رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الذئاب الكامنة.. خطة إحياء جماعات الإسلام السياسى

فى مذكراته، اعترف حسن البنا، صراحة، بتلقيه دعمًا ماليًا إنجليزيًا يقدر بخمسمائة جنيه، وقتها، لإنشاء مسجد ومقر للجماعة، ليكون ذلك أول تدشين رسمى للجماعة، وأيضًا أول تدشين رسمى فى العصر الحديث لفكرة خلق الاستعمار مجموعة محلية عميلة تقوم على أساس دينى، وهو تدشين معترف به من رأس الجماعة مباشرة. برر البنا ذلك لأتباعه الأوائل فى نفس جلسة اعترافه بتلقى التمويل، بأن هذه الأموال من أموال شركة قناة السويس، وهى قناة مصرية، ومن حق الجماعة أن تأخذ هذه الأموال التى لا تقارن بما تبرعت به الشركة لإقامة كنيسة! قَبِل الأتباع تبرير راسبوتين مصر الحديثة، دون أن يناقشه أحدهم مثلًا بأن إنشاء كنيسة أو حتى مسجد يختلف تمامًا عن خلق جماعة دينية سياسية يعرف مؤسسوها، الذين وافقوا على هذا التبرير، أنها لمناوئة أنظمة الحكم المحلية، وليست لممارسة شعائر دينية أو مقاومة احتلال أجنبى! 

كان هذا التبرير، وكان هذا القبول، هو بدء تاريخ يمتد لقرن كامل من الزمن، ويكتظ بقصص خيانة الأوطان التى قامت بها الجماعة الأم، وكل الجماعات التى خرجت من عباءتها وانتشرت خارج مصر، أو التى اقترفتها جماعات أخرى غير مصرية. 

إنهاك الدول اقتصاديًا.. والضغط على أنظمة الحكم الوطنية فى أوقات المواجهات الخارجية

اتخذت الخيانة أشكالًا متعددة، منها ما هو تقليدى جدًا بتقبل تمويل أو أجر مقابل القيام بأدوار سياسية مباشرة، أو الضغط غير المباشر على أنظمة الحكم الوطنية فى أوقات المواجهات الخارجية. 

فى تاريخ جماعة الإخوان صفحات كثيرة تمثل النموذج الأول التقليدى للخيانة، منها تواصلها مع أجهزة مخابرات غربية ضد نظام عبدالناصر، وصولًا لعصر أوباما وهيلارى كلينتون والاتفاق المباشر على القيام بسيناريو مشابه لما يحدث فى سوريا هذه الأيام، وهو المساندة الأمريكية المباشرة لنظام حكم إخوانى؛ مقابل التنازل عن قطعة من أرض مصر، وهو ما وثقته شهادة رئيس السلطة الفلسطينية، ومناقشات الكونجرس بعد فشل الخطة. بعد نصر أكتوبر، وجهت حركات الإسلام السياسى المصرية وغير المصرية وجهتها ضد الدولة المصرية، وكانت باكورة جرائمها هى حادثة الفنية العسكرية الموجهة لاغتيال القائد المنتصر على إسرائيل، وزعزعة استقرار الدولة التى أخذت على عاتقها عبء المواجهة العسكرية الكاملة، واستنزفت كل طاقتها واقتصادها فى هذه المواجهة!

ومن النماذج غير المصرية حركة حماس؛ بدءًا بتاريخ نشأتها المشابه لتاريخ نشأة الجماعة الأم فى مصر؛ فقد نشأت حركة حماس فى صورتها الأولى بتمويل إسرائيلى صريح لضرب القضية الفلسطينية الوطنية ونحر المقاومة، وكانت أول مشاهدها فى الخيانة المباشرة هو الاشتباكات المسلحة ضد طلاب حركة فتح. 

واستمرت حركة حماس فى القيام بدورها فى شق الصف الوطنى الفلسطينى حتى وصلنا لمشهد قَسْم وقَصْم هذا الصف، وفصل القطاع عن الضفة، ثم وجهت طاقتها عبر سنوات لمحاولة زعزعة استقرار مصر- الداعم الأول والأقوى للقضية الفلسطينية- حتى وصلت أخيرًا إلى مرحلة اتفاقها مع نظام الإخوان؛ برئاسة مرسى على تنفيذ رؤية أوباما وهيلارى كلينتون التى تُعد خيانة مزدوجة لمصر وللشعب الفلسطينى وتصفية قضيته. وآخر مشاهد خيانتها ما جرى يوم السابع من أكتوبر الذى كان فى الأساس محاولة ثانية أعنف لتنفيذ ما أفشلته مصر سابقًا أثناء حكم الجماعة العميلة. 

