سيناء.. حلم ما زال يراود قادة إسرائيل
منذ إعلان قيامها عام 1948، لم تكن لإسرائيل حدود مُعترف بها بالكامل.. وعلى مدار تاريخها، تغيرت حدودها مع جيرانها العرب، نتيجة للحروب والضم ووقف إطلاق النار واتفاقيات السلام.. والآن، أدى سقوط الرئيس السورى، بشار الأسد، إلى خلق وضع من شأنه أن يُعيد تشكيل حدود إسرائيل مرة أخرى.. فبعد الإطاحة بالأسد فى وقت سابق من هذا الشهر، تحركت إسرائيل بسرعة إلى الجانب السورى من المنطقة العازلة منزوعة السلاح، التى أقيمت منذ خمسين عامًا.. ووصف نتنياهو هذه الخطوة بأنها دفاعية ومؤقتة، وقال إنها تهدف إلى ضمان عدم تهديد أى من الجماعات المُتصارعة على السلطة داخل سوريا لإسرائيل.. ولكن فى زيارته إلى الجانب السورى من المنطقة العازلة، أوضح نتنياهو أن إسرائيل تخطط للبقاء لبعض الوقت.. وفى حديثه على قمة جبل الشيخ المطلة على سوريا، قال إن إسرائيل ستبقى فى المنطقة العازلة على الحدود السورية، والتى تم الاستيلاء عليها، «حتى يتم التوصل إلى ترتيب آخر يضمن أمن إسرائيل» !!.. نستخلص من ذلك أن إسرائيل تهرع إلى مناطق الفراغ فى أى من دول الجوار لتحتلها، تحت ذريعة حماية ما تدَّعى أنه حدودها وأمنها القومى.. وعلينا أن ننتبه جيدًا لنظرية الفراغ هذه.
وفى الفترة الأخيرة، كثُر الحديث عن تنامى قدرات الجيش المصرى، وما يمكن أن يُمثله ذلك لحدود إسرائيل مع مصر، وهذا ما يُثير ألف علامة استفهام، لأن كثرة الأحاديث تُنبئ بأن وراء الأكمة ما وراءها.. تحدث فى ذلك كُتاب إسرائيليون فى وسائل الإعلام العبرية، وناقشه وزراء ومسئولون، وتواصل الحديث على لسان السفير السابق فى القاهرة، ديفيد جبرين، الذى قال إن مصر تستثمر مبالغ ضخمة فى التعزيز العسكرى، وحذَّر من أن «مصر تستثمر مبالغ ضخمة فى التعزيز العسكرى رغم عدم وجود دولة تهددها، ورغم وضعها الاقتصادى الصعب.. وفى الوقت نفسه، هناك استثمار كبير من جانب مصر فى البنية التحتية العسكرية والمدنية شرقى سوريا». ويجب على إسرائيل أن تأخذ بعين الاعتبار القدرات التى تبنيها مصر، وأن لا تعتمد على تفسير النوايا أو المصالح.. فمن الممكن أن تتغير نوايا القاهرة ومصالحها الحالية بسهولة مع تغيير النظام، كما حدث فى مصر عام 2012، «ولا شك أن مصر تُخالف الملحق العسكرى فى معاهدة السلام، إذ أرسلت عددًا من القوات إلى سيناء أكبر مما نص عليه الملحق، ويتجاوز ما وافقت إسرائيل على تقديمه، نظرًا لطلب مصر زيادة القوات التى ستُحارب الإرهاب».
