رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مخاوف وأطماع الدول الإقليمية الثلاث فى سوريا

طرحنا فى نهاية مقال سابق سؤالًا عما تخشاه وتريده معًا، كل من إسرائيل وتركيا وإيران، من سوريا ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، ووعدنا بالإجابة عليه فى مقال لاحق، هذا موعده.. إذ أن سوريا أصبحت بعد يوم الثامن من ديسمبر الماضى، ساحة لرغبات وأطماع أقطاب دولية وأخرى إقليمية، يبحث كل منها عن موضع له فيها، بينما يتشبث الباقون بالاستمرار على أراضيها، خصوصًا إيران وروسيا، لأنهما بخروجهما من هناك، يكونان قد خسرا الكثير، مما لا يمكن تعويضه فى منطقة الشرق الأوسط.
فى اليوم الأول من سقوط النظام السورى، قررت إسرائيل فرض قواعد أمنية وعسكرية جديدة مع سوريا، على أن تبقى سوريا الجديدة بأى شكل من الأشكال تحت أعين إسرائيل، جوًا وبرًا وبحرًا، وسيطرت على أعلى قمة فى جبل الشيخ، وسيطرت على ما يسمى «خط العشرين،» على الحدود الإسرائيلية، بعد انسحاب «اللواء 90» السورى من هذه المنطقة.. وهذا ما استند عليه رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، للقول إن اتفاق الهدنة 1974 لم يعد قائمًا بعد انسحاب الجيش السورى، وبعد عملية السيطرة على التلال المرتفعة فى جبل الشيخ، مما يعنى أن إسرائيل بإمكانها رصد أية تحركات عسكرية برية إلى منطقة حمص، بعمق أكثر من مائتى كيلو متر.
وبينما كان الشعب السورى، ومعه ميليشيات هيئة تحرير الشام، يحتفلون بالدخول إلى دمشق، كانت الطائرات الإسرائيلية تدك كل الدفاعات الجوية السورية والطائرات فى مرابضها، والقطع البحرية العسكرية فى موانيها، ومصانع الصواريخ ومعامل المتفجرات، حتى قضت على أكثر من 80% من القدرات العسكرية لسوريا، خلال ساعات قليلة.. وبالتوازى مع الاجتياح الإسرائيلى إلى عمق الأراضى السوريا، واحتلالها محافظة القنيطرة، ووصولها إلى بعد عشرين كيلو مترُا فقط من دمشق العاصمة، تهدف إسرائيل منذ سنوات وعلى الأرجح ستستمر إلى ما بعد مرحلة الأسد إلى ضرب الأسلحة الاستراتيجية للجيش السورى، المتمثلة فى صواريخ سكود وأرض أرض، خصوصًا الصواريخ التى يصل مداها إلى ثلاثمائة كيلو متر، مما يشكل خطرًا على إسرائيل وفق عقيدتها العسكرية، بل ذهبت إسرائيل إلى أبعد من ذلك، بتدمير الدفاعات الجوية السوريا، ومن أهمها منظومة «بانتسير» الروسية، وتدمير منظومة الدفاع S-300، وبهذا تضمن إسرائيل أجواء سوريا خالية من أية دفاعات.. وكانت إسرائيل قد عملت طوال السنوات الماضية، على ضرب طائرات Meg 29 وMeg 24المُعدلة فى مطار المزَّة.. وبهذا تكون إسرائيل انتهت من الخطر العسكرى السورى تمامًا، وهى الآن تُطلق يدها دون رقيب عسكرى فى الأجواء السوريا.
