الدواء والعلاج.. ملحمة قيادة مصرية وطنية
لم تكد المدة تصل إلى ثلاثة أشهر منذ أن نشرت صحيفة «Independent» تحقيقها المُعنون بـ«دوامة البحث عن الإنسولين تبتلع مرضى السكرى فى مصر»، فى الحادى عشر من سبتمبر الماضى، إلا ووقف الدكتور خالد عبدالغفار، نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية البشرية، وزير الصحة والسكان، خلال الاحتفال باطلاق أول أإنسولين عالمى يُنتج فى مصر، قبل أسبوع من الآن، ليُعلن «إننا سعداء أن نكون هنا فى الاحتفال بتوطين صناعة الإنسولين فى مصر، لأن صناعة الدواء تعتبر أمنًا قوميًا، ولدينا أكثر من مائة وسبعين مصنعًا مصريًا، لإنتاج 90% من احتياجاتنا من الدواء، ويتم استيراد 10% فقط من هذه الاحتياجات، ونهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتى، لأن الإنسولين من الأدوية الحيوية المهمة.. فنسب الإصابة بالسكر فى مصر تصل لـ15.5%، طبقًا لإحصائيات منظمة الصحة العالمية، ولدينا خمسة وخمسين ألف طفل مصاب بالسكر فى مصر.
من بين ما نشرته «Independent»، قول أحدهم، وهو رجل خمسينى: «أجوب أسبوعيًا عديدًا من الصيدليات المجاورة لمنزلى للعثور على تلك الأدوية، أضطر كثيرًا للاستعانة بأصدقائى المقربين وأفراد أسرتى، من أجل مساعدتى فى الحصول على الدواء فى محيطهم، أو اللجوء إلى تطبيقات الدواء ومنصات التواصل الاجتماعى للعثور عليها».. وفى حكايات مرضى السكرى فى مصر من أجل الحصول على الإنسولين، أوضح الرجل أنه اعتاد أن يقطع أكثر من خمسة وثلاثين كيلومترًا من مدينة طوخ فى محافظة القليوبية شمال القاهرة، وصولًا إلى صيدلية الإسعاف الحكومية بوسط القاهرة، أملًا فى العثور على جرعات الإنسولين، التى يحتاج إليها بصفة مستمرة، واللازمة لعلاج مرض السكرى، الذى أصابه قبل نحو تسع سنوات.
وعلى رغم مشقة الطريق ولهيب الشمس الحارقة، لم يجد الرجل وسيلة أخرى سوى اللجوء إلى تلك الصيدلية الكبرى، بعد أن فقد أمل الحصول على أنواع أدوية الإنسولين فى عديد من الصيدليات المجاورة لمحيط منزله والمناطق القريبة منه، مما اضطره إلى الاستجابة لنصيحة أحد أصدقائه المقربين بالذهاب إلى تلك الصيدلية، التى تضم عديدًا من الأدوية الناقصة فى السوق المحلية، للحصول على جرعات الدواء التى يحتاجها.. ويقضى الرجل الخمسينى أغلب وقته فى هذا المشهد المتكرر الذى اعتاده أسبوعيًا من أجل الحصول على دوائه، وسط زحام وطوابير طويلة، من الرجال والنساء والأطفال الذين ينتظرون الحصول على جرعات الدواء المطلوبة.
وكان رئيس هيئة الدواء، الدكتور على الغمراوى، قد أعلن أواخر يوليو الماضى عن أن مصر تستهلك نحو ثلاثمائة وخمسين ألف عبوة من الإنسولين شهريًا، وقد يصل الاستهلاك إلى خمسمائة ألف عبوة كحد أقصى.. وخلال من أغسطس إلى ديسمبر، سيكون هناك أكثر من خمسة ملايين عبوة من الإنسولين المستورد من الخارج، إضافة إلى الإنتاج المحلى لتلبية حاجات السوق، وأنه يجرى اتخاذ كل الإجراءات القانونية ضد أى صيدلية تبيع الأدوية بأسعار أعلى من التسعيرة المعلنة، التى قد تصل إلى حد الغلق.. وهو ما قالت به عضو لجنة الصحة بمجلس النواب، الدكتورة إيرين سعيد، إن بعض الصيدليات استغلت أزمة نقص الإنسولين فى السوق المحلية خلال الفترة الماضية، وخزّنت كميات كبيرة منه، للاستفادة من بيعه للمواطنين بأسعار أعلى من كُلفتها الحقيقية، وأن عديدًا من المواطنين كانوا يلجأون إلى السوق السوداء، ومنصات التواصل الاجتماعى، لشراء الدواء بأى سعر، نظرًا إلى حاجتهم المُلحة إليه، منوهة إلى أن أغلب الأدوية الحيوية، ومن بينها أدوية الأورام، يتم بيعها بأسعار باهظة فى الوقت الراهن.
