رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: الذين صنعوا مجد أحمد عدوية

الدكتور محمد الباز
الدكتور محمد الباز وأحمد عدوية

لم يلمع أحمد عدوية وحده، كان إلى جواره كثيرون، منحوه مجده، لكنه احتل الصورة بمفرده، ولأنه كان يعرف ذلك، فقد كان وفيًا لهم يذكرهم ويتحدث عنهم، ولأن وهج نجوميته كان طاغيًا، فقد ظل عدوية مع كل ما قاله عنهم متفردًا بالنجومية وبالشهرة. 

اقرأ أيضا:

محمد الباز يحقق: القصة الكاملة لمحاولة اغتيال أحمد عدوية

من بين هؤلاء نقف أمام ثلاثة نجوم، لكل منهم قصة وحكاية: 

 

محمد عصفور.. ما بلاش اللون ده معانا 

<span style=
محمد عصفور

فى العام ٢٠١٨ عندما كنت أعمل على كتاب «كشك وعدوية» لم أكن أعرف أن محمد عصفور، صاحب أهم وأكثر ألحان عدوية، لا يزال على قيد الحياة، يعيش فى بيته بالمعادى. 

كان عصفور عازف أوكورديون وملحنًا موهوبًا جدًا، يمكن أن تقرأ اسمه على أهم أغانى عدوية «ما بلاش اللون ده معانا- يا ليل يا باشا- سلامتها أم حسن- كركشنجى.... وغيرها».. ورغم أنها أغنيات مهمة وفارقة جدًا فى مسيرة أحمد عدوية، إلا أنه يحتاج إلى من يُعرِّف الناس به. 

على أحد المنتديات الغنائية وجدت أغنية «يا واد يا منظوم»، تقول كلماتها التى كتبها حسن أبوعتمان «وله... يا واد يا منظوم/ وله... وله... وله... يا كايد الخصوم/ يا دارسهم أوى وفارسهم أوى/ وهاوسهم أوى... أوى أوى أوى وملو الهدوم». 

 

عدوية 
عدوية 

فى التعليقات لفت انتباهى تعليقًا كتبه عبده عصفور يقول فيه: ألحان الفنان وعازف الأوكورديون محمد عصفور والدى، وهو حى يرزق ومعروف جيدًا لدى كبار فنانى الوطن العربى، وهو صاحب أكبر مدرسة فى الألحان الشعبية، وأحد صانعى نجومية الفنان أحمد عدوية. 

على قدر العفوية التى فى كلام عبده عن أبيه محمد عصفور، على قدر الوجع الذى شعرت به، وكأنه رأى أن العالم لم يعترف بأبيه، أو يمنحه حقه، فقرر هو أن يتحدث عنه، ويُذكر به، ويقول للناس جميعًا إن الفنانين العرب يعرفونه جيدًا، ليس لأنه صنع نجومية عدوية فقط، ولكن لأنه صاحب مدرسة فى الألحان الشعبية. 

لم يكن محمد عصفور صاحب مدرسة فى التلحين بالطبع، فما قاله عبده عصفور فى تعليقه ليس إلا تقدير ابن لأبيه، وطبيعى أن يكون مبالغًا بعض الشىء وهو ما لا نعاتبه أو نلومه عليه.

الواقع فعلًا يقول إن عصفور لم يكن له مريدون أو تلاميذ ساروا على نهجه فخلدوه، لكنه كان صاحب طعم وروح خاصة به، وتخيل أن عصفور هذا جعل الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب يغار منه. 

لا مبالغة فيما أقوله لك على الإطلاق، وسأترك لكم أحمد عدوية نفسه يحكى لكم ما جرى. 

عدوية 
عدوية 

بعد عامين من دخول عدوية الإذاعة قابل محمد عبدالوهاب هناك صدفة. 