وعلى الرغم من قول أحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام، «إنّنا لسنا بصدد الخوض فى صراع مع إسرائيل، ولا حِمل معركة ضدّها»، وتأكيده على أن الأراضى السوريا لن تستخدم للهجوم على إسرائيل.. ونقلت الإذاعة العامة الأمريكية NPR، عن محافظ دمشق الجديد، ماهر مروان، قوله إن الحكومة السوريا الجديدة تريد تسهيل العلاقات الودية بين إسرائيل وسوريا، وأضاف أنه «من المفهوم أن تشعر إسرائيل بالقلق، عندما تولت حكومة سوريا جديدة السلطة بسبب فصائل معينة، لهذا تقدمت قليلًا، وقصفت قليلًا»!!.. وأكد أن هذا الخوف «طبيعى»، وهو بصفته ممثلًا للعاصمة دمشق، ولوجهة النظر السياسية للقائد العام للإدارة الجديدة فى سوريا ووزارة الخارجية، فإن لديه «رسالة»، قال فيها، «ليس لدينا أى خوف تجاه إسرائيل، ومشكلتنا ليست مع إسرائيل.. نحن لا نريد التدخل فى أى شىء يهدد أمن إسرائيل».. بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ دعا الولايات المتحدة إلى تسهيل علاقات أفضل مع إسرائيل، قائلًا، «هناك شعب يريد التعايش.. يريدون السلام.. لا يريدون النزاعات، نريد السلام، ولا نستطيع أن نكون أعداء لإسرائيل أو أعداء لأى أحد».. رغم كل ما سبق، فإن عيون إسرائيل على الأرض ترصد أعماق سوريا؛ كى تضمن تحييد أى خطر قادم منها جوًا وبرًا، إلى أن يتبين شكل سوريا القادم، ومن المرجح أن تقوم إسرائيل فى الفترة القادمة، بالسيطرة على مناطق حدودية مرتفعة أيضًا، لضمان عمقها فى سوريا، ويرافق ذلك مراقبة إسرائيلية بحذر شديد، لكل ما يجرى فى الداخل على الصعيد الأمنى والعسكرى، وحتى السياسى.
وبينما قال رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، إن سقوط بشار الأسد هو «يوم تاريخى فى الشرق الأوسط»، مُرحّبا بانفراط «الحلقة المركزية فى محور الشر» بقيادة إيران، العدو اللدود للدولة العبرية.. إلا أنه أكد فى زيارة لمرتفعات الجولان «هذه نتيجة مباشرة للضربات التى وجهناها إلى إيران وحزب الله، الداعمين الرئيسيين للأسد»، معتبرًا أن الإطاحة بنظامه «تقدم فرصًا جديدة مهمة» لإسرائيل.. وقال رئيس أركان الجيش الإسرائيلى، هيرتسى هاليفى، إن القوات الإسرائيلية منخرطة الآن فى «أربع جبهات»، نتيجة عمليات جديدة على الحدود مع سوريا ومرتفعات الجولان!!، بعد أن أعطى نتنياهو أوامر للجيش بالسيطرة على المنطقة العازلة المنزوعة السلاح على الحدود مع سوريا، بما يعكس «التخوف الإسرائيلى من ظهور كيان سياسى معادٍ على حدودها»، كما أن إسرائيل تستغل ضعف حزب الله وإيران لتعزيز وجودها فى المنطقة، وقد أصبحت تركيا «اللاعب الإقليمى الرئيسى»، بالتنسيق مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
تسعى إسرائيل لاستخدام سوريا كمنصة لتعزيز قربها من إيران، لذلك، فإن العمليات العسكرية جزء من استراتيجية إسرائيلية أوسع، تسعى لتحقيق تغيير جذرى فى الشرق الأوسط، بالتعاون مع القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة.. وعلى الرغم من حديث رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، عن رغبته فى إقامة علاقات حسن جوار مع سوريا، إلا أن هناك «تناقضًا واضحًا فى التصريحات الإسرائيلية».. فبينما تدعو إسرائيل إلى تحسين العلاقات، تستمر فى عمليات القصف واحتلال أراضٍ سورية، «إسرائيل تستهدف عبر عملياتها الوجود الإيرانى، الذى أصبح ضعيفًا وغير مؤثر، بينما تواصل الحكومة السورية محاولات الحفاظ على وجودها فى ظل الضغوط الدولية.. لذلك، فإن سوريا تواجه تحديات كبيرة، تتعلق بإعادة الإعمار واستعادة علاقاتها الدولية، فى ظل وجود ثلاثة محظورات، تعوق اندماج سوريا فى المنطقة والعالم، هى: التحول إلى دولة دينية.. عودة الاستبداد.. استمرار فوضى السلاح والميليشيات.
وللخروج من هذه المحظورات، فإن هناك ضرورة لبناء دولة مدنية توافقية تضم جميع مكونات الشعب السورى، مع الحفاظ على الجيش كخط أحمر لضمان الاستقرار.. لأن «ترك سوريا الجديدة، كما حدث فى العراق عام 2003، سيجعلها عبئًا أمنيًا واقتصاديًا على المنطقة».. وهنا، يوضح الخبراء أن السيناريوهات المستقبلية، تعتمد على قبول النظام السورى بحل سياسى شامل، إذ أن «توقف العمليات العسكرية مرتبط بقبول النظام السورى بالتغيير»، بينما لا تريد «إسرائيل أن تظل مراقبة للأحداث، بل تسعى لأن تكون فاعلًا رئيسيًا فى رسم مستقبل سوريا».