●●●
وبالعودة إلى ما قاله الدكتور خالد عبدالغفار، فإن مصر تنفق ثلاثة مليارات جنية سنويًا على الأمراض «المزمنة»، وتم إنشاء مائة وخمسة وسبعين مركزًا لعلاج السكر، و«لدينا متخصصون لعلاج المرض، ومراكز متخصصة لعلاج السكر بشكل مجانى، ونحتاج سبعة عشر مليون جرعة سنويًا، بينما ننتج حوالى اثنى عشر مليون جرعة، قبل أن يتم إنتاج الإنسولين فى المصنع الجديد بمصر».. لن يكون هناك احتياج للإنسولين بعد إنتاجه محليًا، لأن الشركة المنتجة للإنسولين حققت إنجازات كبيرة فى إنتاج معظم الأدوية الحيوية، ولديها منتجات حيوية من أدوية الإيدز، وكورونا، والأدوية البيولوجية، وحاليًا تم إنتاج الإنسولين، كما أنها تُطور من منتجاتها، لأننا لا نقف على فكرة التصنيع فقط، ولكن أيضًا تطوير المُنتج، من خلال توفير البنية التحتية، من العلماء والباحثين والمراكز البحثية، لتطوير منتجات جديدة، ويكون مصدر التطوير هو مصر، و«نحتفل اليوم بالإنجاز القومى، وتوفير الدواء، لأن الدواء هو أمن قومى، خصوصًا أدوية السكر».
لقد كان إطلاق أول دفعة من الإنسولين المحلى Glargin ممتد المفعول، بالتعاون بين شركة «إيفا فارما» المصرية، وشركة «إيلى ليل» العالمية، علامة فارقة، إذ يتم، للمرة الأولى، إنتاج الإنسولين كأقلام داخل مصر، بعدما كان يُنتج فى السابق على شكل حُقن فقط.. هذا الإنجاز يعكس قدرة مصر على صناعة الأدوية الحيوية محليًا، وتلبية احتياجات السوق المصرية من الإنسولين، بعد أن كانت هذه الصناعة تعتمد فى السابق على الاستيراد بشكل كبير، فى ظل معاناة ما يزيد على 15% من المواطنين من مرض السكرى، مما يجعل توفير الإنسولين المحلى ضرورة ملحة لتلبية احتياجات المرضى.. ليس ذلك فحسب، بل إن هناك فرقًا ملحوظًا بين أسعار الإنسولين المستورد والمحلى، إذ تُسهم هذه الخطوة فى تحسين الوضع الاقتصادى، وتقليل العبء المالى على المواطنين، خصوصًا فى ظل ارتفاع أسعار الأدوية المستوردة.. كما أن تصنيع الإنسولين محليًا سيسهم فى تقليل الاعتماد على العملات الأجنبية، وبالتالى تقليص فاتورة استهلاك العملة الصعبة، إضافة إلى توفير الإنسولين بأسعار أقل بكثير مقارنة بالمنتجات المستوردة.