يقول عن ذلك: كنت ماشى فى الاستديو لقيت الأستاذ عبدالوهاب ومعاه أحمد فؤاد حسن، كانوا رايحين يسجلوا آخر لحن عمله الأستاذ للفنانة وردة، لمحنى فؤاد فهمس فى أذن الأستاذ: عدوية أهه، الأستاذ قال له: ناديهولى، رحت سلمت عليه، قال لى: ما أنت زى القمر أهه، ألا قل لى يا واد: مين اللى عمل اللحن بتاع خضر العطار. 

كان عبدالوهاب يقصد لحن إعلان تليفزيونى شهير أداه عدوية يقول مطلعه: سلام عشان خضر العطار/ معروف تمام وزباينه كتار/ والجار يقول للجار/ أسعاره أرخص أسعار/ خضر العطار/ من أسوان لراس التين/ عارفينه طبعًا عارفين. 

ويحكى عدوية ما جرى: لقيت عبدالوهاب معجب جدًا بالأغنية، وقال لى: يا ابن الكلب، أنت غنيت اللحن حلو قوى، قل لى مين عمله؟ فقلت له: ملحن متربى معايا فى الشارع اسمه محمد على محمد عصفور، قال لى: عايز أشوفه، وبعد كام يوم رحنا له أنا وعصفور فى بيت ابنه. 

لحن عصفور لإعلان خضر العطار كان سرًا من أسرار عدوية، والغريب أنه عندما كان يُحيى أحد الأفراح أو يؤدى وصلته فى أحد الكباريهات، كانوا يطلبون منه غناء خضر العطار رغم أن الكلمات كانت لإعلان ولم تكن لأغنية من الأساس. 

كان التعليق الذى كتبه ابن محمد عصفور فى ١١ أغسطس ٢٠١٢.

بحثت عنه بعد ذلك، فلم أجد له أثرًا إلا فى واقعتين.

الأولى كانت فى أغسطس ٢٠١٢، وبطلها مطرب اسمه مرجان، كانوا يلقبونه بمرجان مطرب الميدان، نسبةً إلى ميدان التحرير.

صرح مرجان لأحد المواقع الإلكترونية بأن الملحن المتميز محمد عصفور شاهده وهو يغنى فى أحد البرامج، فاختاره لمشاركة أحمد عدوية فى ديو وطنى «موال فى حب بلدى»، يلحنه عصفور بنفسه ومن كلمات الشاعر أحمد قدرى وتوزيع المايسترو محمد أبواليزيد. 

والغريب أنه بعد هذا التصريح لم يظهر شىء على الإطلاق، فلم نسمع لديو «موال فى حب بلدى»، ولم يطل علينا محمد عصفور، ثم أن مرجان مطرب الميدان نفسه اختفى تمامًا، ولو جربت وبحثت على محرك البحث جوجل عن مصير هذا الموال، فلن تجد إلا خبرًا واحدًا فقط، وهو خبر التصريح الأول، الذى يبدو أنه كان الأخير أيضًا. 

الثانية فى يناير ٢٠١٤ عندما كان عدوية ضيفًا على فيفى عبده، التى كانت تقدم برنامجها «أحلى مسا» على شاشة «إم بى سى مصر»، غنى عدوية «كركشنجى» وقال إنها من ألحان صديقه محمد عصفور، فعقبت فيفى: الله يرحمه، فرد عدوية على الفور: ربنا يديله طولة العمر. 

دائرة ضيقة جدًا هى التى تعرف ما الذى فعله محمد عصفور فى حياة أحمد عدوية، لا يتجاهله المطرب الشعبى الكبير فى أحاديثه أو حواراته، لكنه يأتى عليه عرضًا فى حكاية من حكاياته أو طرفة من طرائفه، ثم ينتهى بعد ذلك كل شىء. 

لم يفرض محمد عصفور نفسه على حياة عدوية وذكره وسيرته، كما فعل على أغنياته الشهيرة، لكن هناك مَن فعلها، أصبح اسمه ينافس اسم أحمد عدوية إلا قليلًا، بل إن هناك من يعتقد أنهما شخص واحد. 

