من سيحكم سوريا ويتصدى لتوغل إسرائيل؟
انتشار القوات الإسرائيلية فى المنطقة منزوعة السلاح فى مرتفعات الجولان، وسيطرتها على الجانب السورى من جبل الشيخ، وضرباتها على أهداف عسكرية سورية، ربما تكون أول التغييرات التى تحدث فى الخريطة السورية خلال الأيام والأسابيع القليلة المقبلة.. لكن إسرائيل ليست الدولة الوحيدة التى بدأت فى إعادة التموضع فى مواجهة سوريا لصالحها العسكرى، وأصبحت قواتها على بعد تسعة عشر كيلومترًا فقط من العاصمة دمشق.. بل إن الميليشيات الموالية لتركيا التابعة للجيش الوطنى السورى الذى كان فى الأصل جيش سوريا الحر، وهو أول وأكبر الميليشيات التى تشكَّلت فى بداية الحرب الأهلية السورية عام 2011 أعلنت عن أنها سيطرت على «منبج»، وهى مدينة تقع غرب نهر الفرات.. وتستضيف هذه المدينة تجمعًا كبيرًا للقوات الكردية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية، وتُشكِّل قلب خطة تركيا، للسيطرة على المناطق التى يسيطر عليها الأكراد فى سوريا، وإقامة منطقة أمنية داخل الأراضى السورية.. وفى هذه الأثناء، سيطرت ميليشيات وقوى شعبية غير مُنظمة على بلدتى السويداء ودرعا فى جنوب سوريا، ومنطقة القنيطرة على الجانب السورى من مرتفعات الجولان، ومن المرجح أن تُطالب بنوع من «الحكم الذاتى» للمناطق الخاضعة لسيطرتها، بدعم من إسرائيل.. ومع تطور الأحداث، تتحول سوريا إلى «بلد الإمكانات غير المحدودة» بالنسبة لجميع القوى المسلحة المشاركة، سواء داخل سوريا أو خارجها، والتى تحاول جميعها السيطرة على الأراضى والأصول العسكرية، لخلق حقائق على الأرض، قبل أن يتمكن أى نظام مركزى فى دمشق، من إنشاء دولة موحدة وحكومة مُتفق عليها بشكل مُتبادل.
أمر زعيم هيئة تحرير الشام، أبومحمد الجولانى الذى تخلى عن اسمه الحربى وعاد إلى اسمه الحقيقى، أحمد حسين الشرع مُقاتليه بعدم المساس بالمبانى الحكومية وحماية الممتلكات العامة.. وقال إنه يجب عليهم الامتناع عن الانتقام من قوات أمن نظام الأسد والمدنيين الذين تعاونوا معه، وخصوصًا أعضاء الطائفة العلوية.. ومع ذلك، يبدو أن سيطرته على غضب مُقاتليه ورغبتهم فى تصفية الحسابات، محدودة.. بدليل، إعدام تنظيم داعش الإرهابى العشرات من القوات السورية، التى فرت مع سقوط نظام بشار الأسد.. إذ كشف المرصد السورى لحقوق الإنسان عن أن داعش أعدم أربعة وخمسين عنصرًا من القوات السورية، أثناء فرارهم فى بادية حمص وسط سوريا، تزامنًا مع سقوط الأسد، حيث اعتقلت خلايا التنظيم العناصر الفارّين من الخدمة العسكرية فى البادية ودير الزور.. وكانت المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية، سابرينا سينج، قالت: «قلقون من عودة نشاط داعش فى سوريا ونواصل التصدى لذلك».
إن القياسات التاريخية خطيرة وعرضة للخطأ.. ولكن من المستحيل ألا نتذكر الصور الصعبة التى رافقت الأيام الأولى للهجوم على العراق عام 2003.. فقد اقتحمت حشود من الناس الوزارات الحكومية، وقُتِل المئات من أعضاء حزب البعث انتقامًا على أيدى العصابات والمدنيين العاديين، ونُهِب المتحف الوطنى، وانفجرت موجة من الجريمة، حتى قبل تأسيس تنظيم القاعدة فى العراق.. وأنتجت ليبيا فظائعها الخاصة بالإطاحة بمعمر القذافى وقتله، حيث اندلعت صراعات قاتلة على السلطة بين القبائل والعائلات، والتى تطورت إلى صراعات سياسية وعسكرية، استمرت فى إحباط إنشاء دولة موحدة وفعّالة.. وفى سوريا، تتوفر كل المكونات اللازمة لوصفة مُماثلة.
