رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لعنة الذهب فى السودان!

حطمت الحرب بين الجيش الوطنى السودانى وقوات الدعم السريع المتمردة، اقتصاد السودان، وانهار نظامه الصحى، وحوَّلت جزءًا كبيرًا من العاصمة، التى كانت مفخرة ذات يوم، إلى أكوام من الأنقاض.. كما تسبب القتال فى إشعال واحدة من أسوأ المجاعات فى العالم منذ عقود، حيث يواجه ستة وعشرون مليون شخص الجوع الحاد أو المجاعة.. ومع احتراق السودان وتجويع شعبه، بدأ البحث عن الذهب.. وازدهرت تجارة الذهب، حتى إنتاج وتجارة هذا المعدن النفيس، الذى يكمن فى رواسب غنية فى جميع أنحاء الدولة الشاسعة، مستويات ما قبل الحرب.. وهذا هو الرقم الرسمى فقط، فى بلد ملىء بالتهريب.
وسط هذا العبث الإنسانى، هبطت الطائرة الفاخرة فى جوبا، عاصمة جنوب السودان، فى مهمة لجمع مئات الأرطال من الذهب غير المشروع.. أظهر بيان الرحلة، أنه كان على متن الطائرة ممثل لجماعة شبه عسكرية، متهمة بالتطهير العرقى فى الحرب الأهلية المترامية الأطراف فى السودان.. تم تهريب الذهب نفسه من دارفور، وهى منطقة مجاعة وخوف، تخضع إلى حد كبير لسيطرة جماعته الوحشية.. قال ثلاثة أشخاص متورطين فى الصفقة أو مطلعين عليها، إن الحمالين كانوا يتذمرون وهم يحملون صناديق مليئة بالذهب، بقيمة حوالى خمسة وعشرين مليون دولار، على متن الطائرة النفاثة، التى حافظ مسئولو المطار بشكل سرى، على محيطها البارز فى المطار الرئيسى لواحدة من أفقر دول العالم.. وبعد تسعين دقيقة، أقلعت الطائرة مرة أخرى ـ كما يقول ديكلان والش، المحرر بصحيفة The New York Times، الذى كان هناك.. وسرعان ما اختفت حمولتها اللامعة فى سوق الذهب العالمية.
تتدفق مليارات الدولارات من الذهب من السودان فى كل اتجاه تقريبًا، ما يساعد فى تحويل منطقة الساحل فى إفريقيا إلى واحدة من أكبر منتجى الذهب فى العالم، فى وقت وصلت الأسعار إلى مستويات قياسية.. ولكن بدلًا من استخدام هذا الذهب لمساعدة جحافل الجوعى والمشردين، تستخدم قوات الدعم السريع، المتمردة فى السودان، الذهب لتمويل قتالها، وتنشر ما يسميه خبراء الأمم المتحدة (تكتيكات التجويع) ضد عشرات الملايين من الناس.. يساعد الذهب فى دفع ثمن الطائرات بدون طيار والبنادق والصواريخ، التى قتلت عشرات الآلاف من المدنيين، وأجبرت أحد عشر مليونًا على النزوح من منازلهم.. إنه جائزة للمقاتلين والمرتزقة المتوحشين، الذين سرقوا العديد من البنوك والمنازل، حتى أصبحت العاصمة الآن تشبه مسرح جريمة عملاقًا، حيث يتباهى المقاتلون بسعادة، بأكوام من المجوهرات المسروقة وسبائك الذهب، على وسائل التواصل الاجتماعى.. وقد كان الشعب السودانى يأمل ذات يوم، أن يرفع الذهب من شأن بلده. ولكن بدلًا من ذلك، تبين أنه سبب سقوطهم.. بل إنه يساعد حتى فى تفسير سبب بدء الحرب.. ولماذا يصعُب إيقافها؟.. (الذهب يدمر السودان)، هكذا قال سليمان بالدو، الخبير السودانى فى موارد البلاد، (وهو يدمر السودانيين).
