رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عام جديد.. يا قلب يا ابن القلب

فى كل مرة يغرب فيها عام ويشرق عام جديد تبرز أمامى سنواتى التى انقضت، واقفة فى مواجهتى بشعرها المهوش والتجاعيد على وجهها. تتمهل لحظة واقفة ساكنة تحدق بى، ثم تمد كفيها إلى صدرى وتطرق قلبى بأصابعها، وحينما تسمع خفق أحلامى يتردد بقوة، تضع يديها فى خاصرتها وتهتف بى: «آه يا قلب يا ابن القلب.. أما زلت تحلم؟!».

أقول للسنوات التى عبرت ثم تجسدت أمامى: «إننى شاب. شاب لكن منذ مدة طويلة»، فتصيح فى غضب: «لقد مرت علينا الطفولة وانصرم الشباب وأعوام النضج، ولم يبق لنا سوى ثمرة أخيرة على شجرة العمر، فاهدأ يا قلب يا ابن القلب، فلم يعد بوسعك أن تحتمل نزق الأحلام وعنفوانها». 

قلت للسنوات: «ما زال قلبى يحن إلى الحب والعدل، حلمان كانا عندى عينين يكتمل بهما النظر». تقول لى سنواتى: «ليتك كنت تحلم ببيت على البحر وسيارة فارهة ومال وفير، لكنك لا تحلم إلا بالمستحيل: الحرية والكرامة وامرأة صعبة المنال وبشر يحملون جميعًا جواز سفر موحد باسم مواطن كرة أرضية، تحلم بانتصار الفن على الموت والنسيان؟ انتبه إلى سنك الآن يا قلب يا ابن القلب واحلم بالمستطاع».

قلت لها «إننى لا أتوب عن الأمل، ولا عن الحلم بكل ما هو صعب المنال. كنت أمينًا على أحلام طفولتى وشبابى، ولم أبدل طريقى، فقط كنت أستريح أحيانًا، ثم أتقدم ثانية، يخفت صوتى، لكنه سرعان ما يعلو من جديد، ألزم الصمت، ثم أصيح بحماسة، أتوقف ثم أعاود السير إلى الأمام، لكنّ عينىّ كانتا دومًا على أحلامى، وفيًا لها، رغم أن شيئًا منها لم يتحقق، لا غمرنى حنان المرأة ولا عشت الأيام الجميلة التى ستشرق يومًا». قالت لى السنوات بقنوط من يأس منى: «ها أنت يا قلب يا ابن القلب لا تتوب عن أحلام شبابك وهى أكبر منك، ولم يعد بوسعك أن تحملها». 

قلت للسنوات التى شاب شعرها: «سأظل أرفع قلبى بيدى عاليًا، دافئًا خفاقًا، ألوح به للزمن القادم، لكل الذين لن يعرفوننا، لكى يعلموا أننا كنا هنا ذات يوم، وأننا كنا نشعر بكل شىء، ونتألم من كل شىء، ونحلم بكل شىء، ربما يغفرون لنا أننا لم نستطع، وأننا عشنا مثل جرح تتساقط قطراته على أوراق العمر، لكنه جرح لم تلوثه خيانة الأحلام»، هزت سنوات عمرى كتفيها وتأهبت للانصراف وهى تقول: «قلبك عنيد ولا أمل فى شفائه ولا يدرك أنه لم يحقق شيئًا من أحلامه». 

قلت لها قبل أن تختفى: «لم تخرج أحلامى إلى الوجود، لكن وجودى كان من أحلامى. وفى كل مرة يغرب فيها عام ويشرق جديد سأظل ألوح بقلبى عاليًا، وأهتف بكل ما أتمناه، وسوف يصل صوتى إلى الآخرين، الآن، أو بعد مائة عام، هذا لا يهم، المهم أن غنائى لم يكن هدرًا، وأن غنوتى سوف تسرى طويلًا إلى أن تكون».