كان لدى الجولانى خطة عسكرية فعَّالة، يقول إنها كانت جاهزة على مدى أشهر وربما سنوات.. وكان يعرف كيف يستغل الخطأ الاستراتيجى الروسى، الذى سمح بتطور تجمعات كبيرة من المسلحين فى إدلب، من بلدات ومدن فى مختلف أنحاء سوريا، كجزء من عملية «المصالحة» التى أملتها موسكو على قوات المتمردين المحلية.. كانت الاستراتيجية الروسية تتلخص فى حصار مدينة أو محافظة ينشط فيها مسلحون، وعرض نزع سلاحهم أو نقله إلى إدلب.. وكانت النتيجة أن عشرات الآلاف من المقاتلين من مختلف أنحاء سوريا، ومن خلفيات مختلفة، وجدوا أنفسهم مجتمعين فى منطقة واحدة، يبلغ عدد سكانها نحو أربعة ملايين نسمة.. وهذا مكَّن الجولانى من تطوير قاعدة دخل، تمكنه من تمويل أنشطته المسلحة، وتسليح نفسه بأسلحة أكثر تطورًا، وإدارة المنطقة باعتبارها «حكومة إنقاذ» مع خمس مجموعات مسلحة رئيسية أخرى.
الجولانى، الذى كان يحظى بدعم تركى، وفى حالة بعض الميليشيات بتمويل قطرى، كان ماهرًا فى قراءة الخريطة السياسية، التى ظهرت نتيجة لحرب غزة، واختار توقيت هجومه بشكل صحيح، أى اليوم الذى دخل فيه وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان حيز التنفيذ.. ولكن، من أجل ترسيخ نفسه كزعيم بلا منازع لميليشيات إدلب، شن حربًا وحشية ضد منافسيه.. وعلاوة على ذلك، اضطر خلال العام الماضى إلى التعامل مع الاضطرابات المدنية فى المحافظة، بما فى ذلك الاحتجاجات الجماهيرية ضد الفساد الحكومى، والضرائب الباهظة المفروضة على الناس والشركات، وإلحاق الضرر بالممتلكات الخاصة والاعتداءات على الأقليات.. ومع ذلك، فإن حكم مقاطعة لا يُشبه إدارة بلد مُعقد ومُنقسم ومُثقل بأعباء ثقيلة من الماضى.. إن هذه الأعباء لا تقتصر على النظام الذى قتل أكثر من نصف مليون من مواطنيه وحول نحو أحد عشر مليون إنسان إلى لاجئين ونازحين، بل تشمل أيضًا الصراعات بين مجموعات سكانية مختلفة.. العلويون ضد السنة، والأكراد ضد العلويين، والنخب ضد الجماهير وسكان المدن الذين جُرِّدوا من ممتلكاتهم.. كما نشأت خصومات حادة بين جماعات المعارضة المدنية، مثل تلك التى بين حكومة الجولانى والحكومة المؤقتة التابعة لائتلاف قوى المعارضة.. وهناك تنافس آخر بين هذه الجماعات والحكومة الكردية المُستقلة، التى تأسست فى الجزء الشمالى من البلاد.
لنجد أنفسنا الآن أمام هنا السؤال الأهم: من سيُدير البلاد؟.