وطبقًا للرئيس التنفيذى لشركة «إيفا فارما»، رياض أرمانيوس، فإن قدرة خط الإنتاج الجديد الإنتاجية من الإنسولين تبلغ نحو ثمانين مليون عبوة سنويًا، وتستهدف الشركة تصدير ما قيمته مائة مليون دولار سنويًا من علاج الإنسولين فى 2030، «نحتفل اليوم بإطلاق نوع مميز من الإنسولين ممتد المفعول والأكثر أمانًا.. وتستطيع القدرة الإنتاجية للمصنع تغطية الفجوة الإنتاجية المطلوبة فى مصر، بل وفى قارة إفريقيا بالكامل، تشمل إمكانية التصدير إلى تسع وخمسين دولة فى العالم، وسيصل إنتاجنا الجديد، خلال أيام، إلى ثلاث دول، من بينها ليبيا وأوغندا، بعد توفير الإنسولين لمليون شخص، لم يكن لديهم إمكانية الوصول للعلاج».. فيما قال رئيس هيئة الدواء المصرية إن فاتورة استيراد علاج مرض السكرى، منذ بداية 2024 حتى سبتمبر الماضى، بلغت ثلاثين مليون دولار.. وهنا، فإن توطين إنتاج العلاج لن يخفض فقط فاتورة الاستيراد فقط، بل سيحول مصر إلى دولة مُصدرة للإنسولين.
لم يكن الإنسولين، والعديد من الأدوية التى نستوردها، هى الشغل الشاغل وحده للقيادة السياسية المصرية، بل إن الاستراتيجية الوطنية لتصنيع وتوطين اللقاحات فى مصر استهدفت تعزيز الإنتاج المحلى للقاحات وتقليل الاعتماد على الواردات، مما يسهم فى تحسين الوضع الصحى والاقتصادى للبلاد، فضلًا عن فتح أبواب التصدير إلى الدول الإفريقية الشقيقة، بما يعزز مكانة مصر الإقليمية والدولية.. ومنذ جائحة المرض الفيروسى كورونا Covid 19، عام 2019، جاءت صياغة الاستراتيجية عبر التعاون مع كل الجهات المعنية، وتضمنت تشكيل التحالف المصرى لمصنعى اللقاحات EVMA، كذراع استراتيجية لتنفيذها، بالشراكة مع القطاعين العام والخاص، وتحت إشراف وزارة الصحة والسكان، وهيئة الشراء الموحد وهيئة الدواء المصرية.. هذه الاستراتيجية تستند إلى محاور رئيسية، تشمل التعاقدات طويلة الأجل، وتقديم حوافز مالية مثل الإعفاءات الضريبية، وإنشاء منصة للتعاون بين الشركات المحلية لتجنب التنافس غير الصحى، وتتضمن مستهدفات قصيرة المدى، تتمثل فى توطين 50% من إنتاج اللقاحات محليًا، ونقل التكنولوجيا وفق اتفاقيات تم توقيعها، إلى جانب الحصول على اعتماد منظمة الصحة العالمية WHO PQ، لأربعة لقاحات بحلول عام 2030.. أما المستهدفات متوسطة المدى، فتشمل توطين 75% من إنتاج اللقاحات بحلول عام 2035، مع تطوير شراكات بحثية واعتماد أربعة لقاحات إضافية.. وتشمل المستهدفات طويلة المدى تحقيق الاكتفاء الذاتى الكامل بنسبة 100% بحلول عام 2040، وتعزيز مكانة مصر كمركز إقليمى لإنتاج وتصدير اللقاحات، وزيادة الصادرات بنسبة 50% مع فتح أسواق جديدة.
هذا، ويستهدف الدور الاستراتيجى للتحالف المصرى لمصنعى اللقاحات EVMA تنمية القدرات الوطنية، من خلال تأسيس مركز تدريبى إقليمى لتأهيل الكوادر المصرية والإفريقية فى التصنيع الحيوى، كما يهدف التحالف إلى تعزيز تنافسية مصر كمركز تدريبى معتمد لإفريقيا، ودعم الابتكار، ووضع استراتيجيات فعالة لدخول الأسواق الإفريقية، فضلًا عن مساعدة الشركات للحصول على اعتماد منظمة الصحة العالمية.. وفى هذا الصدد، فإن التعاون المشترك بين الجهات المعنية سيؤدى إلى نقل التكنولوجيا والمعرفة العالمية، ويُعد الأول من نوعه فى المنطقة وإفريقيا، إذ إن دعم الصناعة الصحية يمثل أولوية فى خطة الإصلاح الاقتصادى للدولة المصرية، مما يتيح لمصر التحول من مستهلك للتكنولوجيا إلى منتج لها، وزيادة فرص التصدير إلى أسواق القارة السمراء.