●●●
أما بالنسبة للدور التركى، فإن أنقرة تسعى لملء الفراغ الذى تركته إيران وحزب الله، من خلال دعم الميليشيات والتنسيق مع قوى إقليمية ودولية.. ويبدو أن الوضع فى سوريا لا يزال معقدًا، مع استمرار إسرائيل فى تنفيذ استراتيجياتها العسكرية والسياسية لتحقيق أهدافها الإقليمية.. وبينما تواجه سوريا تحديات داخلية وخارجية هائلة، يبقى الحل مرهونًا بتضافر الجهود الدولية والإقليمية، لدعم بناء دولة موحدة ومستقرة، مع ضرورة مواجهة العدوان الإسرائيلى المستمر، الذى يُفاقم معاناة الشعب السورى.. وإذا كان كثير من السوريين وغير السوريين، استقبلوا خبر سقوط نظام الأسد بابتهاج واحتفالات، فإن هناك من اختلطت لديهم المشاعر بين فرح وتوجس وخوف.. وتتركز هذه المخاوف على سيناريو سيطرة هيئة تحرير الشام على السلطة، بعدما كانت متهمة بأنها فرع من فروع تنظيم القاعدة فى سوريا، كما أنها لا تزال مُصنفة ضمن قائمة الإرهاب من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى.
أما الأكراد فى شمال شرق سوريا، والمناهضون لتركيا، فإن الخوف يتضاعف لديهم، كما قال أحدهم، «إذا كان السوريون سواء كانوا من الموالين لنظام الأسد أو معارضيه يخشون على مستقبلهم وحياتهم فى سوريا مرة واحدة، فنصيبنا من الخوف والتهجير والقتل أكبر بثلاث مرات.. فالمستقبل تسوده حالة من الشك، خصوصًا أن الفصائل التى تهاجم مناطق سيطرة الأكراد فى شمال البلاد، تنضوى تحت لواء الجيش الوطنى السورى، الذى يتكون من عدد من الفصائل المسلحة والأجانب، بدعم تركيا وإشرافها».
فى ديسمبر الماضى، ومع إحكام هيئة تحرير الشام قبضتها على حلب، تحركت الفصائل المدعومة من تركيا الموجودة فى عفرين، نحو منطقة الشهباء، فى ريف حلب الشمالى، وسيطرت عليها، مما أدى إلى موجة نزوح ثالثة نحو محافظة الرِقة، التى لا تزال تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية التى يقودها الأكراد.. هؤلاء النازحون يرون أن عدو الأكراد الحقيقى هو الجيش التركى ورئيسه أردوغان، الذى جُل تركيزه فى الحرب السورية، هو حول كيفية التخلص من الأكراد وتهجيرهم من مناطقهم، كما فعل أسلافه من الحكام الأتراك بأكراد تركيا سابقًا.. فتركيا فى نظرهم هى من تُحرض السوريين ضد بعضهم البعض، وهى من تزرع الحقد فى نفوسهم تجاه الأكراد، لدرجة أن الفصائل الموالية لتركيا صبَّت كل تركيزها على محاربة الأكراد بدلًا من نظام الأسد، الذى كان إسقاطه هو الهدف من الثورة.
ويؤكد الأكراد السوريون، وعلى رأسهم قوات سوريا الديمقراطية، على لسان قائدها، مظلوم عبدى، أن «مطالبهم تتوافق مع سوريا الموحدة، ولا يسعون إلى الانفصال أبدًا، بل إلى تثبيت حقوقهم السياسية والثقافية فى الدستور ضمن دولة واحدة»، كما أن مجلس سوريا الديمقراطى أكد مرارًا، من خلال بيانات وتصريحات أدلى بها مسئولوه، على أن الإدارة الذاتية المُطبقة بالفعل «هى النموذج المتعدد الأعراق والأديان فى المناطق التى يسيطرون عليها حاليًا».. وكل ما يريدونه الآن، «إدارة لا مركزية ضمن دولة سوريا، مثل الإدارة الذاتية المُطبقة حاليًا فى شمال شرقى البلاد، وهى أحد التطبيقات العملية لللامركزية.. كنا وما زلنا دائمًا مستعدين للحوار مع جميع الأطراف، من أجل رسم ملامح سوريا المستقبلية، داخل البلاد وخارجها، بما يضمن الحقوق المتساوية لجميع مكونات سوريا».. إلا أن كثيرين منهم يعيشون حالة عدم اليقين، من أن تتخذ إدارة ترامب القادمة خطوة مفاجئة، وتسحب قواتها من شمال شرقى البلاد وتتركهم «فريسة» لهجمات تركيا.