من الناحية النظرية، فإن من يحمل السلاح، أى الجولانى، هو من يحدد شكل الحكم فى سوريا الجديدة.. ولكن فى سوريا، الجميع يحمل السلاح؛ ولا حاجة إلى تنظيم ميليشيات مثل هيئة تحرير سوريا، لتعطيل عمل إعادة البناء السياسى.. لقد شهدت سوريا والعراق واليمن والسودان، وعشرات الأماكن الأخرى، تاريخًا داميًا فى النضال من أجل بناء الدولة.. وفى سوريا، يجب بناء الدولة من الصفر.. ويكشف استعراض المقابلات والمحادثات التى أجراها الجولانى على مر السنين، أنه على الرغم من تصميمه وثقته فى قدرته على الإطاحة بالنظام، إلا أنه لم يضع خطة سياسية أو دستورية أو اقتصادية لاستعادة الدولة بعد الأسد.. وعلى سبيل المثال، لا يزال مصير الجيش والشرطة والقضاء فى سوريا غير واضح.. وهل سيتم حل البرلمان؟.. وهل ستُعقد انتخابات، ومتى؟.. وكيف سيتم تمويل ميزانية الدولة؟.
لقد صرح الجولانى قبل بضعة أيام، بأنه مستعد لحل ميليشياته بعد انهيار حكومة الأسد.. وهذا تصريح مُشجع صادر عن شخص يحاول التخلص من صورة المُتعصب الإسلامى، الذى يثير الشكوك والقلق، وحتى الرعب بين جمهور سورى كبير، تلقى تعليمه فى حزب البعث العلمانى.. ولكن، كما يعلم الساسة فى العراق أو لبنان أو ليبيا، فإن الميليشيات الخاصة تشكل ملحقًا أساسيًا لأولئك الذين يريدون التأثير، ناهيك عن الحكم.. والسؤال الحاسم الذى قد يؤثر بالفعل على شخصية سوريا واتجاهها السياسى، هو المال للحكومة.. فسوريا دولة مُفلسة.. فقد هبطت قيمة الليرة السورية الآن، إلى ما بين 46% فى دمشق، و65% فى حلب.. والميزانية الحالية مجرد قطعة ورق عديمة الفائدة.. والاستثمار الأجنبى الوحيد الذى يجرى الآن، هو من قِبَل الشركات الإيرانية التى استحوذت على أصول، فى إطار سداد جزئى للديون التى تراكمت على سوريا لإيران، والتى تجاوزت الثلاثين مليار دولار.. وخط الائتمان الإيرانى لن يكون موجودًا بعد الآن، والعقوبات الأمريكية والدولية المفروضة على سوريا، تمنع الاستثمار من الغرب، والنظام المصرفى انهار.. والحقول النفطية التى كانت تحت سيطرة الأكراد، والتى من الواضح أنها ستعود إلى الحكومة، سوف تتطلب استثمارات كبيرة لإنعاشها.. وهكذا، فإن القيود الاقتصادية هى التى قد تحدد الاتجاه الذى قد تتجه إليه سوريا.. وباعتبارها «دولة الإمكانات غير المحدودة» المُتحررة من قبضة إيران وروسيا، فإن دمشق قد تنفتح على دول المنطقة والغرب، التى كانت، حتى الآن، تراقب من على الهامش وتتابع التطورات عن كثب.
لم يكن بوسع الدول العربية أن تمنع الأسد من ارتكاب المجازر ضد شعبه، ولم تتحرك ضد النظام المُروِّع، باستثناء الإدانات الحادة والعقوبات التى لم تُغير سلوك الأسد حقًا.. وعلاوة على ذلك، نجحت الدول العربية فى العام الماضى فى إعادة الأسد إلى صفوفها.. وحتى فى الآونة الأخيرة، فكرت العديد من الدول الأوروبية فى تطبيع العلاقات مع النظام، وقدمت سوريا باعتبارها «مكانًا آمنًا»، حتى تتمكن من إعادة ملايين اللاجئين إلى ديارهم.. ولكن مثل بقية دول العالم، لم تكن هذه الدول مستعدة لهجوم المتمردين.. ونظرًا لخبرتها المريرة فى إعادة «بناء الأمة» فى أفغانستان أو العراق أو ليبيا، فمن الممكن أن نفهم موقف «المراقب» الذى تتبناه الآن.. والمشكلة هى أنها لن تتمكن من ممارسة أى تأثير على تشكيل النظام الجديد فى سوريا، انطلاقًا من هذا الموقف.