●●●
إن ما لا يمكن إغفاله هو اهتمام الرئيس عبدالفتاح السيسى بصحة المواطنين وتخفيف الأعباء الاقتصادية التى تتكبدها الأسر المصرية.. فالأنظمة الصحية، عالميًا وإقليميًا، تواجه متغيرات متسارعة وأزمات متلاحقة، تستوجب الجاهزية وسرعة التكيف والمرونة، مع تحقيق العدالة والكفاءة لتلبية الاحتياجات الصحية للمجتمعات، تنفيذًا لأهداف الأمن الصحى والتغطية الصحية الشاملة، وهو ما يبرز دور مفهوم الاقتصاديات المطبقة فى مجال الصحة، والتى تعرف بـ«اقتصاديات الصحة»، فى وقت يشهد فيه العالم تغيرات سريعة تؤثر على مصادر التمويل الصحى، وتجعل الإدارة المُثلى، عملية غاية فى التعقيد.. إن العالم يشهد تغيرًا فى الوضع الوبائى للأمراض المعدية، وغير المزمنة، بالتوازى مع التطورات المتسارعة فى التقنيات الطبية، فضلًا عن تزايد احتياجات، وتطلعات مُتلقى الخدمات الصحية، إذ يأتى ذلك فى إطار أزمة مالية، واقتصادية شديدة تعانى منها اقتصاديات جميع الدول.
وتلعب السياسات الصحية دورًا بارزًا فى تطور الدولة الحديثة، من خلال محورين أساسيين: أولهما تقديم الخدمة العلاجية، من خلال منشآت ممولة من إيرادات الخزانة العامة، وثانيهما الحرص على تقديم هذه الخدمات بأقل تكلفة ممكنة أو دون مقابل.. وقد لا يحل ضخ الأموال فى النُظم الصحية جميع المشاكل.. ووفقًا لأحد تقارير منظمة الصحة العالمية، فإن ما بين 20٪ إلى 40% من النفقات الصحية يتم فقدها نتيجة الهدر ونقص الكفاءة.. لذلك، من المهم ضمان إنفاق الموارد المالية بكفاءة، وشفافية، من أجل تقديم المزيد من الخدمات ذات الجودة لجميع السكان، وعلى وجه الخصوص، للمجموعات المعرضة للخطر الصحى أو المالى، واتضح أن النظام الأكثر كفاءة هو النظام الذى يمكنه علاج المزيد من المرضى، وزيادة مستوى التغطية، والتأكد من عدم ترك أى شخص دون علاج، فى ضوء الموارد المتاحة.. وهنا، فإن الدولة المصرية قامت على تنفيذ مجموعة من التدخلات والمبادرات الصحية القائمة على الأدلة، بما فى ذلك تعزيز النُظم الصحية، وزيادة الوصول إلى الرعاية الصحية الجيدة لكل المواطنين، حيث أفادت الدراسات الاقتصادية الخاصة بالمبادرات الرئاسية، التى تتبنى مبدأ الكشف والعلاج المبكر، بأن المعدلات العائدة على الاستثمار مرتفعة، ومنها مبادرة رئيس الجمهورية للقضاء على فيروس C، والتى فحصت أكثر من ثلاثة وستين مليون مواطن، نجحت فى اكتشاف وعلاج أكثر من أربعة ملايين مريض.
لقد أدى التشخيص المبكر لهذه الحالات ومعالجتها إلى توفير ما يقرب من ستة عشر مليار جنيه مصرى فى التكاليف الطبية المباشرة، ونتج عن هذه المبادرة تفادى قرابة سبعة مليارات جنيه خسائر إنتاجية، بسبب انخفاض الوفيات المبكرة المرتبطة بأمراض الكبد، بين السكان الذين تقل أعمارهم عن ستين عامًا، وأصبحت المبادرة نموذجًا فريدًا فى الوصول إلى أعلى قيمة صحية مقابل التكلفة، كما أدت إلى تأصيل الاعتماد على التقييم الاقتصادى بشكل كبير فى توجهات النظام الصحى المصرى، لتقييم العديد من التدخلات المشابهة.
