امتداد الصراع وتوسعه يبدو مرتبطًا فى الأساس باستمرار العدوان على غزة، وهو ما يعكس فشل الاتفاق الذى أبرمه نتنياهو وحكومته لوقف إطلاق النار فى لبنان، فى تهدئة الجبهات الأخرى.. إلا أن ثمة أبعادًا أخرى لا يمكن إغفالها فى هذا الإطار، وأبرزها أنه يمثل خسارة العديد من الرهانات التى اعتمد عليها رئيس وزراء إسرائيل، أبرزها مخطط التهجير وفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وكلاهما يهدفان إلى تقويض حل الدولتين، عبر تجريد دولة فلسطين المنشودة من شعبها، بإجبار مواطنيها على ترك أراضيهم، وهو ما يفسر وحشية الاعتداءات، من جانب، بالإضافة إلى حرمانها من عنصر الأرض، عبر الفصل، فى إطار ضرورة أن يكون إقليم الدولة عبارة عن رقعة جغرافية متصلة.
واتخذت الدبلوماسية المصرية بعدًا آخر قضائيًا، عبر الدعوة الصريحة التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى، خلال القمة العربية الإسلامية، التى عُقدت فى جدة خلال نوفمبر 2023، بضرورة إجراء تحقيق دولى، لتجد الدعوة استجابة فورية من جنوب إفريقيا، التى اتخذت زمام المبادرة برفع دعوى قضائية ضد الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية، انضمت لها عدة دول أخرى، وأسفرت عن قرارى اعتقال لنتنياهو ووزير دفاعه السابق.. فى حين كان المسار الثالث إنسانى، عبر الضغط على دول العالم، خصوصًا تلك المتحدثة دومًا عن حقوق الإنسان، للتداخل على خط الأزمة فى ظل ما يرتكب من انتهاكات فى القطاع.
نجحت السياسات المصرية فى تكبيل نتنياهو وحكومته، بل ووضعت الكثير من الضغوط على كاهله، إلى حد التوتر الملموس الذى شهدته علاقة واشنطن وتل أبيب خلال الأشهر الماضية، ناهيك عن حلفائها الآخرين فى دول الغرب الأوروبى، والتى اتجهت بعضها إلى اتخاذ خطوات كبيرة نحو الاعتراف بدولة فلسطين، على غرار إسبانيا والنرويج وسلوفينيا، وهى دول محسوبة على المعسكر الموالى للدولة العبرية.. وهنا، يمكن القول إن الدبلوماسية المصرية تمكنت من تحقيق العديد من الانتصارات لصالح القضية الفلسطينية، والتى تنظر إليها باعتبارها قضيتها المركزية، أبرزها تقويض مخططات الاحتلال، وإعادة الزخم مجددًا لحل الدولتين، بعد سنوات من التراجع، جراء السياسات الإسرائيلية المتعنتة، بينما نجحت فى الوقت نفسه فى تقديم نفسها كقوى قادرة على رعاية القضية، عبر سياسة تقوم فى الأساس على الشراكات والتوافقات مع القوى الأخرى، سواء فى الإقليم أو على المستوى الدولى.
إلا أن تاريخية الاتفاق المُعلن، لا تقتصر فقط على كونه يمثل تقويضًا لخطط إسرائيل، بل إحياؤه بصورة كبيرة لحل الدولتين، فى ضوء العديد من المعطيات، ربما أبرزها أنه فى الوقت الذى أدان فيه المعسكر الموالى لإسرائيل عملية «طوفان الأقصى» فى أكتوبر 2023، إلا أنه، فى اللحظة نفسها، اعتبر أن استمرار الاحتلال أحد أهم عوامل التهديد لأمن تل أبيب، وهو الأمر الذى يمثل بعدًا مهمًا للرؤية التى تبنتها مصر منذ بداية العدوان، عبر حرصها الشديد على الحديث عن القضية، وعدم الانجرار وراء محاولات الاحتلال، التى استهدفت صرف الانتباه عنها لصالح القطاع.
●●●
■■ وبعد..
فإن الإعلان عن الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة يمثل لحظة تاريخية مهمة فى منطقة الشرق الأوسط، بعدما تجاوز الاحتلال الإسرائيلى الخمسة عشر شهرًا، يمارس انتهاكاته بأقصى درجة ممكنة، بين القتل، والتجويع والتشريد، بينما لم تكن دماء أهل غزة كافية لتروى عطش اليمين المتطرف فى تل أبيب، حتى اتجه نحو توسيع نطاق العدوان ليشمل دولًا أخرى، أبرزها لبنان وسوريا واليمن، مع تبادل القصف على استحياء مع إيران، خلال العديد من مراحل الصراع.. وهو ما يعكس أهدافًا عميقة تبناها الاحتلال، لا تقتصر فى جوهرها على مجرد الدفاع عن النفس، فى مواجهة ما تمثله الفصائل من تهديدات، وإنما تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، فى إطار محاولات تصفية القضية الفلسطينية.. لذلك، رحب الرئيس السيسى، بالتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، بعد جهود مضنية على مدار أكثر من عام، بوساطة مصرية قطرية أمريكية.. وكتب عبر موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»: «أرحب بالتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة، بعد جهود مضنية على مدار أكثر من عام بوساطة مصرية قطرية أمريكية.. وإن مصر ستظل دائمًا وفية لعهدها، داعمة للسلام العادل، وشريكًا مخلصًا فى تحقيقه، ومدافعة عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى».. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.