وتضع الحرب الأهلية، الجيش السودانى وما تبقى من الحكومة، فى مواجهة حليفهم السابق، المجموعة شبه العسكرية المعروفة باسم قوات الدعم السريع.. قائد المجموعة، الفريق أول محمد حمدان، تاجر إبل تحول إلى أمير حرب، وقد أصبحت قواته قوية بشكل خاص، بعد استيلائه على أحد أكثر مناجم الذهب ربحية فى السودان عام 2017.. وسبق وقال لصحيفة The New York Times، فى مقابلة أجريت معه عام 2019، محاولًا التقليل من أهمية المنجم، (إنه ليس شيئًا، مجرد منطقة فى دارفور تنتمى إلينا).. لكن المنجم أصبح حجر الزاوية لإمبراطورية بمليارات الدولارات، حولت مجموعته المسلحة، قوات الدعم السريع، إلى قوة هائلة.. فقد باع الجنرال حمدان المنجم لاحقًا للحكومة مقابل مائتى مليون دولار، ما ساعده فى شراء المزيد من الأسلحة والنفوذ السياسى.. ولكن هذه الثروة والطموح أديا إلى مواجهة مع الجيش السودانى، ما مهد الطريق للحرب الأهلية التى دمرت البلاد بالكامل تقريبًا.
●●●
لم يشتد الصراع على الذهب، إلا عندما اندلعت الحرب عام 2023.. وفى إحدى هجماته الافتتاحية، استولى الجنرال حمدان على المنجم الذى سبق وباعه للحكومة.. وبعد أسابيع، زحف مقاتلوه على مصفاة الذهب الوطنية فى العاصمة أيضًا، وسرقوا مائة وخمسين مليون دولار من سبائك الذهب، وفقًا للحكومة.. ويقود الذهب الحرب أيضًا بالنسبة للجيش السودانى.. فقد قصف مناجم قوات الدعم السريع، بينما كثف إنتاج الذهب فى المناطق التى لا تزال تحت سيطرة الحكومة، غالبًا من خلال دعوة القوى الأجنبية للقيام بالتعدين.. كان المسئولون السودانيون يتفاوضون على صفقات الأسلحة والذهب مع روسيا، ويسعون إلى جذب المسئولين التنفيذيين الصينيين فى مجال التعدين، حتى إنهم يتقاسمون منجم ذهب مع زعماء فى الخليج، المتهمين بتسليح أعدائهم.. إذ يلعب الرعاة الأجانب للحرب على كلا الجانبين.. لقد أشاد الرئيس الروسى، فلاديمير بوتن، منذ فترة طويلة، بتعدين الذهب الروسى فى السودان، وعملت مجموعة فاجنر التابعة لبلاده مع الجيش ومنافسيه، حتى قبل أن يذهبوا إلى الحرب.
والآن، وبعد وفاة قائد فاجنر، يفجينى بريجوجين، فى حادث تحطم طائرة، بعد تمرده القصير ضد القادة العسكريين الروس، استولى الكرملين على أعمال المجموعة، ويبدو أنه يسعى إلى الذهب على جانبى خط المواجهة، بالشراكة مع قوات الدعم السريع فى الغرب، والجيش الوطنى السودانى فى الشرق.. ولكن، عندما يتعلق الأمر بالذهب، فإن الإماراتيين يساعدون أيضًا فى تمويل الجانب المعارض.. إذ تمتلك شركة إماراتية أكبر منجم فى السودان، موجود فى منطقة تسيطر عليها الحكومة، ويُسلَّم جزء كبير من المال، إلى آلة الحرب التى تعانى من نقص السيولة النقدية فى الجيش.. وهو مثال آخر على مجموعة مذهلة من التحالفات والتحالفات المضادة التى تغذى الحرب.