 

الريس بيرة.. السح الدح إمبو.. إدى الواد لأبوه

<span style=
الريس بيرة

مؤكد أن الاسم صادفكم كثيرًا، يمكن ألا تعرف الأغنيات التى كتبها لعدوية أو حتى ما كتبه لغيره وهو كثير جدًا، لكنى فوجئت أن كثيرين ممن كنت أتحدث معهم عن سيرة المغنى ينسبون تقريبًا كل ما غناه عدوية للريس بيرة دون غيره من الشعراء وكتّاب الأغانى الذين تعامل معهم المغنى، الذى يبدو أن اسمه كان سببًا فى شهرته، ولست فى حاجة لتعرف أنه ليس اسمه الحقيقى، فاسمه الذى تحمله شهادة ميلاده هو خليل محمد خليل. 

فى ٦ يونيو من العام ٢٠٠٨ توفى الريس بيرة، بعد أن ألقى عن كاهله ٨٦ عامًا قضاها فى حياة رسمها على مزاجه الخاص، منذ ظهرت موهبته فى كتابة الأزجال والمواويل وتلحينها وغنائها أيضًا، فلم يعكر صفوها أحد إلا قليلا. 

عدوية
عدوية

كيف وصل خليل إلى الريس بيرة؟ 

هذه قصة طريفة من طرائفه الكثيرة، والفضل فى الأمر كله يعود إلى جدته، التى كانت تناديه بـ«بيرة» نسبةً إلى بئر العسل لسمار بشرته، عرفه أصدقاؤه منذ صغره بـ«بيرة»، بعضهم كان يعتقد أن هذا هو اسمه الحقيقى، ولما كوّن فرقته الموسيقى التى كانت تصاحبه وهو يغنى فى المقاهى والحفلات والإذاعة كانوا ينادونه بالريس، فأصبح «الريس بيرة». 

قبل أن يلتقى بيرة بعدوية فى العام ١٩٧٢، كان خليل قد قطع شوطًا طويلًا فى أزقة الفن وحواريه، يمتد إلى ما يقرب من خمسين عامًا، أو بالتحديد ٤٤ عامًا، فقد بدأت رحلته مع الارتجال وكتابة الأزجال وتلحينها وعمره ٦ سنوات، عندما كان لا يزال يعيش فى حى الحسين الذى ولد فيه. 

كتب الريس بيرة خلال حياته ما يقرب من ألفى أغنية، منها ما يقرب من ٤٥ أغنية منسوبة لشعراء وملحنين آخرين، ومن بين ما يحمل اسمه خارج دولة عدوية أغانى «يا واد يا جن» لكتكوت الأمير، و«يا أسمر يا سمارة يا أبو دم خفيف» لشريفة فاضل، و«يا قشر البندق» للمطربة اللبنانية طروب. 

عدوية
عدوية

وإذا أردنا الحق، فهو صاحب الفضل الأول والأخير على عدوية، فهو الذى التقطه من تشرد شارع محمد على ووضعه على أول طريق النجوم، بأغنيته «السح الدح إمبو» التى لم تكن أبدًا عبثية. 

ما رأيكم فى أن نسمع بدايات عدوية كما يرويها الريس بيرة. 

جرى اللقاء فى بدايات العام ١٩٧٢، وقتها كان أحمد عدوية هو نفسه أحمد مرسى الذى يعرفه رواد مقاهى شارع محمد على، ويعمل طبالًا على الرق. 

كان بيرة قد كتب «السح الدح إمبو» قبلها بسنوات، وكان الجميع يسمعونها منه، ولها قصة خاصة، وتخيل أن الأغنية التى صنعت مجد عدوية ووزعت أكثر من ٦ ملايين أسطوانة كانت وليدة الصدفة. 

الحكاية نجدها عند بيرة.