لقد أدركت المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال بعد فوات الأوان كثيرًا، أنها خسرت العراق لصالح إيران، قبل أن تعيد إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية مع بغداد.. وكان بوسع الولايات المتحدة أن تساعد لبنان على الخروج من أزمته الاقتصادية العميقة، لو سمحت لمصر والأردن ببيع الكهرباء إليه، وهو ما حُرِّمَ منه، فقط لأن خط النقل كان يمر عبر سوريا.. ويبقى أن النفوذ الاقتصادى الذى قد تتمتع به دول الخليج الغنية، والدول الغربية فى سوريا، ليس مجرد فرصة تجارية أو سياسية.. بل إنه مرتبط بشكل مباشر بالأمن الإقليمى، الذى يتطلب حُكمًا فعالًا ومستقرًا، نظرًا للخطر الذى يُشكله نظام الميليشيات المُنغمس فى حرب العصابات، التى يمكن أن يتطور بسهولة فى سوريا.
●●●
تتغير صورة سوريا المتغيرة أصلًا كل ساعة تقريبًا، حيث تعمل القوى التى تُمزق البلاد إلى قطع، على إعادة تشكيل حدود سيطرتها.. وربما يكون من المستحيل، وقف العملية التى بدأت بالفعل، والتى تنهار فيها سوريا إلى مناطق تتمتع بالحكم الذاتى، أو حتى مُستقلة تسيطر عليها ميليشيات متنافسة وعصابات محلية.. حاول الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، على مدار العام الماضى تشجيع الأسد على التفاوض مع المتمردين، من أجل وقف انهيار سوريا، ولكن دون جدوى.. وحتى بعد بدء هجوم المتمردين، اقترح أردوغان مرة أخرى إجراء مفاوضات، لكن اقتراحه قُوبل بالرفض أيضًا، عندما اشترط الأسد إجراء المحادثات بانسحاب تركى كامل من جميع الأراضى السورية.. ظاهريًا، يمتلك أردوغان الآن ورقة مساومة قوية، باعتباره الحليف والراعى المالى ومورِّد الأسلحة للتحالفين الرئيسيين للمتمردين، وهما الجيش الوطنى السورى، المعروف سابقًا باسم الجيش السورى الحر، والذى اندمج فى صفوفه ميليشيات صغيرة؛ وهيئة تحرير الشام، التى خططت وأطلقت الهجوم.. وتتضمن أدوات الضغط التى يستخدمها أردوغان التهديد بوقف خط التمويل وإغلاق المعابر الحدودية التركية السورية، التى تُعد أحد المصادر الرئيسية للدخل لهذه الميليشيات.
لكن التطورات فى الأيام العشرة الماضية غيَّرت من ثقل النفوذ التركى، فقد استولت ميليشيات الجولانى على مخازن أسلحة وذخائر ومعدات عسكرية أخرى تابعة للجيش السورى، وتراجع اعتمادها على الأسلحة المستوردة.. وبالإضافة إلى ذلك، ومنذ تركيزهم على تواجدهم فى إدلب على مر السنين، بدأوا فى إنتاج أسلحتهم الخاصة، والطائرات بدون طيار، والمركبات المدرعة.. فضلًا عن ذلك، سيحاول الجولانى تحويل الانتصارات السريعة فى ساحة المعركة إلى مكاسب سياسية لنفسه، وليس هناك ما يضمن أنه سوف يُطيع تركيا فى نهاية المطاف.. وفى الوقت نفسه، أمر قواته «بالتصرف باحترام» تجاه الجنود السوريين الأسرى ومع المتعاونين معهم، وقال إن مؤسسات الحكومة السورية ستظل تحت سيطرة رئيس الوزراء، محمد غازى الجلالى، حتى التغيير الرسمى للنظام.. كما أصدر رجاله «شهادات حماية»، لكبار المسئولين السوريين الذين عملوا لدى النظام، الذى من المفترض أن يحميهم من الأذى إذا تم القبض عليهم، من أجل إثبات أنه ليس انتقاميًا.