تنقل الدراجات النارية والشاحنات والطائرات الذهب، من البلاد عند كل منعطف، وتنقله عبر الحدود المسامية مع الدول السبع المجاورة للسودان.. وفى نهاية المطاف، ينتهى الأمر تقريبًا فى الإمارات العربية المتحدة، الوجهة الرئيسية للذهب من السودان، كما تقول وزارة الخارجية الأمريكية.. وعلى طول الطريق، تأخذ سلسلة متنوعة من المستفيدين نصيبهم.. وهم المهربون، وأمراء الحرب، ورؤساء التجسس، والجنرالات، والمسئولون الفاسدون، وهم عجلات اقتصاد الحرب المتوسِّع، الذى يوفر حافزًا ماليًا قويًا لاستمرار الصراع، كما يقول الخبراء.. ويشبه البعض الآن ذهب السودان بما يسمى بـ(الألماس الدموى)، وغيره من المعادن المشتعلة فى الصراع.. يقول مو إبراهيم، وهو قطب سودانى تعمل مؤسسته على تعزيز الحكم الرشيد، (لإنهاء الحرب، اتبع المال.. فالذهب يغذى إمدادات الأسلحة، ونحن بحاجة إلى الضغط على الأفراد الذين يقفون وراء ذلك.. وفى نهاية المطاف، هم تجار الموت).
فى منطقة دارفور، التى تعادل مساحتها مساحة إسبانيا، حيث أثارت الإبادة الجماعية هناك غضبًا عالميًا قبل عقدين من الزمان، عادت الأهوال.. شن مقاتلو قوات الدعم السريع حملة تطهير عرقى ضد المدنيين، ونفذوا حصارًا عقابيًا على مدينة قديمة.. وفى خضم الاضطرابات، بدأت أول مجاعة فى العالم منذ أربع سنوات، فى مخيم يضم أربعمائة وخمسين ألف مدنى مذعور.. وتروى امرأة من دارفور، كيف تعرضت للاغتصاب الجماعى من قِبل مقاتلى قوات الدعم السريع العام الماضى، (صرخت وصرخت.. لكن كل هذا كان بلا فائدة).
ولكن، فى ركن من دارفور لم تمسه الحرب إلى حد كبير، كانت قوات الدعم السريع تبنى بهدوء، عملية تعدين ذهب ضخمة وسرية.. وقد توسع المشروع، الذى تبلغ قيمته مئات الملايين من الدولارات سنويًا، بمساعدة مرتزقة فاجنر الروس، وأصبح الوقود المالى لحملة عسكرية سيئة السمعة، بسبب الفظائع.. فى السافانا المحيطة بسونجو، وهى بلدة تعدين اقتطعت من محمية طبيعية، يعمل عشرات الآلاف من عمال المناجم، فى حفر رملية بمنطقة غنية بالذهب واليورانيوم وربما ألماس.. توفر المناجم وظائف نادرة، وإن كانت خطيرة فى كثير من الأحيان، فى وقت من الانهيار الاقتصادى شبه الكامل.. ولكن قوات الدعم السريع تجنى ثروة طائلة، حيث يسيطر مقاتلوها على كل جانب من جوانب تجارة الذهب، إذ تعد المناجم، أحدث فرع من الأعمال العائلية الضخمة، التى بدأت قبل الحرب بوقت طويل.
عندما استولى الجنرال حمدان على منجم ذهب كبير فى دارفور عام 2017 ـ ليصبح أكبر تاجر ذهب فى السودان بين عشية وضحاها ـ قام بتوجيه الأرباح إلى شبكة تضم ما يصل إلى خمسين شركة، دفعت ثمن الأسلحة والنفوذ والمقاتلين، كما تقول الأمم المتحدة.. وتضخم حجم قوته شبه العسكرية، وأصبح الجنرال حمدان ثريًا للغاية من الذهب، وتوريد المرتزقة للحرب فى اليمن، لدرجة أنه عرض علنًا مليار دولار عام 2019، لتحقيق الاستقرار فى اقتصاد السودان المتعثر.. وتثبت شركة واحدة، إمبراطوريته من الأسلحة والذهب.. وتسمى هذه الشركة (الجنيد)، وقد فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات العام الماضى، قائلة إن الذهب أصبح (مصدرًا حيويًا للإيرادات) للجنرال حمدان ومقاتليه.. ومع انتشار العنف فى السودان، ركزت (الجنيد) على مئات الأميال المربعة حول سونجو، حيث عملت قوات الدعم السريع لفترة طويلة عن كثب مع فاجنر.