●●●
ولعل شهادة د. وليام هاسلتين، أستاذ علوم الجينوم والطب التجديدى، بعنوان «كيف قضت مصر على فيروس سى فى أقل من عام؟» How did Egypt eliminate hepatitis C in less than a year?، التى نشرها فى مجلة «Forbes» العالمية، قبل أكثر من عام، توضح تميُّز التجربة المصرية فى مواجهة جائحة، عجزت العديد من الدول عن مواجهتها بالشكل الصحيح، مثلما فعلت مصر، حيث يقول الدكتور وليام: لقد أعلن كل من البنك الدولى ومنظمة الصحة العالمية أن مصر نجحت فى القضاء على التهاب الكبد الوبائى C، بين سكانها بالكامل.. ولكن كيف تم ذلك؟.. ولماذا لم يتم ذلك فى الولايات المتحدة أو أى دولة أخرى بغض النظر عن الدخل؟.
إن تحليلنا للبرنامج المصرى يشير إلى وجود ثلاثة حواجز رئيسية تحول دون القضاء على التهاب الكبد الوبائى C.. وأهم هذه الحواجز هى الإرادة السياسية.. أما الثانى، فهو تنظيم أنظمة الصحة العامة لتنفيذ البرنامج.. وأخيرًا، تكلفة الاختبارات التشخيصية والعلاج.. وهنا نقدم بعض التفاصيل عن حملة «100 مليون صحة» التى أطلقتها مصر، والتى أسفرت بفضل قرض متواضع من البنك الدولى عن القضاء على التهاب الكبد الوبائى C، بعد أن أصبحت مصر الدولة الأكثر إصابة بهذا الفيروس.. لقد أصيب العديد من الناس فى مصر بالفيروس فى طفولتهم.. وخلال برنامج التطعيم الشامل ضد داء البلهارسيا، تم تطعيم الأطفال بأدوية مضادة لداء البلهارسيا باستخدام إبر ملوثة.. وبعد ما يقرب من ثلاثين عامًا من الحملة، أدركت مصر أن مشاركة الإبر المستعملة كانت تنقل الفيروس بسرعة، وأنهت الحملة.. وبحلول ذلك الوقت، كان ما يقرب من 15٪ من السكان قد أصيبوا بالعدوى.. وكانت العواقب الطويلة الأجل لهذا هى ارتفاع معدل الإصابة بأمراض الكبد الخطيرة، وأحد أعلى معدلات الإصابة بسرطان الكبد فى العالم.
واستجابة للانتشار الواسع لالتهاب الكبد الوبائى C، صممت الحكومة المصرية برنامج «100 مليون صحة»، وتم تمكين الحملة من خلال قرض بقيمة مائتين وخمسين مليون دولار تقريبًا، وتم تشكيل البرنامج لمدة سبعة أشهر، تحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، وأدارته وزارة الصحة المصرية، وتم تصميم الخطط التفصيلية وتنفيذها.. كان الهدف الطموح فحص وعلاج جميع سكان مصر الذين تزيد أعمارهم عن اثنى عشر عامًا، بمن فى ذلك السجناء وفى الجيش، من الالتهاب الكبدى.. وكانت الحملة المصرية برنامجًا عالميًا أُنشىء فى مختلف أنحاء البلاد، وجسدت التزام الرئيس السيسى بالقضاء على الفيروس.. وبفضل قدرة مصر على تنظيم جهودها فى مختلف أنحاء البلاد، أصبحت الحملة، أكبر حملة فحص طبى حتى الآن.. وقد اتبع البرنامج سلسلة من ست خطوات بسيطة، ولكنها فعالة للغاية.
