الحرب والسلام يمرّان بمصر
الجنرال «كلاوز فيتر» من الإصلاحيين العسكريين فى روسيا يعرّف الحرب بأنها «الاستمرار بالسياسة ولكن بوسائل أخرى».. وهى عملية قديمة قِدم الإنسان، ففى المجتمعات القديمة كانت الحرب ظاهرة مألوفة من أجل إشباع الحاجات المختلفة.. لكن فى وقتنا الراهن هل فكرة الحرب استمرار للسياسة؟.. يبدو أنها فكرة غير مقبولة حاليًا، لا سيما فى الماضى لم تكن هناك منظمات دولية وتشريعات تجرم الحرب أو الإفراط فى استخدام القوة، وهو الأمر الذى أثبتته الحربان العالميتان الأولى والثانية أنه لايمكن الاعتماد على الحرب بشكل مطلق لتحقيق أهداف السياسة.. لكن حين تكون الأرض محتلة ما السبيل لتحريرها وعودة السيادة لأصحاب الحق؟، الإجابة إن لم تكن الحرب بشكلها التقليدى الصراع بين طرفين لفترة من الزمن تطول أو تقصر، تكون النهاية إنهاكًا لكلا الطرفين فيجلسان على مائدة المفاوضات لوضع نهاية تحقق بعض المكاسب - زعمًا منهما بذلك- وخسائر تتكبدها الشعوب حتمًا لكلا الطرفين.
من أقوى وأشهر المؤلفات الأدبية التى جسدت المعاناة الإنسانية جراء الحروب للأديب الروسى «تولستوى» راصدًا الصراع بين الأحداث التاريخية والإرادة الإنسانية فى عمل ضخم تجاوز ستة آلاف صفحة، بعنوان «الحرب والسلام».. رغم أن العمل الأدبى يركز على البواعث الإنسانية ولا يصف أحداثًا تاريخية بدقة، إلا أن «تولستوى» كان بارعًا فى المزج بين السرد التاريخى ونبضات الإنسان وهواجسه مخالفًا الأنماط السردية المتعارف عليها.
«رواية الحرب والسلام» الأكثر مبيعًا فى العالم صورة أدبية وشهادة المؤلف على احتلال فرنسا لروسيا.. صراع قوتين بينهما توازن فى طبيعة العملية العسكرية، وهذه الطبيعة خلقت عملًا إبداعيًا ومؤلفًا عابرًا للزمن.. «تولستوى» لم يكن أديبًا فحسب بل كان مصلحًا اجتماعيًا وداعية للسلام ومفكرًا أخلاقيًا، تخيلت للحظة أن «تولستوى» يعيش الحرب التى تشنها إسرائيل على غزة.. هل سيهتم المؤلف بسرد الأحداث ويمنح التاريخ حقه فى توثيق الوقائع بكل تفاصيلها، أم ينتصر لسرديته إيمانًا منه بالإنسان؟.. أعتقد أن «تولستوى» سيكتب ما هو أعظم من «الحرب والسلام».. الأحداث على مر 15 شهرًا، أو 412 يومًا أحداث ملهمة سيكتب ملحمة جديدة بأبطال وشخوص سرديته من مصر وغزة، سيمزج بين نبضة واحدة نصفها فى غزة وترددها فى مصر.. سيعزف لنا سيمفونية تتجاوز سيمفونية «بتهوفن» ممزوجة بمقام «رصد» الحزين وتتجلى كلماته أعظم أبيات الشعراء ممن عرفتهم البشرية.
لا أعتقد أن «تولستوى» سينكر حق الشعب الفلسطينى فى المقاومة، وسيرى أنها البديل فى تحرير الأوطان حين يفتقد الطرف المعتدى عليه عنصر تكافؤ القوة العسكرية وعتاد الحرب.. سيخبرنا أن قرار المقاومة الفلسطينية فى تحرير أراضيهم 7 أكتوبر 2023، هو الخيار الوحيد فى الدفاع عن شرعيتهم وحقهم فى استعادة وطنهم وليس أمامهم خيار آخر فى ظل مجتمع دولى غاب عنه العدل والإيمان بحقوق المستضعفين فى الأرض.
أسئلة كثيرة حول اتفاقية وقف الهدنة التى أعلن عنها الجانب القطرى أمس، من الباكر أن نضع سيناريو اليوم التالى للحرب، الهدنة 42 يوميًا قد تخترقها إسرائيل ما لم توقع على اتفاقية وقف الحرب نهائيًا، وهناك من الأمور لم تتضح بعد، إلا أن الضمانة الحقيقية مبعثها وجود المفاوض المصرى الحاضر بقوة، المفاوض المصرى منذ بداية الحرب لم ولن يتخلى عن قضية القاسم المشترك بينها هو الشعب المصرى والشعب الفلسطينى.. المفاوض المصرى مساند لشقيقه الفلسطينى باعث الطمأنينة إلى الجميع فى الحرب والسلام.. كل الحروب تمر بمصر، والسلام يوقع بأحرف مصرية. وإن كان الوقت لم يحن بعد ليجيب عن سؤال مَن انتصر ومَن خسر؟، ما زلنا فى قلب الأحداث نتمهل قليلًا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود وتشرق شمس نهارًا جديدًا يعلن فيه الانتصار للحق والعدل والإنسانية، باحثين جميعًا عن اللحظة التى وصفها الشاعر «محمود درويش»: «ستنتهى الحرب ويتصافح القادة وتبقى العجوز تنتظر ولدها الشهيد، وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب، وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل... لا أعلم من باع الوطن لكننى رأيت مَن دفع الثمن».
شاعرنا الكبير.. لقد تغيرت المعادلة، مات الجميع، ماتت العجوز والفتاة والطفل، ومن هم على قيد الحياة يعيشون بلا روح، وتبقى إرادة الله تبعث فيهم الحياة من جديد.