●●●
ووفقًا لشهود عيان وصور الأقمار الصناعية، والوثائق التى حصلت عليها صحيفة التايمز، كان الإنتاج فى جميع أنحاء المنطقة نشطًا.. ووُجِد تقرير سرى قُدم إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فى نوفمبر، أن ما قيمته ثمانمائة وستون مليون دولار من الذهب، تم استخراجه من مناجم تسيطر عليها القوات شبه العسكرية فى دارفور هذا العام وحده.. ولا يقوم المقاتلون بالحفر بأنفسهم.. فى حوالى ثلاثة عشر موقعًا فى جميع أنحاء المنطقة، يعمل عمال المناجم على نطاق صغير مقابل أجر زهيد، حيث تسيطر قوات الدعم السريع على كل شىء تحت فوهة البندقية.. وقد زار صحفيون سودانيون من موقع Ain Media الاستقصائى، المنطقة هذا العام، وتحدثوا عن قوات الدعم السريع.. مقاتلون يقومون بدوريات فى مصنع ذهب (الجنيد)، مع موظفين روس متمركزين خلف أسوار عالية.
كانت مناجم السودان بمثابة إغراء كبير لشركة فاجنر، كما ذكرت صحيفة التايمز قبل عامين.. منذ ذلك الحين، قدمت وثائق جديدة، حصلت عليها الصحيفة، مزيدًا من التفاصيل حول شراكة فاجنر مع قوات الدعم السريع، بما فى ذلك خطة للتنقيب عن الماس بالقرب من سونجو.. فى إحدى الرسائل من عام 2021، استشهد مدير شركة (الجنيد) باسم قائد قوات الدعم السريع، الجنرال حمدان، وأشاد (بالعمل الرائع بيننا وبين الشركة الروسية)، وهو اختصار شائع لفاجنر فى السودان، حيث التحالف يدور حول الأسلحة وكذلك المال.. وقد وثق محققو الأمم المتحدة شحنات الصواريخ من فاجنر إلى قوات الدعم السريع.. وأصبحت سونجو الآن مهمة جدًا للجنرال حمدان، لدرجة أن المناجم أصبحت هدفًا عسكريًا.. قصفت القوات الجوية السودانية المنطقة العام الماضى، ومرة ​​أخرى فى يناير.
ولا تجد قوات الدعم السريع صعوبة فى تسويق ذهبها، فالسوق جاهزة فى الإمارات، حيث تم تهريب ألفين وخمسمائة طن من الذهب غير المعلن من إفريقيا، بقيمة تبلغ مائة وخمسة عشر مليار دولار، بين عامى 2012 و2022، وفقًا لدراسة حديثة أجرتها منظمة المعونة السويسرية، وهى مجموعة تنمية.. التحدى كان فى الوصول إلى هناك.. فقبل الحرب، كان بإمكان الجنرال حمدان أن ينقل ذهبه مباشرة إلى الإمارات.. لكن المطار الرئيسى فى السودان دُمِر فى الحرب، ومدرجه ملىء بالثقوب، والطريق الآخر، عبر بورتسودان، فى أيدى الجيش.. لذلك، كان على قوات الدعم السريع أن تجد طرقًا جديدة عبر الدول المجاورة، كما فعلت مع وظيفة التهريب فى وقت سابق من هذا العام، عندما حمل الحمالون صناديق مليئة بالذهب غير المشروع عبر مدرج المطار.. ولم تكن الطائرة التى هبطت فى جنوب السودان فى الخامس من مارس الماضى، لالتقاط ذلك الذهب، هى الطائرة المعتادة التى يستخدمها العديد من المهربين فى إفريقيا.. كانت الطائرة من طراز Bombardier Global Express، وهى طائرة نفاثة طويلة المدى، يفضلها كبار المسئولين التنفيذيين فى الشركات، وكانت مُسجلة فى الولايات المتحدة.