القوات الأمريكية موجودة فى سوريا من أجل، كما تردد واشنطن، محاربة الإرهاب المتمثل فى تنظيم الدولة «داعش»، وبدون التوصل إلى حل سياسى، ستسود المنطقة حالة من الفوضى مرة أخرى، وستكون الظروف مواتية لانتعاشه من جديد.. والولايات المتحدة تدرك هذه الحقيقة وتراقب الوضع، كما أن عددًا من الدول الأوربية تتفق معها فى الرأى والمخاوف، لذلك يُعوِّل الأكراد على الحل السياسى الذى يضمن حقوق جميع السوريين، وهو السبيل للخلاص من التنظيمات الإرهابية.
ونسأل ثانية: ماذا تريد تركيا من سوريا ما بعد الأسد؟.
لعل كثيرين يعلمون نية حكومة أردوغان فيما يتعلق بسوريا.. يقولها أردوغان صراحة، إن جُل مخاوفه فى سوريا، تكمن فى وجود قوات سوريا الديمقراطية على حدود تركيا الجنوبية، إذ تعتبرها تركيا امتدادًا لحزب العمال الكردستانى، الذى يخوض صراعًا مسلحًا ضد الدولة التركية، منذ ما يزيد على أربعين عامًا.. يقول البروفيسور هنرى باركى، من معهد مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى، وصاحب المؤلفات عن القضية الكردية، إن تركيا بلا شك، القوة الأكثر أهمية التى دعمت ولا تزال تدعم فصائل المعارضة، مثل هيئة تحرير الشام، التى حصلت على طائرات بدون طيار من تركيا، وقُوبل سقوط حلب وغيرها من المحافظات على يد الهيئة بالترحيب من قِبل أنقرة، خصوصًا وأن الأسد تجاهل دعوة إردوغان فى الفترة الأخيرة، للجلوس إلى طاولة المفاوضات.. لذلك، فمن المؤكد أن هذا التحول الآن، من شأنه أن يزيد من نفوذ تركيا فى سوريا.
لكن، على الرغم من الدعم العسكرى الذى يقدمه التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة للأكراد، إلا أن مشروع الإدارة الذاتية يفتقر إلى الدعم السياسى الواضح للأكراد فى سوريا المستقبل.. يقول باركى «المسألة كلها تكمن فى تركيا.. فهى دولة كبيرة ومهمة للغاية، وعضو فى حلف شمال الأطلسى، وتلعب دورًا مهمًا فى النظام الغربى، كما نجح أردوغان فى ترهيب الدول الغربية.. قد يقول المرء إن هذه السياسة الغربية قصيرة النظر.. ولكن مع وجود كثير من القضايا الدولية، فإنهم لا يريدون إضافة قضية جديدة.. ومع ذلك، لم ترضخ واشنطن للضغوط التركية حتى الآن، لأن ما يوفره الأكراد أمر حيوى أيضًا.. وحتى ترامب، الذى أراد، بسبب أردوغان، سحب القوات الأمريكية من سوريا، اقتنع خلال ولايته الأولى بإبقاء القوات الأمريكية هناك.
ومنذ بداية الحرب، دعمت تركيا الفصائل المسلحة المعارضة فى شمال البلاد، وأطلقت عدة عمليات عسكرية لإبعاد الأكراد عن مناطقهم الأصلية نحو الداخل السورى، بذريعة محاربة الإرهاب وإنشاء منطقة عازلة، منها عملية «غصن الزيتون» فى عفرين، يناير 2018، و«نبع السلام» فى مدينتى رأس العين وتل أبيض، أكتوبر 2019، إضافة إلى «درع الفرات» فى جرابلس عام 2016، التى هُزم فيها تنظيم الدولة الإسلامية لصالح الفصائل الموالية لتركيا.. وقد نزح، إثر المعارك بين القوات الكردية والفصائل المعارضة، مئات الآلاف من الأكراد من قراهم فى عفرين، إلى مدن أخرى أكثر أمنًا فى البلاد، وحلّ محلهم نازحين من مدن سورية أخرى، مثل الغوطة وحمص ودير الزور وغيرها، ومعظمهم من أسر المقاتلين فى صفوف الفصائل المعارضة المدعومة من تركيا، «إن تركيا تعلم أن أكثر المناطق تنظيمًا وأمانًا، هى مناطق سيطرة الإدارة الذاتية فى شمال شرقى البلاد، لذلك لا تتوقف عن شن هجمات بين الحين والأخرى لزعزعة استقرار المنطقة، وإخراج القوات الكردية منها».