حدثت بالتقريب خلال العام ١٩٥٢، طلب منه أحد أصدقائه أن يذهب معه إلى بيته، ليصلح بينه وبينه زوجته، جلس بيرة مع صديقه ودخلت الزوجة لتعمل له شاى، وتركت طفلها الصغير إلى جوار الريس بيرة، ويبدو أن الولد بكى، فأطلت الزوجة برأسها من المطبخ، موجهة كلامها لبيرة: إدى الواد لأبوه، لكن الأب الذى كان غاضبًا لم يستجب لزوجته، فوجد بيرة نفسه يقول: شيلوا الواد من الأرض، لحسن الواد يتخض، صعبان علىّ الواد. 

خرج بيرة من بيت صديقه بعد أن أصلح بينه وبين زوجته، وكانت الأغنية قد اختمرت فى رأسه، فكتب السح الدح إمبو، وأكمل كلماتها، والمفاجأة أنه أخذ المطلع من أغنية كان يغنيها شكوكو بالفعل. 

طلب عدوية من الريس بيرة أن يغنى السح الدح إمبو، فأخذه من يده وذهب إلى الشيخ طه عازف الأوكورديون وطلب منه تلحين الأغنية التى حفظها لعدوية، الذى كان يعمل وقتها فى ملهى شهرزاد مع الراقصة عزة شريف فى فرقة فتحية محمود. 

قام عدوية بتسجيل الأغنية لصالح شركة صوت الحب، ومن بين ما لا يعرفه كثيرون- والرواية هنا على عهدة الريس بيرة وحده- أنه سافر بعد تسجيل الأغنية مباشرة إلى ليبيا طلبًا لعمل ينقذه من الضياع الذى يعانيه فى القاهرة، لكنه عاد سريعًا بعد أن فشل هناك، ليجد أن الأغنية كسرت السوق، وتم الإعلان رسميًا عن مولد المطرب الشعبى أحمد عدوية. 

هل كان عدوية مخلصًا للريس بيرة؟

سؤال يبدو غريبًا، خاصة أن المغنى الشعبى كان طوال الوقت يتحدث كابن بلد حقيقى يحفظ الجميل لمن ساعدوه ودفعوه إلى الأمام، يشير إليهم من آن لآخر، لكن يبدو أن هناك ما عكر الصفو بين عدوية والريس بيرة. 

فى العام ٢٠٠٨ قررت المطربة اللبنانية «دومنيك» أن تغنى «السح الدح إمبو»، ولما فعلت ذلك غضب عدوية وبدا أنه معترض على المطربة التى غنت أغنيته الشهيرة دون أن تحصل على إذن منه، وهو ما أثار دهشة واستغراب الريس بيرة الذى كان يعيش أيامه الأخيرة، واستنكر فى تصريحات صحفية غضب عدوية، إذ إنه الأب الشرعى للأغنية ولم يغضب رغم أن دومنيك لم تحصل على إذن منه أيضًا. 

هل جرى نزاع بين عدوية والريس بيرة على «السح الدح إمبو»؟ 

هناك من يشير إلى ذلك، بل ويؤكد أن النزاع وصل إلى القضاء، لكن يبدو أن الأمر حسم للريس بيرة، والدليل أن الأغنية لا تزال تحمل اسمه إلى الآن. 

كان الريس بيرة يعرف قدر نفسه جيدًا، قال مرة إنه أفضل من شكسبير، وأعتقد أنه كان يصدق ذلك جدًا، ولذلك عاش سعيدًا، ولم يكن فارقًا معه أن يعترف عدوية به أو يتنكر له. 

 

«حسن أبوعتمان».. جينا نقعد شدوا الكراسى 

حسن أبوعتمان
حسن أبوعتمان

بحثت عن «حسن أبوعتمان» كثيرًا، هناك معلومات متناثرة عنه فى تقارير صحفية وصور قلمية حاول أصحابها أن يظهروا وكأنهم يعرفون كل شىء عنه، لكنى عثرت على ما أعتبره كنزًا، حوار مع أولاده الثلاثة «محمد وكريم وأخلاق»، نشرته مجلة «صباح الخير» فى ٦ سبتمبر ٢٠١١. 