كان لطاقم هذه الطائرة تاريخ مضطرب.. قبل سبعة أشهر، تم القبض على قائد الطائرة ومضيفة الطيران فى زامبيا، بعد وقت قصير من هبوطهما فى طائرة خاصة أخرى.. وقال المحققون الزامبيون الذين داهموا تلك الطائرة، إنهم صادروا خمسة بنادق و5.7 مليون دولار نقدًا و602 سبيكة من الذهب المُزيف، ما يشير إلى عملية احتيال مُحتملة تتعلق بالذهب.. على النقيض من ذلك، سارت الرحلة لالتقاط ذهب قوات الدعم السريع بسلاسة، ربما لأن الصفقة شملت شبكة من المسئولين الأقوياء من دول متعددة، ساعدوا فى تسهيل الطريق، وفقًا لوثائق الرحلة وثلاثة أشخاص كانوا متورطين فى الصفقة أو مطلعين عليها.
●●●
على هامش جهود السلام التى كانت ترعاها الولايات المتحدة فى أغسطس، والتى فشلت فى وقف الحرب، قال شقيق الجنرال حمدان الأصغر، ألجونى حمدان، لصحيفة التايمز، إنه عاش فى الإمارات خلال العقد الماضى، لكنه أصر على أن قوات الدعم السريع لم تعد تعمل فى تجارة الذهب، (منذ الحرب، لم تعد هناك أى صادرات)!!.. وبعد أقل من شهرين، فرضت الولايات المتحدة عقوبات عليه، واصفة إياه بـ(مدير المشتريات) للمجموعة شبه العسكرية، المسئولة عن الحصول على الأسلحة (لتسهيل الهجمات والفظائع الأخرى ضد مواطنيها).
على بعد مئات الأميال من مناجم الذهب الخشنة ولكن المُربحة، التابعة لقوات الدعم السريع فى دارفور، يوجد منجم ذهب صناعى حديث، يساعد الجيش على الاستمرار فى القتال أيضًا، يُطلق عليه منجم (كوش)، مع حفارات عملاقة وآلات باهظة الثمن، تنتج الذهب وتولد دخلًا ثمينًا لحكومة السودان فى زمن الحرب.. والمفارقة، أن قادة السودان لم يعرفوا دائمًا من يملكه؟!.. لقد اعتقدوا أن المنجم ـ فى الصحراء، على بعد 220 ميلًا من العاصمة ـ كان تحت سيطرة بوريس إيفانوف، وهو مسئول تنفيذى روسى فى مجال التعدين، له علاقات بالكرملين، وازدهر فى اضطرابات روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتى.. ولكن، عندما نظروا عن كثب عام 2021، اكتشف مسئولو الحكومة السودانية، أن المنجم قد انتقل بالفعل إلى أيدى مستثمرين جُدد غير معروفين من الإمارات العربية المتحدة.. وقال مسئولون من الحكومة السودانية، التى كانت تمتلك حصة أقلية فى المنجم، إن أحدًا لم يكلف نفسه عناء إخبارهم بشراكتهم الجديدة.. وأرسلوا وفدًا، بقيادة وزير المالية السودانى، إلى أبوظبى لحل هذه المشكلة.