كانت الخطوة الأولى، تنظيم مجموعات الفحص.. وفى هذه المرحلة من البرنامج استهدفت الحكومة المواطنين الذين تبلغ أعمارهم ثمانية عشر عامًا أو أكثر، لكنها توسعت لاحقًا فى البرنامج ليشمل من تزيد أعمارهم عن اثنى عشر عامًا.. وكانت الخطوة الثانية، دعوة المواطنين لإجراء الفحص.. وقد استخدمت الحكومة العديد من السبل الترويجية، بما فى ذلك حملة إعلامية جماهيرية ووسائل الإعلام المطبوعة، لنشر البرنامج وتشجيع الناس على إجراء الفحص.. أما الخطوة الثالثة، فهى فحص خمسين مليون مواطن، اختاروا إجراء اختبار الفيروس للتأكد من إيجابية المصل.. وتمكن المواطنون من تسجيل المواعيد على موقع الحملة المركز، وإجراء الاختبار فى أحد آلاف مراكز الاختبار والوحدات المتنقلة المنتشرة فى جميع أنحاء البلاد.. وأسفرت اختبارات الأجسام المضادة، عن طريق وخز الإصبع، عن نتائج فى أقل من عشرين دقيقة وتم تحميلها على الفور على الموقع المركزى.
بدأت الخطوة الرابعة بتحديد عدد الأشخاص الذين ثبتت إصابتهم بأجسام مضادة للفيروس، والذين أصيبوا بعدوى نشطة.. وتمت إحالة الأشخاص الذين ظهرت عليهم نتائج إيجابية للأجسام المضادة إلى مراكز اختبار متخصصة لإجراء اختبار PCR التأكيدى.. وقد أنشأت الحكومة المصرية العديد من مراكز الاختبار فى جميع أنحاء البلاد، وتمكن بعضها من إجراء ما يقدر بنحو ستة وثلاثين ألف اختبار يوميًا.. وكانت الخطوة الخامسة، توفير العلاج المجانى لمدة ثلاثة أشهر للمصابين بالعدوى النشطة.. وفى المتوسط، تمت الموافقة على العلاج فى غضون أسبوع من تأكيد Polymerase Chain Reaction، وتم توزيعه فى مراكز متخصصة فى علاج التهاب الكبد الوبائى C.. ومن بين 1.6 مليون بالغ مصاب بعدوى نشطة للالتهاب، قبل 1.47 مليون منهم العلاج الحكومى المجانى، أو اختاروا العلاج الخاص مقابل سبعين دولارًا.. وللتأكد من شفاء من تلقوا العلاج كانت الخطوة الأخيرة هى إعادة فحص هؤلاء.. وبعد ثلاثة أشهر من العلاج أُعيد تقييم الأفراد، للتأكد من شفائهم من المرض، بإجراء اختبار Polymerase Chain Reaction الإضافى.. ثم تم منح من جاءت نتائج اختباراتهم سلبية شهادة شفاء.. وفى نهاية الحملة تم شفاء ما يقدر بنحو 1.23 مليون مواطن مصرى مصاب بعدوى نشطة لالتهاب الكبد الوبائى C.
كان أهم العوامل الرئيسية المساهمة فى نجاح برنامج مصر، كما يقول د. وليام، هو الإرادة السياسية لقيادة البلاد فى القضاء على التهاب الكبد الوبائى C.. وبفضل الدعم القوى من الرئيس السيسى ووزارة الصحة، فإن تفانى مصر فى القضاء على المرض، جعل البلاد متلقيًا مثاليًا للشراكة التعاونية بين الحكومة المصرية والبنك الدولى.. ولتوضيح التزام البلاد بالقضاء على المرض، بذلت الحكومة جهدًا كبيرًا لضمان معرفة الجميع بأن البرنامج يتمتع بالدعم الكامل من الرئيس السيسى ووزارة الصحة.. غمرت الإعلانات عن الحملة البلاد، عبر كل الوسائل والوسائط.. وشجعت الإرادة التى أظهرتها حكومة مصر، الملايين من مواطنيها على المشاركة فى البرنامج، وجعلت حملة «100 مليون صحة» واحدة من أكبر برامج الفحص الصحى فى العالم.