وقبل أن تتوقف عند اسم ابنته «أخلاق»، سأقول لك إن لهذا الاسم قصة، كما لكل شىء فى حياة شاعر عدوية الأكبر قصة وحكاية. 

أحب «حسن أبوعتمان» زوجته وكان يغار عليها غيرة قوية جدًا، كان يمنعها من الخروج من البيت إلا للشديد القوى كما يقولون، ومن حبه لها اختار أن يسمى ابنته «أخلاق»، حتى تصبح زوجته عندما يناديها أحد «أم أخلاق»، قد لا يعنى هذا الأمر بالنسبة لكم شيئًا، لكنه كان يعكس فطرة هذا الرجل الذى صنعته الحياة على عينها، أو بالأدق هو الذى صنع نفسه على عين الحياة. 

عدوية
عدوية

لم يكمل «حسن أبوعتمان» تعليمه، واصل دراسته حتى السنة السادسة من المرحلة الابتدائية، وقتها أصيب بسحابة بيضاء أحاطت بعينيه، وبدلًا من أن يصر أهله على علاجه استسلموا، وأخرجوه من المدرسة، وبعد عامين فقط من مغالبة الحياة وربما معاندتها أصبح عاملًا فى شركة «مصنع الغزل والنسيج» بالمحلة. 

على صوت ماكينات الغزل كان «أبوعتمان» يكتب الأزجال والأشعار الخفيفة، بل شارك فى الأعمال الفنية التى كانت تعرض على مسرح الشركة، أيامها كانت الشركات الكبرى لها فرق مسرحية وموسيقية، فالإنسان ليس آلة تعمل وينتهى الأمر كله بعد ذلك. 

بعد عشر سنوات فى العمل فى مكاتب وعنابر مصنع الغزل والنسيح، قرر «أبوعتمان» أن يكون حرًا طليقًا، يعمل لحساب نفسه دون أن يتحكم فيه أحد، أو يخضع هو لأحد، خرج ليعمل فى «صالون حلاقة» خاص به، كان يعتبر الحلاقة فنًا، يستطيع من خلاله أن يرسم وجه الإنسان بالطريقة التى يراها دون أن ينازعه فى ذلك أحد. 

كان «أبوعتمان» يعتبر الحلاقة نوعًا من الخلق الخاص، ثم إن عمله هذا جعله يسمع لكثيرين بما شكل وعيه الاجتماعى، وشحنه بصور وتعبيرات شعبية لا أول لها ولا آخر، وكان طبيعيًا أن تنتقل حالة «أبوعتمان» إلى أشعاره وأزجاله. 

ويوم أن قرر عامل الغزل والنسيح وحلاق المحلة بعد ذلك أن يكون شاعرًا غنائيًا، قرر أن يغنى له كبار المطربين، ولم يكن يومها فى العام ١٩٦٤ أكبر من «محمد رشدى» المطرب الشعبى الأول فى مصر. 

عدوية
عدوية

استقر «حسن أبوعتمان» فى «أبو قتادة»، حى من أحياء بولاق الدكرور يطلقون عليه تخفيفًا وتخففًا «أبو أتاتا»، وبدأ يبحث عن «محمد رشدى»، وقبل أن يصل إليه كتب أغنية «بنت الحلال»، التى تقول كلماتها: «بنت الحلال اللى عليها النية/ تسوى ملايين/ بس لو بإيديه/ قولوا لأبوها المهر غالى عليا». 

غنى «كارم محمود» هذه الأغنية، ولحنها الموسيقار الكبير «محمود الشريف»، الذى كان صديقًا مقربًا جدًا من «أبوعتمان»، لكن يبدو أن «كارم محمود» لم يكن مقصد «حسن»، لم ير فيه المطرب الذى يمكن أن يحمله إلى الشهرة والنجومية، لم تكن حنجرته لتتحمل مدفعية الغناء الشعبى الثقيلة التى كانت تحملها أفكاره وأشعاره. 