ومن مراحل الخيانة غير المباشرة فى تاريخ تلك الجماعات ما حدث فى عقدى الثمانينيات والتسعينيات حين خاضت حركات الإسلام السياسى حربًا لإنهاك الدولة المصرية اقتصاديًا، وتواطأت مع أجهزة مخابرات غربية منحتها التمويل والمساندة الإعلامية والدولية عبر بعض المنظمات الحقوقية المشبوهة. فى هذه المرحلة استهدفت جماعات الإسلام السياسى بشكل واضح موردًا اقتصاديًا مصريًا مهمًا، وهو السياحة التى كانت تمثل مصدرًا رئيسيًا للعملات الصعبة، كما أنهكت اقتصاد مصر عبر إجهاضها برامج التنمية السكانية التى شرعت فيها مصر لمحاولة السيطرة على الانفجار السكانى. مصر لم تكن وحدها التى استهدفتها جماعات التطرف الدينى بالخيانة، لكنها كانت على رأس القائمة، بناء على حقيقة مهمة أن الجماعة الأم تم غرسها فى مصر أولًا ثم انتشرت وتمددت فى باقى البلدان العربية والمسلمة. 

تجنيد آلاف الشباب باستغلال الفقر الفكرى والجهل المعرفى

بناءً على حالة الفقر الفكرى والجهل المعرفى الطاغى الذى سيطر على الآلاف من الشباب الذين انطووا تحت لواء هذه الجماعات، يمكن القول إن هؤلاء لم تكن لديهم معرفة بالخطط السياسية الغربية التى تم تدشينها بشكل رسمى لتقسيم الدول العربية فى بداية القرن العشرين، ثم تم تحديثها عدة مرات وصولًا للصورة النهائية فى بدء ثمانينيات نفس القرن بمسمى مشروع برنارد لويس الصهيونى. لقد أغرق أئمة هذه الجماعات أتباعهم فى أفكار عتيقة بعيدة تمامًا عن حقائق المشهد السياسى المعاصر لها، فأصبحوا بشكل حقيقى كالثيران مغمضة الأعين وهى تدهس استقلال أوطانها واقتصادياتها. 

خاضت مصر وباقى الدول فى المنطقة عدة عقود من المواجهة كلفتها التقهقر للوراء اقتصادًا وتعليمًا وسياسة، لكنها حافظت على الحد الأدنى من كيانها المتمثل فى بقاء كل منها كدولة موحدة، حتى وصلنا لحربى الخليج الأولى والثانية اللتين تمثلان المرحلة الأهم فى تقوية تلك الجماعات، وبدء تجنيدها بشكل رسمى معلن، وتوفير حاضنات دولية لها خارج حدود أوطانها؛ إما داخل دول أخرى بعيدة جغرافيًا كألبانيا أو أفغانستان، أو فى مقرات أجهزة مخابرات غربية أو حتى داخل سجون تلك الدول. بدأت بعد هاتين الحربين مرحلة الإعداد العسكرى والتكنولوجى المتطور، وتنظيم تلك الجماعات بشكل يجعلها قادرة على القيام بدورها المنتظر بشكل فعّال تستطيع معه مناطحة جيوش دولها الوطنية. ساعدت فى نجاح هذه المرحلة ممارسات بعض أنظمة الحكم فى المنطقة، بطائفية بعضها، وديكتاتورية البعض الآخر، وتجميد مقدرات شعوب دول البعض الثالث، ومواءمات وتفاهمات البعض الرابع من هذه الأنظمة. 

ترتب على ممارسات هذه الأنظمة توفير ظهير شعبى فى كل دولة يساند، جهلًا أو يأسًا، بعض أدبيات هذه الجماعات، ويرى فيها نموذجًا محتملًا للخلاص من تلك الأنظمة، وقطعًا دون أن يعلم هذا الظهير ما يتم إعداده من مخططات لبلادهم، وذلك نتيجة لحالة التجهيل التى قامت بها نفس أنظمة الحكم ضد شعوبها!

مصر تنجو بقواتها المسلحة القائمة على النسيج الوطنى المتناغم وطبيعة نظام الحكم غير الطائفى 

حانت المرحلة الأكثر حسمًا فى قيام تلك الجماعات بدورها، الذى تم إعدادها له فى سنوات ما يسمى بالربيع العربى، إذ أصبحت هذه الجماعات كيانات قائمة بالفعل تتمتع بظهير شعبى مساند، واستخدام خارجى مباشر، وإمداد لوجستى ومعلوماتى وعسكرى كشفته مغارات جبل الحلال بعد أن أسقطها رجال القوات المسلحة المصرية.