●●●
إن الحاجز الثانى، الذى تواجهه أغلب البلدان فى القضاء على التهاب الكبد الوبائى C، هو الحاجة إلى التنظيم المُنسق.. وقد أصبح برنامج المليون حياة صحية ممكنًا، من خلال خلق تدفق قوى من الأفراد، من الفحص إلى العلاج.. وبالإضافة إلى إنشاء أكثر من ثمانية عشر ألف مركز اختبار فى جميع أنحاء البلاد، أنشأت الحكومة أيضًا أكثر من ألف مركبة اختبار متنقلة، ودربت أكثر من ستين ألف موظف مُتحمس.. وتألف كل موقع اختبار من طبيب شاب وممرضة ومتخصص بيانات، وعدة أعضاء مُدربين حديثًا، من المجتمعات المحلية.. وقد مكّن عدد الموظفين والتوزيع الواسع لمراكز مكافحة الفيروس من الوصول إلى جميع المواطنين المستهدفين البالغ عددهم خمسين مليون مواطن، بمن فى ذلك 57% الذين يعيشون فى المناطق الريفية.. كما استخدمت الحكومة شبكة خاصة افتراضية داخل خدمتها الصحية الوطنية، للإبلاغ عن جميع نتائج الحملة فى الوقت الحقيقى. وتمكن مسئولو البرنامج من تتبع عدد الأشخاص الذين تم فحصهم، وما هو توزيع الأعمار، ونسبة السكان المغطاة.. كما سمح نظام التنظيم المركزى بفحص أمراض الصحة العامة الأخرى فى مصر، بما فى ذلك ارتفاع ضغط الدم والسكرى والسمنة.. ووفرت الجهود التنظيمية فى مصر نموذجًا ممتازًا لفحص ومعالجة قضايا الصحة العامة بين جميع فئات السكان.
إن التكلفة العالية التى تحول دون القضاء على التهاب الكبد الوبائى C تشكل عائقًا كبيرًا بالنسبة لأغلب البلدان.. وقد اعتمد نجاح البرنامج المصرى على قدرة حكومته على التحكم فى تكاليف التنفيذ والتشخيص والأدوية.. وللسيطرة على التكاليف التنظيمية، تمكنت مصر من نشر قدر كبير من البنية الأساسية القائمة داخل نظامها المركزى للرعاية الصحية.. كما تمكنت الحكومة من إنشاء مراكز الاختبار وتدريب موظفيها وإنشاء موقعها الإلكترونى المتخصص فى مجال مكافحة الفيروس.. وكل هذا بتكلفة منخفضة.
وتضمن برنامج مصر عدة نقاط اختبار، بما فى ذلك اختبار إيجابى المصل السريع، واختبار Polymerase Chain Reaction للعدوى النشطة، واختبار Polymerase Chain Reaction الثانوى، للتحقق من خلو الجسم من المرض.. وفى حين أن هذه الاختبارات أغلى بنحو عشرة إلى مائة مرة فى الولايات المتحدة، فقد تمكنت الحكومة المصرية من خفض تكاليف التشخيص إلى سعر أقل بكثير.. وخلال البرنامج تمكنت مصر من توفير اختبارات الأجسام المضادة مقابل ستة وخمسين سنتًا، واختبارات Polymerase Chain Reaction مقابل خمسة دولارات أمريكية فقط.. ويمكن أن تكلف نفس هذه الاختبارات فى الولايات المتحدة حوالى عشرين دولارًا لاختبار الأجسام المضادة السريع، وما يصل إلى ثلاثمائة دولار لاختبار Polymerase Chain Reaction.
على الصعيد الدولى، تتوافر العديد من أدوية التهاب الكبد الوبائى C، بتكاليف أقل، من خلال أنظمة الطبقات الصيدلانية.. وتتوافر مضادات الفيروسات ذات التأثير المباشر مقابل ما بين اثنين وعشرين ألف دولار إلى سبعة وثمانين ألف دولار فى البلدان ذات الدخل المرتفع، وستة آلاف دولار فى البلدان ذات الدخل المتوسط، وتسعمائة دولار فى البلدان ذات الدخل المنخفض.. ولكن من أجل نجاح برنامج مصر، كانت الحكومة المصرية فى حاجة إلى خفض أكبر فى التكاليف.. لذا، فقد أعلنت الحكومة عن أن عبء تكاليف أدوية التهاب الكبد الوبائى C يسهم فى وضعه المتوطن.. وقد أعفى هذا البلاد من حماية براءات الاختراع للأدوية، وفقًا لاتفاقية الجوانب المتصلة بالتجارة لحقوق الملكية الفكرية.. ثم تمكنت مصر من شراء المكونات الصيدلانية الفعالة لسبعة مضادات فيروسات ذات تأثير مباشر مختلفة من الهند، حيث يمكن أن يكلف العلاج ما بين خمسة وعشرين إلى خمسة وثلاثين دولارًا أمريكيًا.. ثم قامت شركات الأدوية المصرية بتركيب هذه المواد.. وقد سمح هذا للبرنامج بتوفير العلاج المجانى لجميع مواطنيها بتكلفة خمسة وأربعين دولارًا للحكومة المصرية.. كما سمحت هذه الجهود لأولئك الذين اختاروا العلاج الخاص بدفع سبعين دولارًا فقط.. وعلى سبيل المقارنة، قد تكلف نفس أنظمة العلاج مواطن الولايات المتحدة ما بين أربعة وعشرين ألف دولار إلى أربعة وثمانين ألف دولار.. وفى المجمل، كلف جزء الاختبار والعلاج من برنامج «100 مليون صحة»، الحكومة المصرية حوالى مائتين وسبعة ملايين دولار، أو حوالى مائة وأربعة وثمانين دولار للشخص الواحد.