جبرين، الذى شغل منصب سفير إسرائيل فى مصر بين عامى 2016 و2019.. واعتبارًا من نوفمبر 2021، شغل منصب أول سفير لإسرائيل فى المغرب، وتقاعد مؤخرًا من وزارة الخارجية، أصدر كتابه الجديد، Partnership in the shadow of competition «الشراكة فى ظل التنافس»، الذى يتناول علاقات القاهرة مع إسرائيل بعيون مصرية.. وبحسب جبرين، فإن الطريقة التى ينظر بها المصريون إلى الإسرائيليين تتسم بالتنافر والتناقض، «من ناحية، يشعرون بالعداء والكراهية، لأن إسرائيل يُنظر إليها على أنها كيان إمبريالى، زرعه أجنبى، ككيان مصطنع.. كان من السهل نسبيًا بالنسبة لى، أن أدافع عن ذلك.. عندما وصلت إلى مصر، سُئِلت مرارًا وتكرارًا (من أين أنت؟)، بمعنى ما هو أصلك؟.. فقلت إننى كنت كذلك، (وُلِدت فى إسرائيل) .. قالوا لى: (نعم، ولكن من أين أتى والداك؟).. وبعد فترة فهمت المنطق الموجه وراء هذا السؤال.. حيث يُنظر إلى إسرائيل على أنها مجموعة من الناس الذين جاءوا من كل مكان فى العالم للاستيطان فى المنطقة، واحتلال واغتصاب حقوق الفلسطينيين وأرضهم.. إضافة إلى أن إسرائيل دولة تُهدد هويتها الثقافية العربية الإسلامية، وهى مُنافس لمصر على الساحتين الإقليمية والدولية».
من ناحية أخرى، يقول جبرين، إنه شعر بالإعجاب وحتى الغيرة من جانب المصريين تجاه إسرائيل.. وأوضح أن «إسرائيل تعتبر دولة حديثة تتمتع بقدرات علمية عالية، وقوة تكنولوجية عالية ومستوى معيشى مرتفع.. إسرائيل دولة ديمقراطية.. وقد أعرب المذيع الشهير، إبراهيم عيسى، وهو ليس من معجبينا، عن إعجابه بأنه فى خضم الحرب الحالية، تُجرى محاكمة نتنياهو فى إسرائيل ولا يتم رفضها، (الحكم على رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، هو فى نظره تعبير عن استقلالية ومرونة النظام القضائى الإسرائيلى)».. وفى رأى جبرين، فإن «طريقة التعامل مع هذا التوتر، هى الحفاظ على روح النضال فى إسرائيل، من خلال تحويل الكفاح المسلح إلى صراع ثقافى ودبلوماسى.. مقاومة التطبيع، مقاطعة النقابات العمالية للتواصل مع نظرائهم الإسرائيليين، وتقريع إسرائيل إعلاميًا مصريًا، وخوض صراع على الساحة الدبلوماسية الدولية.. بل إن مصر تبنت استراتيجية التعايش والتكامل الفعلى مع دولة إسرائيل، ولكن ليس بالضرورة الاعتراف بشرعيتها» .
«ومن المهم التأكيد والفهم أن الموقف المصرى الرسمى يرفض الاعتراف بالحقوق التاريخية لليهود فى أرض إسرائيل وحقهم فى إقامة وطن قومى هناك»، يستطرد جبرين فى كتابه، و«ترفض مصر مفهوم الصهيونية كحركة تحرر وطنى مشروعة.. فالصهيونية فى نظر المصريين كانت وستظل حركة استعمارية تحتل الأراضى الفلسطينية وتنتهك حقوقهم.. وإسرائيل كيان سياسى وُلِد من رحم الخطيئة، إذا كان فى الماضى هناك علامة استفهام فيما يتعلق بالاعتراف المصرى بحدود إسرائيل، ففى نهاية المطاف.. فاليوم، بعد السابع من أكتوبر 2023، هناك علامة استفهام فيما يتعلق بالاعتراف الفعلى بإسرائيل داخل حدود 48» .. وأوضح جبرين «أن الاعتراف بالحق التاريخى للشعب اليهودى يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمسألة التطبيع بين الدول.. وبدون هذا الاعتراف، لن تكون هناك مصالحة عميقة وحقيقية بين الأمم، وبدون مصالحة لن يكون هناك تطبيع كامل».. وبالتالى، فإن السياسة المصرية تجاه إسرائيل تتم وفق عدة مبادئ توجيهية، العلاقات الدبلوماسية الرسمية، والسفارات، والتعاون العسكرى والاقتصادى، تعد مقبولة وتحظى بـ«نعم»، أما علاقات القرابة، والمصالحة، والعلاقات الثقافية بين الأمم، فلا.. إنها مرفوضة.