وباعتباره شخصية معروفة كإسلامى مُتطرف، يثير الخوف والقلق من أنه يخطط لإقامة دولة الشريعة الصارمة فى سوريا، فقد أطلق الجولانى تصريحات تصالحية فى الأيام القليلة الماضية، ووعد بحماية واحترام جميع الأقليات الدينية والعرقية فى البلاد.. وكبديل للأسد، لا يستطيع الجولانى أن يستمر فى رؤية إيران وروسيا والميليشيات التابعة لهما كشركاء محتملين، ولكن حتى الافتراض بأنه فى جيب تركيا، سيتطلب ذلك إثباتًا على الأرض.. وباعتباره «زعيم كل السوريين»، فسوف يتعين عليه التعامل مع معارضين محليين جادين، بما فى ذلك الميليشيات المتنافسة، مثل تلك الموجودة فى درعا والسويداء، والتى وقفت فى الصفوف معه الآن، فى محاولة للإطاحة بالنظام، ولكن أيضًا مع القوات الكردية، التى استولت بسرعة على المزيد من الأراضى فى شمال شرق البلاد، خلال عطلة نهاية الأسبوع، بعد أن سيطرت القوات الكردية على محافظة دير الزور ومعبر البوكمال الحدودى، وخاضت مواجهات عنيفة خلال الأيام القليلة الماضية مع القوات التركية، التى تحاول بدورها السيطرة على منبج، إحدى النقاط الكردية المهمة غرب نهر الفرات.
إن الاتحاد بين الأكراد وقوات هيئة تحرير الشام، سيتطلب من الجولانى التوفيق بين رغبة الأكراد فى حماية حكمهم الذاتى، ورغبة تركيا فى دفعهم لمسافة عشرين إلى ثلاثين كيلومترًا بعيدًا عن حدودها.. فهل توافق تركيا على أن تمنح «ميليشياتها» الأكراد انتصارًا على حساب ما تعتبره تهديدًا لأمنها القومى؟.. وهل يوافق الجولانى، الذى يسعى إلى إحاطة نفسه بدعم وطنى ساحق، على أن تواصل تركيا شن الحرب ضد الأكراد، بينما يسعى هو إلى تشكيل ائتلاف حاكم معهم؟.
وعلى النقيض من تركيا، التى تمتلك بدائل دبلوماسية قد تمنحها نفوذًا أكبر بكثير فى سوريا ما سمح به الأسد، فإن خيارات إيران من المُرجح أن تتبخر.. ولن يتم فقدان المليارات من الدولارات التى قدمتها إيران للأسد، فى صورة ائتمان ونفط وأسلحة فحسب، بل إن الموقع الاستراتيجى لسوريا، باعتبارها شريان الحياة لوكيل إيران فى لبنان، وربما وكيلها الأكثر أهمية، سوف يتوقف عن الوجود.. ورغم أن سوريا فى عهد حافظ الأسد، والد بشار، كانت الدولة العربية الوحيدة التى ساندت إيران، وليس العراق، فى الحرب العراقية الإيرانية، إلا أن حافظ الأسد كان يعرف دومًا ضرورة الحفاظ على مسافة آمنة، خوفًا من محاولات طهران الاستيلاء على دمشق.. كما أن إيران لم تعتبره أبدًا رجلها فى سوريا.. حتى أن المرشد الأعلى الإيرانى آنذاك، آية الله روح الله الخمينى، قال إن حافظ الأسد لم يكن شيعيًا حقيقيًا، بل كان علمانيًا كافرًا.. ورغم أن بشار الأسد كان يُنظَر إليه على أنه شخص حوّل سوريا إلى (ولاية إيرانية أخرى)، كما قال أحد كبار علماء المسلمين فى إيران قبل سنوات، فإنه كان أيضًا حريصًا على عدم الانضمام إلى حلقة النار، أو المشاركة فى اتحاد الجبهات.