لقد رفع أردوغان من أهمية الأكراد السوريين فى السياسة الداخلية لبلاده، ليس فقط لوضع مواطنيه الأكراد فى تركيا فى موقف دفاعى، بل وأيضًا كوسيلة لتشتيت انتباه الناس.. ومع ذلك، فإن الحقيقة وإن لم يتم التعبير عنها علنًا، هو الخوف من أن يُبرم الأكراد السوريون صفقة مع أى حكومة مركزية فى دمشق، لتحقيق وضع مستقل تمامًا، كما فعل الأكراد العراقيون فى أعقاب حرب العراق.. إذ يعرف الأتراك، أن الولايات المتحدة كانت الوكيل الأساسى فى مساعدة الأكراد العراقيين، على إنشاء حكومة إقليم كردستان.. واليوم، عادت الولايات المتحدة مرة أخرى إلى التحالف مع كيان كردى آخر، مما أدى إلى تعميق المخاوف فى أنقرة، من أن يعيد التاريخ نفسه.. ونتيجة لهذا، أصبح التحالف الأمريكى فى سوريا سببًا رئيسيًا للخلاف بين أنقرة وواشنطن.. وهنا، يوضح باركى، أنه «إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها من شمال شرق سوريا، فستكون عواقبها وخيمة ومريعة، لأنه لا يزال هناك أكثر من أربعين ألف معتقل من مسلحى تنظيم داعش ومؤيديه، فى السجون التى تديرها قوات سوريا الديمقراطية، وإذا أُطلِق سراح هؤلاء، فمن المرجح أن ينضم بعضهم أو كثير منهم إلى هيئة تحرير الشام، وبالتالى تعزيزها أو التسبب فى خلق حالة من الفوضى فى شمال العراق أيضًا»، خصوصًا وأن قوات سوريا الديمقراطية لعبت دورًا بارزًا فى هزيمة تنظيم الدولة، الذى سيطر على مساحات كبيرة من سوريا، وإذا تشكل جيش سورى وطنى فى سوريا المستقبلية، فبالتأكيد «ستكون قسد جزءًا منه، لأنه ليس لدينا أى توجهات أخرى، بل الدفاع عن أمن مناطقنا ضد هجمات الفصائل المدعومة من قوى إقليمية»، كما يؤكد الأكراد.
إلا أن تركيا حذرة، من أى محاولة من جانب الأكراد السوريين، لتعزيز موقعهم على الأراضى التى يسيطرون عليها.. إن التقدم السريع الذى أحرزته هيئة تحرير الشام نحو دمشق، وخطابات قائدها أحمد الشرع عن سوريا الجديدة، والتى تخلو من الإشارة إلى الأكراد، يثيران حالة من عدم اليقين بشأن موقفها تجاه قوات سوريا الديمقراطية.. وفى حين لم تحدث اشتباكات مباشرة بين الطرفين حتى الآن، إلا أن الأمور قد تتجه نحو الصدام إذا ضغطت تركيا، كما أن تناقض الأيديولوجيا والعقيدة التى يتبناها الطرفين، تثير مخاوف إضافية، حيث تسود اليسارية والاعتدال الدينى بين الأكراد، بينما تتبنى الهيئة فكرًا إسلاميًا متشددًا.. ويظل الوضع غير مستقر، مما يجعل المنطقة عُرضة لتغيرات مفاجئة فى الأيام المقبلة.
●●●
كثيرًا ما وُصِفت العلاقات الإيرانية السورية بالاستراتيجية، ولكن التغيرات السياسية الأخيرة فى سوريا، دفعت إلى إعادة تقييمها، لا سيما فى سياق المتغيرات الدولية والإقليمية الأخيرة.. وثمة تساؤلات عن شكل ومستقبل هذه العلاقات على ضوء عدة عوامل حاسمة، أبرزها المواقف المتبادلة تجاه القضايا الأمنية والسياسية فى المنطقة، والخطوط الحمراء التى تضعها طهران فيما يتعلق بالملف السورى، ودور إيران فى دعم «محور المقاومة»، وكذلك دورها فى الاستثمار الاقتصادى داخل سوريا.