كون مصر أكبر دولة فى المنطقة وتلعب دورًا مركزيًا فيها، لا يمكنها قبول القدرات غير التقليدية المنسوبة لإسرائيل.. ولا يمكن لمصر أن تقبل حقيقة أن دولة صغيرة مثل إسرائيل يمكن أن تهددها، وبالتالى تلحق الضرر بالصورة الوطنية والذاتية لمصر، ومكانتها السياسية فى المنطقة، ولذلك تعمل القاهرة على تعزيز المبادرات على الساحة الدبلوماسية، بشكل ثابت ومستمر منذ عقود، «من أجل إجبار إسرائيل على الانفلات من الإمكانات المنسوبة إليها فى المجال النووى».
ويحلل كتاب جبرين بالتفصيل، الخصائص الرئيسية لحكم الرئيس عبدالفتاح السيسى، قائلًا: «إن الرئيس السيسى يرى السلام مع إسرائيل خيارًا استراتيجيًا، ويدرك جيدًا قيمة معاهدة السلام ومساهمتها فى تنمية مصر.. ومع ذلك، ترى مصر أن إسرائيل هى التهديد المنسوب إليها بسبب قدراتها العسكرية المتقدمة» .. ووفقًا لجبرين: «لا جدال فى أن إسرائيل تُشكل التهديد المُطلق لمصر.. وللأسف، هناك انشغال مصرى كل عام بالذاكرة الوطنية للانتصار على إسرائيل فى حرب يوم الغفران، وتحطيم أسطورة جيش إسرائيل الذى لا يُقهر، العدو التاريخى لمصر» .. ومنذ وصوله إلى السلطة- أى الرئيس السيسى- كانت هناك عملية تحديث وتعزيز واضحة.. انتشار ضخم للجيش المصرى فى الجو والبحر والبر بتكلفة مليارات الدولارات.. وبالإضافة إلى تجهيز نفسها بأسلحة متطورة، تستثمر مصر الكثير من الموارد فى تدريب الجيش، وتحسين قدرته العملياتية فى بناء القواعد العسكرية والبنية التحتية العسكرية.
ويشير هنا جبرين إلى أن نطاق إنشاء وتوسيع البنية التحتية فى سيناء ذو طبيعة دفاعية وهجومية، ويخرج عن ما تم الاتفاق عليه فى اتفاق السلام.. ومن الأمثلة على ذلك، توسيع المطارات العسكرية شرق القاهرة - فى سيناء ووادى فيران والعريش؛ وبناء مخابئ جديدة وتخزين الذخيرة ومضاعفة تخزين الوقود؛ إنشاء سبعة أنفاق أسفل قناة السويس، أربعة فى منطقة الإسماعيلية، وثلاثة فى منطقة بورسعيد؛ وتوسيع طرق المرور الرئيسية فى سيناء إلى الطرق السريعة، فى الأماكن التى تكون فيها حركة مرور السكان قليلة.. وفى الوقت نفسه، هناك تآكل مستمر فى الملحق العسكرى لاتفاقية السلام، والذى يتجلى فى إدخال عدد من القوات أكبر مما سمحت به إسرائيل لمصر، فى إطار حربها ضد الإرهاب.. ويثير تعزيز الجيش المصرى علامات استفهام، فى ضوء أن مصر تتمتع بواقع جيوستراتيجى مناسب، لا يوجد فيه تهديد لها من جيرانها.. يتم التعزيز العسكرى على الرغم من الوضع الاقتصادى السيئ.
ويحذر جبرين من أن «وجود جمهور معادٍ على حدود إسرائيل، يُنكر حقه فى الوجود ويُعارض التطبيع، إلى جانب عملية التعزيز الهائل للجيش المصرى، الذى يرى فى إسرائيل التهديد الرئيسى الذى ينسب إليه.. كل هذا يمكن أن يشكل خطرًا» لدولة إسرائيل، فى ظل الظروف المتغيرة و/أو تغيير الحكومة، كما حدث بالفعل فى مصر عام 2012، مع صعود جماعة الإخوان المسلمين.. أحد الدروس المهمة التى تعلمناها من السابع من أكتوبر هو أننا لا نستطيع أن نثق فى تفسيرنا لنوايا الطرف الآخر، لكن يجب أن ندرس بعمق ثقافته ولغته وطريقة تفكيره، ونتابع عن كثب بناء قدراته» .