لقد نجح الأسد فى منع هجمات قوات القدس ضد إسرائيل من الأراضى السورية، وتجاهل الهجمات الإسرائيلية التى كانت موجهة ضد أهداف إيرانية، وقوافل أسلحة ومنشآت حزب الله فى سوريا.. وعلى الرغم من المساعدات الضخمة التى قدمتها له إيران فى الحرب الأهلية، فإن نصيبها من الغنائم الاقتصادية كان أقل بكثير من نصيب روسيا.. وبالمقارنة بالنفوذ الإيرانى المشروط فى سوريا، فإن لبنان يُشكل قصة مختلفة.. ففى لبنان، منح حزب الله إيران حتى الآن سيطرة مباشرة وغير محدودة تقريبًا.. صحيح أن الضربة التى تعرض لها حزب الله فى لبنان، أجبرت إيران على الموافقة على ما تراه شروطًا قاسية، منصوصًا عليها فى اتفاق وقف إطلاق النار، ورغم أن الاتفاق ينص على أن لبنان لا بد أن ينزع سلاح حزب الله، فإن الاستعداد لتطبيق هذا البند ضئيل، إن وجد.. علاوة على ذلك، فإن حزب الله، كمنظمة وحركة وقوة مؤثرة فى السياسة اللبنانية، لا يزال حيًا ويضرب، وهو يحافظ على نفوذ إيران فى لبنان.. ولكن، إذا كانت الحرب فى سوريا ستؤدى إلى تقليص مكانة إيران هناك، أو حتى القضاء على قواتها وقواتها وحزب الله، فإن الانقطاع الجغرافى بين حزب الله ومصادره اللوجستية العسكرية، سيكون له تأثير كبير على قدرته على التعافى كمنظمة عسكرية.
وأمام فرصة تحرير سوريا من نظام الأسد والوجود الإيرانى، أصبحت الدول العربية التى عرضت معظمها الدعم والمساعدة على الأسد، وإن لم يكن بالسلاح أو الجنود تشعر بالقلق الآن بشأن البدائل.. عندما تستولى الميليشيات على بلد ما، بغض النظر عن أيديولوجيتها، فإنها تُهدد الأنظمة التقليدية، التى تعتمد على السيطرة القوية.. ومثل هذا النجاح، كما رأينا فى الربيع العربى، مُعدٍ، ويشجع على إحياء المنظمات والحركات المتمردة.. ورغم أن الحركات التمردية نجحت فى إسقاط الأنظمة فى بعض البلدان، لكنها عادت إلى الاستبداد، فإن بلدانًا أخرى، مثل اليمن وليبيا والسودان، سقطت فى حروب أهلية مزقتها.. لكن التحدى المباشر فى سوريا، سوف يعتمد على طبيعة النظام الذى سيتم إنشاؤه فى دمشق، ومن سيكون فى مرمى نيرانه.. وعلاوة على ذلك، مهدت الثورة السورية عام 2011، الطريق أمام تنظيم الدولة الإسلامية، لاحتلال أجزاء من سوريا والعراق، وهناك بالفعل تقارير تفيد بأن تنظيم الدولة الإسلامية فى سوريا استأنف نشاطه، فى بعض المناطق التى تراجع عنها النظام.. وإذا كان هذا هو البديل، فربما كان بقاء الأسد فى السلطة ليظل يُنظَر إليه باعتباره ثمنًا معقولًا.
●●●
ثمنٌ هنا وثمنٌ هناك، والذى يدفع الفاتورة فى الحالين هو الشعب السورى، الضحية فى كلا الوقتين!.