راقب «حسن أبوعتمان» محمد رشدى جيدًا، كتب أغنيته «عرباوى» فى ورقة، وألقى بها فى سيارة «رشدى» وفى آخرها رقم تليفون أقرب محل للشقة التى يقيم فيها، وبعد أيام وجد «رشدى» يتصل به، ويتفق معه على الأغنية التى لحنها «حلمى بكر». 

كانت «عرباوى» التى هى من أنجح أغنيات «رشدى» فاتحة خير على الشاعر القادم من المحلة الكبرى، لكن يبدو أن منغصات الحياة لاحقته. 

رواية أولاد «أبوعتمان» تشير إلى أنه ظل يتعاون مع «رشدى» لمدة عشر سنوات كاملة، بدأت فى بدايات الستينيات وانتهت فى أوائل السبعينيات، وخلال هذه الفترة كتب له أغنيات «والله فرحنا لك يا وله» و«حسن نعيمة» و«عشرية». 

لكن هناك رواية أخرى تؤكد أن «أبوعتمان» كتب أغنيات قليلة لرشدى ولم يكمل مشواره معه، حيث ضاق به بسبب ما قاله عنه «حلمى بكر». 

عدوية
عدوية

كان «حلمى بكر» يرى أن مهنة «أبوعتمان» القديمة «حلاق» يمكن أن تمثل مطعنًا فى شعبية وجماهيرية «رشدى»، فخصومه ومنافسوه عندما يعرفون أن كاتب أغنياته فى الأصل حلاق، يمكن أن يستغلوا ذلك فى الإساءة إليه والتشهير به. 

يمكنك أن تقول إن مهنة الحلاق ليست عيبًا، وإن «أبوعتمان» يكفيه شرفًا أنه كان يأكل من عرقه بدلًا من أن يتسول أو يتحول إلى مجرم، ثم إنه أصبح شاعرًا وأغنياته ناجحة جدًا. 

ويمكننى أن أقول لك إن هذا كلام نظرى ومثالى جدًا، ولا يمكن فعليًا الاعتماد أو التعويل عليه كثيرًا، نردده ربما لنريح ضمائرنا لا أقل ولا أكثر من هذا. 

من الصعب الجزم بأى من الروايتين هى الصحيحة، لكن المنطق الذى تحدث به «حلمى بكر» وتعامل به طوال مسيرته الفنية يجعلنى أصدق أنه يمكن أن يقول ذلك، ويمكن أن يجتهد شاعر بعينه بعيدًا عنه أو من يلحن لهم بسبب اعتراضه على مهنة سابقة يعمل بها هذا الشاعر، فلديه نظرة خاصة لمن يعملون فى الفن، يمكن أن تختلف معها، لكن لا تستطيع أن تنكرها عليه، لأنه على الأقل يقتنع بما يفعل وما يقول. 

فى بداية السبعينيات التقى «حسن أبوعتمان» بعدوية، كان المطرب الشعبى وقتها قد بدأ الطريق إلى النجوم بالفعل، كانت أغنية «السح الدح إمبو» قد سادت واستولت على السوق، وبدأت تشكيل الذوق من جديد، وبدا الطريق مفتوحًا على آخره للمغنى القادم من مقاهى «محمد على». 

عندما تعرف الأغنيات التى كتبها «حسن أبوعتمان» لعدوية ستكتشف أنه كان الشاعر الأهم فى مسيرة المطرب الشعبى الكبير، وصناعة نجوميته، منها مثلًا: «زحمة يا دنيا زحمة»، و«سلامتها أم حسن»، و«كله على كله»، و«يا بنت السلطان»، و«يا ليل يا باشا يا ليل»، و«عيلة تايهة» و«أديك تقول مخدتش» و«كركشنجى». 

 

عدوية
عدوية

سآخذك بعيدًا عن كلمات «حسن أبوعتمان» قليلًا الآن، سأضعها بعد قليل وجهًا لوجه أمام ما كان يقوله عدوية على منبره من خطب وعظات ودروس، وأعدك أن تجد عجبًا. 