السفير السابق عرض الحل.. قال إن «المطلوب هو الانتقال من ثقافة الصراع إلى ثقافة السلام».. وهذه ليست مهمة سهلة، فى ظل معارضة قطاعات كبيرة من الجمهور المصرى، بما فى ذلك العناصر المتأسلمة والناصرية.. وأوضح «إن مثل هذا التحول يتطلب استئصال المفاهيم القديمة والأحكام المسبقة والأيديولوجيات المعادية.. ويجب تطوير ثقافة السلام، القائمة على التعاون والمصالحة فى مكانها» .. كل هذا فى نظر جبرين «يتطلب تغييرًا عميقًا فى الوعى والاجتماعى والثقافى فيما يتعلق بإسرائيل.. الطريق إلى التغيير يمر عبر الكتب المدرسية ووسائل الإعلام والسينما والأدب، وهذه عملية طويلة ومعقدة، لكنها ضرورية، لعدم وجود قبول جماهيرى مصرى لإقامة علاقات سلمية مع إسرائيل من جهة، وزرع العداء والشكوك فى ذلك.. والأخرى، وصفة أكيدة لنقل الصراع إلى الأجيال القادمة» !!.
●●●
سُئل وزير الدفاع والسياسى الإسرائيلى الراحل، موشيه ديان، ذات مرة عن قاعدة شرم الشيخ البحرية، التى أنشأتها إسرائيل فى شبه جزيرة سيناء، بعد احتلالها فى حرب يونيو 1967، فقال «إنها أهم من السلام مع مصر».. وفى النهاية، لم يُجدِ رأى ديان نفعًا، وانسحبت إسرائيل من سيناء كلها على مراحل، انتهت يوم 25 أبريل 1982.. لكن شبه الجزيرة الاستراتيجية لم تُفارق خيال الإسرائيليين، كما تكشف ذلك الوثائق البريطانية، التى تؤكد أن الإسرائيليين لن يجدوا العِوَض عن سيناء التى هى «حلم» يراودهم.. وفى تقرير كان قد صدر بمناسبة الاستعدادات لإعادة العريش، كبرى مدن سيناء، إلى مصر يوم 25 مايو 1979، قالت السفارة البريطانية فى تل أبيب، إن «أهمية سيناء لإسرائيل كانت، وتظل، استراتيجية».. وخلص التقرير إلى أن سيناء بالنسبة للإسرائيليين «تعنى أشياء كثيرة».. وأضاف أنها «ساحة قتال ضار، غير أنها فى أوقات أخرى ملعب مترامى الأطراف للجيش الإسرائيلى، وحلم سياحى وذخيرة طبيعية ومشروع تجريبى زراعى.. وهى أيضًا نقطة التقاء بالجَمَال.. وفوق كل هذا، هى امتداد لحدود إسرائيل الضيقة، يوفر متنفسًا روحيًا من ضغوط الحياة».
كانت صحراء النقب، جنوبى إسرائيل، هى البديل الوحيد أمام الجيش الإسرائيلى المُنسحب من سيناء.. وقدرت التقارير البريطانية تكلفة نقل القواعد والمنشآت العسكرية من سيناء إلى النقب، بنحو مليار دولار أمريكى عام 1979 وحده. ووصفت التقارير هذا التكلفة بأنها «عبء ثقيل».. وحسب المعلومات البريطانية، كان على الجيش الإسرائيلى أن «يُنشىء حوالى خمسين معسكرًا جديدًا فى النقب، وطرقًا جديدة تُقارب السبعمائة كيلومتر، ويُعيد تعبيد طرق قائمة بطول 225 كيلومترًا، ويمد أنابيب مياه بطول سبعمائة كيلومتر، وكابلات عالية الإجهاد بطول ألف كيلومتر، ونقل قرابة تسعين مليون متر مكعب من التربة، لبناء بنية تحتية جديدة فى المنطقة».. غير أن تقييم البريطانيين حينها هو أن صحراء النقب «لن تكون أبدًا بديلًا» لسيناء.. تلك الخلاصة عن أهمية سيناء لإسرائيل، استندت على فيض من المعلومات على ما حدث فى الجزيرة منذ الاحتلال.