ويتساءل د. وليام: ما الذى جعل برنامج «100 مليون صخة» فعالًا إلى هذه الدرجة؟.
وحسب تقرير التحقق الصادر عن منظمة الصحة العالمية، فإن نجاح الحملة تحقق من خلال ستة عوامل رئيسية، أولها، إنشاء لجنة متخصصة لدعم المبادرات الوطنية فى مجال الصحة العامة.. وفى عام 2018، شكلت وزارة الصحة مثل هذه اللجنة لغرض وحيد، هو تصميم البرنامج والإشراف عليه، ومنح التخصيص المناسب للموارد.. أما العامل الثانى فكان التزامها بتحديث الاستراتيجيات الصحية الوطنية استنادًا إلى أولوياتها الوطنية.. وبالتعاون مع منظمة الصحة العالمية والبنك الدولى، وضعت الحكومة المصرية خطة عمل للقضاء على التهاب الكبد الوبائى C، وحددت بشكل فعال أهدافها ووسائل تحقيق هذه الأهداف.. وثالثًا، قامت مصر بمراجعة وتحديث التشريعات واللوائح الوطنية ذات الصلة بالمرض، الأمر الذى مكّن الحكومة من استدامة إنجازاتها.. وكان العامل الرئيسى الآخر هو قدرة البرنامج على التمويل وتوفير الموارد اللازمة للاستدامة.. فقد مكَّنت قدرة مصر على حشد مواردها البشرية، من خلال إجراء تدريب واسع النطاق، وتطوير إجراءات تشغيلية قياسية للفحص والعلاج، البرنامج من خدمة المواطنين على قدم المساواة فى جميع مناطق البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، تمكنت مصر من خلال ضمان وجود سياسة وطنية لاستخدام وشراء الأدوية من خفض تكاليف أدوية العلاج بشكل كبير، وهى الآن تمتلك أكبر حصة فى صناعة الأدوية فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. وأخيرًا، أنشأت الحكومة آليات مثل الخط الساخن لاستقبال المرضى، والذى سمح بالتعديل والتحسين المناسب والسريع والمستمر للبرنامج.. إن مواصفات البرنامج المصرى ليست سرية، وقد تم وصفها بالتفصيل فى الأدبيات الطبية والعلمية، بما فى ذلك مجلة New England الطبية.. كما تم التحقق من نجاحه مؤخرًا، من قِبل منظمة الصحة العالمية، فى تقريرها الذى يوضح بالتفصيل إنشاء البرنامج وتنفيذه ونجاحه.. يتمتع «برنامج 100 مليون صحة» فى مصر بإمكانية القضاء على التهاب الكبد الوبائى C، بالإضافة إلى تحديد مشكلات صحية خطيرة أخرى، بما فى ذلك ارتفاع ضغط الدم والسكرى والسمنة.. والسؤال المتبقى هو: لماذا لا يتم إنشاء برامج مماثلة فى بلدان أخرى، ذات دخل مرتفع ومتوسط وحتى منخفض؟.. هكذا تساءل د. وليام، الذى وعد بالحديث عن تأثير البرنامج المصرى فى سياسة مكافحة الأمراض، فى الولايات المتحدة الأمريكية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.