لكن الآن لا تزال لدىّ مساحات مهمة على خريطة الشاعر، منها مثلًا أريحيته فى الكتابة، وتداخل حياته الشخصية مع ما كان ينتجه من أغنيات، خاصة أغنيات أحمد عدوية. 

تعرفون أغنيته «عيلة تايهة»، التى تقول كلماتها: «عيلة تايهة يا ولاد الحلال/ ببلوزة نايلون على جيبه ترجال/ الحلوة خوخة/ جت بعد دوخة/ واللى يلاقيها يخطرنا فى الحال/ يا ولاد الحلال عيلة شاطرة وشطورة/ قمرة وقمورة/ غنوة ومكتوبة من أصل وصورة/ يا ولاد الحلال عيلة تايهة/ القدرة قلبتها على فمها مطلعتش لبابا طلعت لأمها/ يا ولاد الحلال عيلة تايهة/ طالعة مهندمة البنت منمنة/ ودى ماشية زى الساعة بس مقدمة/ يا ولاد الحلال ستة على ستة/ نوارة الحتة/ مساها شربات وصبحها قشطة». 

لم تكن هذه الأغنية لعدوية، ولم تكن لجمهوره، بل كانت لبنت «حسن أبوعتمان» «أخلاق»، حدث بينهما خصام شديد، ولأنه كان يحبها جدًا، لم يستطع أن يقسو عليها، فكتب هذه الأغنية ليعاتبها بها. 

وكما كتب أبوعتمان لابنته «أخلاق»، كتب أيضًا لابنه محمد أغنية تقول كلماتها: «سته بسبستله بسبوسة/ بالسمن والسكر والعسل/ عسل وكتل يا حوسة/ عاطل ونايم فى العسل/ خلاصة الواد خلاصة/ وسلاح من غير رصاصة/ ولا نافع فى الدراسة/ ولا يسد فى عمل». 

غنى عدوية هذه الأغنية، كما غنى من قبل أغنية «عيلة تايهة»، ربما دون أن يعرف أن «أبوعتمان» كان يؤدب أولاده من خلاله، أو يرسل لهما رسائل عبر حنجرته. 

لقد عانى أولاد «حسن أبوعتمان» مع والدهم، ظل بعيدًا عنهم أكثر من عشرة أعوام، هى العشرة أعوام الأولى له فى القاهرة، كان يشق طريقه إلى المجد، بينما هم ينتظرونه هناك، وبعد أن جاء بهم إلى القاهرة، وكانوا ينتظرون أن يعيشوا معه فى شقة فاخرة من عائد أغنياته، إلا أنه عاش بهم فى شقة صغيرة بشارع النويش بالجيزة، والغريب أنه رفض أكثر من مرة الانتقال إلى شقة فاخرة، وكان العرض يأتيه من «عاطف منتصر» صاحب شركة صوت الحب التى تنتج أعمال عدوية. 

 

عدوية
عدوية

هل كان «حسن أبوعتمان» سعيدًا بعمله مع عدوية؟ 

السؤال ليس غريبًا، وقبل أن تقول إن أى شاعر فى هذه الفترة كان يسعى للعمل مع عدوية، سأقول لك: الوضع مع «حسن أبوعتمان» كان مختلفًا بعض الشىء، كانت أغنياته تحديدًا تتعرض لمضايقات من جهاز الرقابة، وتخيل مثلًا أن أغنية «كركشنجى دبح كبشه» التى جرب واستعرض فيها «حسن أبوعتمان» قدراته اللغوية والقدرة على التشبيك بين الكلمات التى تحتاج إلى تركيز لفهمها، لم يقدر له أن يتباهى بها، فى الوقت الذى كان أحمد عدوية يتباهى بغنائها، ويردد ما قاله عبدالحليم حافظ عندما سمعها ودهشته من قدرته على ترديدها بكل هذه السهولة- تم منعها من التسجيل فى مصر فى البداية، فتم تسجيلها فى اليونان، وكانت تباع فى مصر سرًا، وتحرر أكثر من محضر لبائعى الكاسيت لأنهم كانوا يبيعون الأغنية. 