فيما يتعلق بالجانب الأمنى لهذه الأهمية، قال تقرير السفارة إن إسرائيل «بررت احتلالها سيناء بحرمان العدو- مصر- من استغلالها فى الهجوم عليها، ومنع محاولتها خنق وصول إسرائيل إلى البحر الأحمر» .. وهذا ما يفسر، وفق التقرير، سلوك إسرائيل مباشرة، بعد احتلال جيشها سيناء، «أول تأثير للاستيلاء عليها فى 1967، هو تدفق الدبابات والمركبات والرجال الإسرائيليين بأعداد، تفوق بكثير عدد القوات المصرية التى حلوا محلها».. وأضاف أن سيناء كلها «أصبحت ساحة تدريب عسكرى».. وفى إشارة إلى دراية تفصيلية بما يدور فى سيناء، قال كاتب التقرير: «نادرًا ما يوجد واد أو منطقة من الهضبة الصحراوية، لا تتقاطع فيها مسارات الدبابات أو تنتشر فيها فوارغ القذائف وأنواع الحطام العسكرى»، على الأرض- أى سيناء- التى تبلغ مساحتها نحو واحد وستين ألف كيلومتر مربع، تمثل قرابة 6% من مساحة مصر الإجمالية، وهى امتدادها فى القارة الآسيوية، وتعادل ما يقارب ربع مساحة إسرائيل.
بعد توقيع معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، بدأ الإسرائيليون الانسحاب، على مراحل، من شبه جزيرة سيناء.. وتمت المرحلة الأولى، بالانسحاب من العريش، ونُفذت المرحلة الأخيرة يوم الخامس والعشرين من أبريل عام 1982.. وبات هذا اليوم عيدًا وطنيًا فى مصر.. وبينما كان النقاش يستعر فى إسرائيل بشأن الانسحاب الكامل من سيناء، طرح بعض الساسة الإسرائيليين، وأيّدهم مناحيم بيجن، رئيس الوزراء فى ذلك الوقت، مبدأ استثناء رفح من أى اتفاق والاحتفاظ بها كاملة.. ولهذا لقيت رفح، الواقعة على حدود مصر وقطاع غزة الفلسطينى، اهتمامًا بريطانيًا، فى ظل تركيز إسرائيل الأمنى عليها.. وقدَّرت السفارة البريطانية أن أهمية المنطقة «زادت بشكل خاص بعد حرب 1973».. وأشارت إلى أنه «منذ عام 1967، وخصوصًا بعد عام 1973، كان جزء من الحكمة السياسية الشائعة فى إسرائيل يقول إنه لا ينبغى أبدًا إعادة رفح وجوارها إلى مصر، لأنه يجب عزل قطاع غزة ومنعه من أن يصبح مرة أخرى خنجرًا موجهًا إلى قلب إسرائيل» .. يُضاف إلى هذا أن إسرائيل أنشات فى رفح بعض المستوطنات الريفية، ومستوطنة «ياميت» التى كان يسكنها ألف وخمسمائة مستوطن يهودى.
وخلص البريطانيون إلى أن «تخلى الإسرائيليين عنها هو القرار الأصعب» ، مقارنة بمناطق سيناء الأخرى.. غير أن إصرار مصر، فى عهد الرئيس الراحل، حسنى مبارك، على استعادة سيناء كلها، جعل بيجن يعدل عما وصفه تقرير السفارة البريطانية بأنه «عقيدة»، تتصل بوضع رفح.. وتحدث التقرير عن ضغوط مُورِست على بيجن، بين شهرى يناير وأكتوبر 1978، وبعد «شهور من التملص»، وافق فى كامب ديفيد، على أن يرد إلى مصر كل سيناء، بما فيها المستوطنات المدنية ومطارات رفح.. غير أن السفارة البريطانية ألقت الضوء على تغييرات أحدثها الإسرائيليون، جعلتها تؤكد أنه عندما تعود رفح إلى السيادة المصرية «لن تكون أبدًا كما كانت عليه قبل 1967، أى منطقة شبه صحراوية يسكنها البدو ويزرعونها فى فترات متقطعة» .. وفى عام 1982، الذى استُكمل فيه الانسحاب الإسرائيلى من سيناء، أجرى السفير البريطانى فى إسرائيل، سير باتريك هاملتون موبرلى، نقاشات مع الساسة الإسرائيليين، الذين أبلغوه بأن «رد سيناء إلى مصر، تجربة صادمة لإسرائيل كلها».