من منزله فى فرنسا، يتابع د. عمر الخطيب، أستاذ الإعلام، الذى زاملته التدريس لفترة بجامعة الملك سعود بالرياض وهو أحد سكان مدينة درعا فى جنوب سوريا ومعارض لنظام بشار الأسد، وغادر سوريا نهاية عام 2013، مع زوجته وأولاده عندما تفاقمت الأزمة فى البلاد التطورات فى وطنه بقلق شديد.. ويقول إن المأزق الحالى الذى تعيشه سوريا هو نتيجة النظام الذى ترأسه الأسد، الذى قاتل شعبه بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية لأكثر من ثلاثة عشر عامًا.. هذه ليست مباراة كرة قدم، حيث يتعين علينا أن ندعم فريقًا ضد فريق آخر، بل هى مأساة مستمرة.. والضحية الرئيسية هى الشعب السورى، الذى سيستمر فى دفع الثمن، سواء على يد الأسد أو على يد مقاتلى جبهة النصرة فى إشارة إلى هيئة تحرير الشام التى كانت مرتبطة بتنظيم القاعدة فى سوريا وفى الوقت نفسه، أعرب عن قلقه إزاء استيلاء المتمردين على المدن الكبرى، (كان بعضهم ناشطًا فى تنظيم القاعدة فى الماضى، وهم ليسوا أقل من المجرمين.. وبعضهم لديه معتقدات متطرفة، من شأنها أن تهدد الجماعة والتنوع العرقى فى سوريا).. وحتى قبل أنباء سقوط الأسد، قال (إن المتمردين سيدفعون البلاد إلى حرب أهلية عرقية، أسوأ حتى مما حدث فى العراق بعد سقوط نظام صدام حسين).
(أستطيع أن أفهم السوريين الذين يؤيدون الثوار.. كان من المفترض أن يكونوا أساتذة أو أدباء أو مثقفين أو أطباء.. لكن الحرب أخذت منهم كل شيء.. هذا الغضب ضد النظام موجود منذ اندلاع الحرب.. وفى رأيى، توقيت الهجوم ليس مصادفة، وقد حدث عندما وجدوا فرصة لذلك)، قال الخطيب، الذى يشعر بالقلق على عائلته المتبقية فى سوريا، وخصوصًا فى مدن درعا وحمص ودمشق، (ما يحدث فى سوريا مخيف للغاية، ولن يضمن بالضرورة مستقبلًا أفضل، كما يدَّعى المتمردون ويتوقعونه.. السجناء الذين تم إطلاق سراحهم للتو من السجن المركزى فى حماة ودير الزور، ليسوا جميعهم سجناء سياسيين، والناس ينسون ذلك.. صحيح أن هناك من تم اعتقالهم لأنهم كانوا معارضين للنظام، ولكن هناك أيضًا مجرمون وقتلة، والآن أصبحوا جميعًا أحرارًا، وهذا يخلق فوضى اجتماعية، ويشكل خطرًا على السكان المدنيين).
وقد أعرب سكان المدن السورية عن مشاعر الارتباك والحيرة التى انتابتهم، (فى الصحافة المعارضة لنظام الأسد، يذيعون انتصار المتمردين على المدن باعتباره تحريرًا، ولكن فى الممارسة العملية، يتم استبدال النظام بميليشيات دينية متطرفة.. المناطق التى تم الاستيلاء عليها حتى الآن مدمرة على أى حال، وبعض سكانها لاجئون فى بلدان أخرى.. المتمردون لا يؤمنون بالقيم الليبرالية أو الديمقراطية، الدين هو الذى يوجههم)، ليبقى سؤال السكان: ما هى خطة المتمردين الذين يتحركون الآن بعد التحرير؟.. ومن هم داعموهم؟.. وهل هم قادرون على إقامة حكومة بديلة؟.. هذه أسئلة تثير الشكوك حول ما إذا كان هناك تغيير إيجابى فى سوريا.. تتعامل سوريا مع ثلاثة احتلالات على الأرض: إيرانية وتركية وروسية، بالإضافة إلى الاحتلال الجوى، مع مهاجمة إسرائيل لمناطق من البلاد.. سقوط نظام الأسد لن يغير المشكلة الأساسية، وذلك لعدم وجود إطار سياسى لمعالجة الانقسامات العميقة بين جماعات المعارضة، (بعض هذه الجماعات تنتمى إلى المسلمين السُنة السوريين، ولكن هناك أيضًا أكراد وفصائل تتألف من أشخاص أصلهم من العراق، لجأوا إلى سوريا، وانضموا الآن إلى صفوف المتمردين.. إنها فوضى تخلق أرضًا خصبة لحروب مستقبلية).
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.