ما تعرضت له «كركشنجى» تعرضت له بقية أغنيات «حسن أبوعتمان» التى غناها عدوية، ومن المفروض أن يعجبه ذلك، فكل ممنوع مرغوب، ثم إن أغنيات عدوية التى كانت تمنعها الإذاعة ويرفضها التليفزيون، كانت تنتشر مثل النار فى الهشيم، فهل يغضب شاعر من انتشار أغنياته بهذا الشكل؟ 

الأغنيات كانت تنتشر أيضًا، لكنها كانت تنسب جميعها إلى عدوية، إذاعة الأغنية فى الإذاعة والتليفزيون كانت تعنى بالإشارة إلى المؤلف والملحن، لكن إذاعتها عبر شرائط الكاسيت وبطريقة سرية أيضًا حال ذلك دون أن يأخذ الشاعر حقه، ثم إن المنع لأغانى «أبوعتمان» لم يكن بسبب محاذير سياسية أو دينية، ولكن لأسباب أخلاقية، فقد كانت الرقابة تتهمه بالابتذال، وأعتقد أن مثل هذا الأمر كان مزعجًا له جدًا. 

لكن «حسن أبوعتمان» كان يصبر نفسه، فالجمهور الذى لا يحترم كلماته اليوم، سيأتى يوم ويقدره ويمنحه حقه. 

عاش «حسن أبوعتمان» وهو يشعر بالقهر الشديد وذلك من بابين:

الباب الأول أنه كتب أغنيات كثيرة وطنية ودينية ولمطربين آخرين، لكن لا يتذكر له أحد شيئًا من ذلك، يتعاملون معه فقط على أنه شاعر عدوية فقط. 

والباب الثانى أنه وبعد أن ارتضى أن يكون شاعر عدوية، لم يجد الأغنيات تنسب له، كما يحدث مع الشعراء الآخرين الذين تنسب لهم أغنياتهم، كان حضور عدوية حاجبًا للآخرين، فلم يجد أى شاعر أو ملحن مساحة إلى جواره ليقف فيها. 

لا أعرف أين كانت تقف أغنية «المراسى» التى كتبها «حسن أبوعتمان» وغناها عدوية من حياته، لكننى أعتقد أنها تمثل الجانب الأكبر منها، أو على الأقل كان يتحدث فيها عن نفسه، ويصف حياته، ولم يكن هذا غريبًا عليه، فالشاعر الذى كتب لأولاده ليس بعيدًا أن يكتب لنفسه. 

عدوية
عدوية

يقول «حسن أبوعتمان» فى «المراسى»: «وجينا نبعد قالوا لنا نقعد/ وجينا نقعد شدوا الكراسى/ ده زى ما يكون فرح وجينا/ من غير ما صاحبه يكون داعينا». 

غالبا لم تخرج حياة أحد صناع أحمد عدوية عن هذا المعنى، ولذلك كم كان صادقًا فى مشهد حياته الأخير. 

كان مريضًا فى مستشفى الهرم يعانى من آلام الشعب الهوائية، نظر إلى ابنه محمد الذى كان يرافقه وقتها، وقال: «مكنش العشم يا دنيا أشوف الذل بعنيا»، ولما عاتبه ابنه على ما قاله، وطلب منه أن يخفف عن نفسه هذا الإحساس، وأن ينام قليلًا ليرتاح، وجده يردد ما يمكننا اعتباره آخر أشعاره: «أنام أنا/ إزاى أنام/ وفين أهرب من الأيام/ ده أنا لو يوم غلبنى النوم/ بأكون آخر عيون بتنام». 

لم يمت «حسن أبوعتمان» وهو مرتاح، تقول سيرته ذلك.. وأغلب الظن أنه مات كذلك لأنه لم يحصل على حقه كاملًا.. لأن هناك من كان يحصد كل شىء المال والشهرة والأضواء.. كان هناك عدوية.