وقال موبرلى، فى تقرير عن الوضع العام فى إسرائيل حينها، إن الإسرائيليين «يتركون حقول النفط والمطارات، والرحابة المريحة فى فضاءات سيناء الخالية، التى تمتعت بها إسرائيل على مدار خمسة عشر عامًا».. ووفق تقييم السفير، فإن تخلى الإسرائيليين لأول مرة عن مستوطنات يهودية، مثل ياميت، «سبَّب للإسرائيليين الصدمة الأكبر».. وكان لهذه «الصدمة» سبب اقتصادى حيوى.. فحسب التقديرات البريطانية، حينها، فإن حقوق النفط فى خليج السويس «أثبتت أهميتها الاقتصادية لإسرائيل، إذ توفر لها ما بين 20% و30% من إجمالى احتياجاتها النفطية» .. وهنا، يكشف تقرير السفير، أن فاتورة «الخسائر» الإسرائيلية الناتجة عن التخلى عن حقوق النفط، قد «قُدمت مباشرة إلى الرئيس الأمريكى، الذى استجاب لها دون أى تردد».. وتمثلت الاستجابة فى «تعهد جديد من الإدارة الأمريكية، بأن تكون الولايات المتحدة هى مُزود إسرائيل بالنفط، كملجأ أخير لمدة خمسة عشر سنة».. وفى الوقت نفسه، تتحمل واشنطن، عبر معونات اقتصادية إضافية، «دفع التكاليف الإضافية التى يتكبدها الاقتصاد الإسرائيلى لشراء النفط، الذى لم تعد إسرائيل قادرة على استخراجه من سيناء».
فى السياق نفسه، أشار التقرير إلى أهمية معاهدة السلام مع مصر، فى تهدئة مخاوف الإسرائيليين الاقتصادية، من نتائج الانسحاب من سيناء.. وقال إن «العنصر الجديد فى معاهدة السلام هو أن المصريين سوف يأخذون على عاتقهم، وإن كان بكلمات فضفاضة، تزويد إسرائيل بالبترول المصرى بأسعار السوق».. وتوقع كاتب التقرير أن «يراقب الإسرائيليون بحرص، ما إذا كان الوفاء بهذا التعهد سوف يستمر أم لا فى حال، أو بالأحرى عندما، تتدهور العلاقات السياسية بين إسرائيل ومصر، لأى سبب».. واعتبر- وقتها- أن هذا «سيكون اختبارًا مثيرًا للاهتمام بعملية التطبيع».
●●●
الخلاصة.. أنه بعد عامين من استعادة مصر سيناء، أكد تقرير عسكرى بريطانى أن سيناء ظلت تشغل حيزًا كبيرًا فى التفكير الدفاعى فى إسرائيل.. وفى تقرير عام 1986 عن «الدولة وتفكيرها الدفاعى» The state and its defensive thinking، وصف الملحق الدفاعى والبحرى والجوى فى السفارة البريطانية إسرائيل، بأنها «دولة تحت السلاح، لا يُسمح لها برفاهية أخذ فترات توقف دورية لمراجعة عقيدتها الأمنية».. وأشار إلى أن معاهدة السلام مع مصر، «نزعت بشكل فعال سلاح شبه جزيرة سيناء»، وأنه «لو اختارت مصر مهاجمة سيناء، سوف يتعين على قواتها استخدام ثلاثة محاور لوجستية، عابرة ثمانين ميلًا من صحراء سيناء، وهى منطقة مكشوفة بلا مراكز لوجستية متقدمة، ولا شبكات دفاع جوى أو تحصينات دفاعية».. ونتيجة لذلك، «فلا يمكن إكمال العملية بسرعة تكفى لتحقيق مفاجأة تُوقِع خسائر غير مقبولة، فى مواجهة التفوق الجوى الإسرائيلى المُرجح فوق شرقى سيناء».. وانتهى إلى أنه «طالما أمكن تحقيق هذا التفوق، فإن مصر لن تكون تهديدًا مُلحًا لإسرائيل».. ونحن نُحدِّث التقرير بأن مصر قد حققت تفوقًا مماثلًا، وربما أكبر، ليس لتهدد به إسرائيل، لكن لتدافع به عن حدودها، إذا ما تخلى عاقل عن عقله، وفكر فى تهديد أمن مصر القومى.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.