كان (كوش) جوهرة طفرة الذهب فى السودان، وهو أكبر منجم ذهب فى البلاد.. كما كانت لها أهمية جيوسياسية، باعتباره نقطة محورية لتعزيز العلاقات بين السودان وروسيا.. وقد أشار بوتين إلى المشروع (الرائد) فى القمة الروسية ـ الإفريقية الأولى عام 2019، ووصف الشركة الروسية الخاضعة للعقوبات الأمريكية، بأنها مركز الجهود.. كما تحدث إيفانوف، المدير الإدارى لتلك الشركة، فى القمة، فى جلسة بعنوان (استخدام المعادن فى إفريقيا لصالح شعوبها)!.. وكان نجاح إيفانوف فى التعدين، قصة كلاسيكية لروسيا ما بعد الاتحاد السوفيتى.. بدأ حياته المهنية كدبلوماسى تم تعيينه فى الثمانينيات فى السفارة السوفيتية فى واشنطن، حيث شملت مهامه ضبط الأسلحة ـ وانتهى به الأمر فى مجال النفط والغاز والتعدين.. (قال اثنان من زملائه السابقين، إنه كان يتفاخر بأنه كان يعمل أيضًا تحت غطاء لصالح جهاز المخابرات الروسى أثناء وجوده فى واشنطن.. وأكد شخص مطلع على الاستخبارات الغربية ذلك، لكن المتحدث باسم إيفانوف نفى هذا التأكيد، قائلًا إن إيفانوف لم تكن له أى علاقات بالاستخبارات الروسية).
بحلول عام 2015، عندما بدأ منجم (كوش) فى إنتاج الذهب، واجهت روسيا والسودان عقوبات دولية ـ روسيا بسبب تدخلها فى أوكرانيا، والسودان بسبب الإبادة الجماعية فى دارفور ـ ولم يتوسع تعدين الذهب المشترك بينهما إلا من هناك.. بدا أن إيفانوف مزدهر أيضًا.. تُظهر سجلات الممتلكات، أنه وزوجته ناتاشا، اشتريا شقتين سكنيتين فى مانهاتن، بجوار كاتدرائية القديس باتريك فى الجادة الخامسة، فى أوائل العقد الأول من القرن الحادى والعشرين.. وفى وقت لاحق، اشتريا زوجًا من المنازل المجاورة المطلة على الشاطئ فى جونو بيتش بولاية فلوريدا، والتى يسعيان إلى هدمها لبناء قصر واحد بمساحة خمسة عشر ألف قدم بدلًا من ذلك.. ولكن، عندما سافر المسئولون السودانيون إلى أبوظبى عام 2021، علموا أن إيفانوف لم يكن الوحيد الذى كانوا فى عمل معه.
يعود المنجم فى السودان الآن، إلى شركة Emerald Resources، وهى شركة جديدة أسسها إيفانوف.. وخلف تلك الشركة، كان هناك لاعب آخر أكبر بكثير من إيفانوف.. وفى رسالة بالبريد الإلكترونى، أكد متحدث باسم الإمارات أن الشركة مملوكة لـ(مجموعة استثمارية رائدة فى أبوظبى)، لكنه رفض تقديم أسماء.. كان الاستحواذ علامة على دفع الإماراتيين بمليارات الدولارات إلى التعدين الإفريقى.. وفى سعيها إلى تنويع اقتصاد البلاد المعتمد على النفط، تتسابق شركات الإمارات للحصول على المناجم والمعادن الخام، اللازمة للسيارات الكهربائية والانتقال إلى الطاقة الخضراء.. وهذا يعنى، أن الإماراتيين يتحوطون فعليًا بمراهناتهم فى حرب السودان.. ففى الأشهر الثمانية عشر الماضية، قاموا بالاستحواذ على كميات هائلة من الأسلحة إلى قوات الدعم السريع.
ومن المُرجح أن يُولد منجم (كوش)، المملوك للإماراتيين فى الأراضى الخاضعة لسيطرة الحكومة، عشرات الملايين من الدولارات للسلطات السودانية، والتى بدورها تستخدم الأموال لشراء طائرات بدون طيار إيرانية، وطائرات صينية وأسلحة أخرى.. بعبارة أخرى، تقوم الإمارات بتسليح أحد الجانبين فى الحرب، بينما تُمول الجانب الآخر.. ومع ذلك، لا يزال هناك قدر من الغموض يحيط بدور إيفانوف.. وإذ قال مسئول سودانى كبير، إن السجلات فى وزارة التعدين السودانية، تدرجه كمالك جُزئى لمنجم (كوش)، لكن Emerald طعنت فى ذلك، مؤكدة أن إيفانوف ترك العمل العام الماضى وأن (Emerald شركة إماراتية) خالصة.
