«تعليب» الخيال فى مسلسل
كتب ماركيز رواية «مائة عام من العزلة» سنة ١٩٦٥، ونشرها بعد عامين، وفى عام ١٩٨٣ صدرت عن هيئة الكتاب بترجمة الدكتور سليمان العطار، وفيما بعد بترجمة صالح علمانى، وتركت فى حياة كل من قرأها أثرًا لا يُنسى، ليس فقط بسبب عالمها السحرى الذى ألهم الشعراء قبل كتاب الحكايات.
أذكر أننى لكى أتتبع مصائر أبطالها الذين يمثلون سبعة أجيال، كنت أدون أسماءهم فى كراسة حتى لا تتوه التفاصيل عنى، خوسيه أركاديو بونديا وأورسولا والكولونيل أوراليانو والغجرى ملكياديس، وغيرهم من الشخصيات التى لا تُنسى، الرواية التى حصلت على جائزة نوبل سنة ١٩٨٢ وباعت ٥٠ مليون نسخة وترجمت إلى ٣٥ لغة، وقالت عنها نيويورك تايمز إنها أول عمل أدبى بجانب موسوعة جينيس يجب على البشرية كلها قراءته، هذه الرواية تحولت إلى مسلسل من إخراج الكولومبية لورا مورا، والأرجنتينى أليكس جارسيا لوبيز، وتولى كتابة الحلقات خوسيه ريفيرا.
بدأ عرض الجزء الأول منه «٨ حلقات» الأسبوع الماضى على منصة نتفليكس، والذين لم يقرأوا الرواية لن يشعروا بخيبة الأمل التى أصابت من قرأها، ولا أقول إن العمل سيئ، ولكن الصورة التى ترسخت فى الذهن عن الشخصيات والأماكن والأحداث انهارت تمامًا مع المصنف الجديد الذى يسمى الدراما التليفزيونية.
«ماكندو» القرية المعزولة التى تخيلها ماركيز وسط الغابات الاستوائية فى كولومبيا موجودة فى كل مكان، هى قرية تحميها ثقافتها وأساطيرها، ذهب إليها الأمريكان وحولوا الغابات إلى مزارع للموز ومصانع وسط المستنقعات، وأوصلوها إلى البحر بسكك حديدية، ليبدأ التحول الاجتماعى العنيف يدوس على كل شىء، الرواية جمعت بين الواقعية والسريالية، أطلق عليها النقاد الواقعية السحرية، ونظر إليها المتحذلقون فى الغرب على أنها عناصر خرافية استخدمها «جابى» لكى يلون حكاياته بألوان طريفة، ولكن نقاد أمريكا اللاتينية أدركوا أن صديق جيفارا وكاسترو كان يرسم صورة الواقع المنعكسة فى أذهان الناس فى بلاده، خاصة أبناء الريف أصحاب الثقافة الشعبية الذين يمارسون الحياة بتلقائية.
ماركيز قبل رحيله رفض تحويلها إلى فيلم سينمائى لصعوبة ذلك، وقال لهم فيلم واحد لن يكفى، المسلسل لا شك فيه جهد رائع على كل المستويات، ولأنه ناطق بالإسبانية بدا أقرب إلى روح النص، ولكنه يفتقد إلى السحر الذى ترسب فى وجدان كل من قرأ العمل، وهذا يأخذنا إلى معضلة تحويل الأعمال الأدبية الخالدة إلى أفلام أو مسلسلات، رواية «العجوز والبحر» مثلًا لهمينجواى لم ينجح الفيلم المأخوذ عنها فى ترجمة المشاعر الداخلية للعجوز الذى يواجه البحر ويواجه نفسه، ولماركيز أيضًا لم ينجح الفيلم المأخوذ عن رواية «الحب فى زمن الكوليرا» فى الإمساك بروح العمل الذى يلعب على التغيرات التى تحدث بفضل التقدم فى العمر، وعندنا أيضًا لم ينجح عمل استلهم أسطورة «الحرافيش» لنجيب محفوظ فى الإمساك بطموح الكاتب، وهناك أمثلة كثيرة أخرى.
وبما أننا ذكرنا نجيب محفوظ ونحن نحتفل هذه الأيام بعيد ميلاده، ولأننا فى أيام يعتقد فيها الإرهابيون أنهم حققوا انتصارًا ما، حين قام هؤلاء الإرهابيون بطعن الأستاذ نجيب سنة ١٩٩٤، أرسل ماركيز برقية لصاحب الثلاثية جاء فيها: «إن أشعة الشمس تنتصر دائمًا على السحب مهما كانت داكنة أو محملة بالأمطار»، وتحدث فى برقيته عن تأثير محفوظ على الآداب العالمية وحثه على استمرار عطائه تحت كل الظروف، كان الأستاذ سعيدًا بهذه البرقية، وقال للمقربين له إنه يفكر فى الرد عليه لشكره على اهتمامه، ولم يحدث هذا إلا بعد عشر سنوات حين تداولت الصحف خبر توقف ماركيز عن الكتابة، فكتب صاحب نوبل المصرى برقية إلى صاحب نوبل الكولومبى: «الكاتب يجب ألا يترك القلم، ويجب ألا يكون لديك شىء تكتبه حتى تمسك بالقلم، أمسك بالقلم فى جميع الأحوال واكتب».
ماركيز واحد من أحب الكتاب إلى قلبى هو ونجيب محفوظ، بالطبع، لأسباب يطول شرحها، المسلسل الجديد ربما جذب قراءً جددًا لأدبه، رغم أنه «تعليب» للخيال وليس ترجمة له، ماركيز «١٩٢٧- ٢٠١٤» كان داعمًا للقضية الفلسطينية وللحقوق العربية بشكل عام، بذل جهدًا كبيرًا للتخلص من صفات برج الحوت كما قال، درس القانون ولم يعمل فى المحاماة، وكان ينفى أنه شيوعى، ولكنه يسارى أقرب إلى الاشتراكية الفرنسية، هذا الرجل كتب «مائة عام من العزلة» لتخليد أساطير أهله وأشواقهم، ولكن الصورة فى المسلسل حاصرتهم.