فى الوضع الراهن، يبدو أنه ليس من الصعب التنبؤ بشكل دقيق بمستقبل العلاقات الإيرانية السورية، بحسب أستاذ اقتصاد التنمية فى جامعة بيرمنجهام، مرتضى أفقه، الذى قال إن هذه العلاقة سوف تعتمد على مواقف النظام الجديد فى سوريا تجاه إسرائيل من جهة، ومع إيران من جهة أخرى، بالنظر إلى تاريخ الصراع العسكرى بين إيران وفصائل المعارضة.. لكن الباحث السياسى، مهدى عزيزى، يرى أن مصير سوريا سياسى، سيقرره الشعب السورى، وستكون هناك حكومة مُقبلة على أساس الانتخاب، ومع وجود عملية سياسية ديمقراطية، ستتعامل طهران معها بحكمة وعقلانية، خصوصًا أن الحكومة السورية الجديدة لم تمس بأمن إيران والأمن العام فى المنطقة، وطهران تعتبر سوريا جزءًا مهمًا من محور المقاومة.
واعتبر عزيزى أن مستقبل سوريا لم يتضح حتى الآن، ويعود ذلك فى رأيه، إلى طبيعة تركيبة السكان ووجود خلافات بين الفرق المسلحة، فضلًا عن التدخلات الخارجية، ورغبة الجميع فى الحفاظ على مصالحه، «لذلك لا أتوقع أى شىء حتى تستقر الأمور فى سوريا».. وحدد الباحث الإيرانى حالة واحدة، يمكن أن تمنع طهران من التعامل مع الحكومة السورية الجديدة، وهى إذا اتخذت من إيران عدوًا لها، أو إذا اتهمت طهران بأنها ما زالت تقف مع نظام الأسد.. أما مدير المركز العربى للدراسات الإيرانية، محمد صالح صدقيان، فأكد أن بلاده مستعدة للحفاظ على العلاقات الإيجابية مع النظام الجديد بسوريا، إذا استعد هو لذلك، وبما أنه لم تتضح بعد ملامح هذا النظام وطبيعة القوى التى ستُشكله، فإنه يصعب معرفة طبيعة تطور العلاقات الإيرانية معه.
لقد أعلن عديد من المسئولين الإيرانيين العسكريين والسياسيين، دعمهم لسيادة سوريا وسلامة أراضيها، حيث تعتبر طهران أن تفكك سوريا أو الدعوة إلى عدم الاستقرار فيها، سيكون على حساب المنطقة بأسرها.. وأدانت طهران الهجمات الإسرائيلية على سوريا مؤخرًا، واعتبرتها انتهاكًا للسيادة السوريا، ودعت إلى حماية الحكم الجديد فى سوريا، وطالبت المجتمع الدولى والجهات الفاعلة الإقليمية إلى وقف الهجمات الإسرائيلية، التى تراها إيران بمثابة جهود لإثارة الفوضى وعدم الاستقرار داخل سوريا، التى تدرك طهران أن «سوريا الضعيفة» هى ما تريده إسرائيل، إذ تخشى تل أبيب من نقل الأسلحة المتقدمة إلى الحكومة السورية الجديدة، وتعتبره أمرًا خطيرًا بالنسبة إليها.. ومع ذلك، فإن خطوط إيران الحمراء تجاه النظام الجديد فى سوريا، تتمثل فى انتهاك المقدسات الدينية والشيعية فى سوريا، وكذلك المس بأمن المنطقة والإقليم، خصوصًا العراق.
وأخيرًا، فإنه بإمكان سوريا فى نظر طهران أن تلعب دورًا مهما فى «حرب الممرات»، وهى الحرب التى ستكون مهمة فى العالم، وستكون من أهم ركائز الصراع الاقتصادى بين الولايات المتحدة والصين فى المستقبل، لا سيما مع المخاطر التى تتهدد الممرات فى الشرق الأوسط، مما دفع دولًا مثل الصين والهند، للبحث عن بدائل أقل خطورة، وهنا ستكون سوريا مهمة للجميع، الهند والصين، وأمريكا وأوروبا.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.