عندما بدأت طفرة الذهب فى السودان قبل أكثر من عقد من الزمان، بنت العديد من الأسر السودانية مستقبلها حولها، حيث خُزِّنت المجوهرات فى المنازل أو فى البنوك للأيام الصعبة.. والآن، يعتمدون عليها للبقاء على قيد الحياة.. بعد عشرة أيام من بدء الحرب، انطلق الفاتح هاشم، مُسرعًا عبر الشوارع الفوضوية فى العاصمة الخرطوم، وحبس أنفاسه عبر نقاط التفتيش التى يحرسها المقاتلون النهابون.. كانت السيارة تحمل والديه وإخوته الخائفين، وملابسهم المعبأة على عجل، وأكياس الذهب المخفية.. قال هاشم، إنه خبأ مجوهرات زفاف الأسرة فى حجرة مخفية تحت المقعد الخلفى، وحتى داخل خزان الوقود، (كانت هذه وثيقة التأمين الخاصة بنا).. نجحت الخدعة.. وبعد أسابيع، وصلت الأسرة إلى مصر، حيث يُمول الذهب حياتهم الجديدة كلاجئين، (كان علينا أن نعيش من الذهب.. وقد فعلت العديد من العائلات الأخرى الشىء نفسه).
حتى قبل الصراع، كان الذهب فى السودان ضروريًا للغاية، لدرجة أنه ارتفع إلى 70٪ من صادرات البلاد، ما ساعد فى تعويض عائدات النفط التى فقدتها السودان، بعد انفصال جنوب السودان عام 2011.. لقد تبخرت هذه الثروة بسبب الحرب.. فقد تم نهب الذهب من المنازل، أو الاستيلاء عليه عند نقاط التفتيش أو سرقته من البنوك، وأحيانًا من قِبل المقاتلين الذين يستخدمون أجهزة الكشف عن المعادن لاستخراجه.. لكن الجنرالات وحلفاءهم الأجانب يهيمنون على التجارة.. تدفق المسئولون الروس إلى بورتسودان هذا العام، وعرضوا الأسلحة على الجيش السودانى، فى مقابل ميناء بحرى على البحر الأحمر.. كما يريدون التعدين.. ولكن، حتى لو انسحب الرعاة الأجانب للحرب، فإن تجارة الذهب مُربحة للغاية، لدرجة أن المتحاربين يمكنهم تمويل الصراع بأنفسهم.. يقول المسئولون السودانيون، إن البلاد أنتجت فى العام الأول من الحرب وحدها أكثر من خمسين طنًا من الذهب، وهو أكثر مما أنتجته خلال الأشهر الاثنى عشر السابقة على الحرب.
ويمكن أن يكون أحد الحلول، هو الضغط على المشترين.. فتصنيف الذهب السودانى باعتباره (معدن صراع)، قد يتطلب من الشركات إبقاء الذهب السودانى بعيدًا عن منتجاتها.. وقد أدت المخاوف المماثلة بشأن (الماس الدموى) من غرب إفريقيا، إلى نظام شهادة مدعوم من الأمم المتحدة قبل عقدين من الزمان.. ولكن الذهب، الذى غالبًا ما يتم صهره وخلطه، قد يكون من الصعب تعقُبه.. ومع تحطيم أسعار الذهب للأرقام القياسية مؤخرًا، تستمر الحوافز للحرب فى النمو، حتى إن دعاء طارق، عاملة الإغاثة المتطوعة، قالت من منزلها فى الخرطوم التى مزقتها الحرب، (بلادنا ملعونة بالذهب.. لقد خلق الذهب جماعات مسلحة، وجعل بعض الناس أثرياء.. لكن بالنسبة لمعظمنا، لم يجلب الذهب سوى المتاعب والحرب).
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.