ونجحت هذه الجماعات بعد أن أصبحت لها ميليشيات عسكرية قوية بالفعل فى القفز على مقاعد الحكم فى بعض الدول، وحان الوقت لكى تنفذ دورها المخطط له سابقًا بتقسيم الدول. 

لكن مصر أفشلت ما يخصها من الخطة بثورة شعبية جارفة مؤيدة بقواتها المسلحة، ولم تكن تلك الثورة لتنجح فى ذلك دون حفاظ المؤسسة العسكرية على قوتها القادرة، لأن المخطط كان يشتمل على مساعدة الجماعة عسكريًا لتنفيذه بالقوة فى بعض مراحله لو تهاون المصريون فى المواجهة. الذى حدث بعد ذلك فى السنوات التالية وقاد إلى نجاح مخطط التقسيم فى دول، وفشله فى مصر، يتعلق بشكل وحيد بطبيعة كل شعب، وطبيعة كل نظام حكم، وشخصية القوات المسلحة لكل دولة. فالدول التى كان نظام حكمها طائفيًا بحتًا، وشخصية قواتها المسلحة طائفية سقطت، بينما مصر لم تسقط لنفس الأسباب. 

مصر لم تسقط لشخصية قواتها المسلحة القائمة على النسيج الوطنى المتناغم، وطبيعة نظام الحكم غير الطائفى، وتركيبة وشخصية الشعب المصرى. 

وكانت المحصلة النهائية لوجود جماعات الإسلام السياسى فى المنطقة فى قرن كامل هو المشهد الراهن، دولًا مقسمة مكشوفة تمامًا عسكريًا، وجماعات خائنة بالشكل التقليدى، وخسارة القضية الفلسطينية كل ما حصلت عليه من مكتسبات للنضال الوطنى، إذ عادت القضية للمربع صفر، وبعد أن كان الحديث عن شكل الدولة المحتملة ووضع القدس، أصبحنا نتحدث فقط عن وقف العدوان وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل امتطاء الجماعة المشهد الفلسطينى، والنضال من أجل توفير الطعام وخيام لمن كانوا يقطنون فى عمارات سكنية، ويتقاضون مرتباتهم بالدولار!

وفى مصر لا تزال الجماعة تحلم بالعودة للمشهد، والقيام بما فشلت فيه عام ٢٠١٢م باقتطاع جزء من أرض مصر مقابل السلطة والحكم، والفصائل التى تنازلت عن أجزاء من أوطانها تحلم بالانطلاق لمهاجمة دول عربية أخرى لتقسيمها، كما ورد نصًا على ألسنة بعض من ألقوا خطبهم من المسجد الأموى حين تحدثوا عن دخول المسجد النبوى كفاتحين جدد! قرن كامل من إنهاك الدول الوطنية ومواجهتها قاد إلى مشهد وجود دول محتلة بشكل تقليدى، أو دول مُنهكة منهمكة فى صد الهجمة تلو الأخرى، وقضية مركزية أصبحت فى مهب الريح.

مجموعات محسوبة على المثقفين الليبراليين تساعد الجماعات فى خداع الشعوب

«النصب السياسى» هو العنوان العريض الذى يمكن أن نضعه لأى دراسة علمية موضوعية لأسباب قيام هذه الجماعات. لقد نصبت على الشعوب بشكل صريح. فى الربع الأول من القرن الماضى سقطت تركيا وقامت الدولة الصهيونية. وكان هذان الحدثان هما مصباح علاء الدين الذى اكتشفه حسن البنا ومَن جاء بعده من نصابى الإسلام السياسى حتى الآن! 

منذ يومين كان هناك مشهد مثير للرثاء.. العميل الذى تم تلميعه ونقله من الصفحات الأولى لصحف العم السام كإرهابى مطلوب رأسه، إلى قائد ثورة يدلى بحوار على إحدى شاشات العم سام أيضًا. وقف هذا العميل يخطب فى رفاقه على الهواء مباشرة عن الزحف المقدس للأقصى، بينما تدك الطائرات الصهيونية كل أسلحة جيش بلاده! 

كان كمن يتم تجريده من ملابسه الداخلية وهو يخطب فى الجموع بأنه بطل الحارة! هو يدرك جيدًا أن هذه العبارة مع عبارة أخرى- عودة الخلافة- هما عِدة النصب التقليدية، وقطعتا الإكسسوار التقليدية لكل من يصعد المسرح لكى يؤدى هذا الدور العبثى! 

حسن البنا هو مكتشف عِدة النصب فى طورها الأول. ألهمته فكرة محمد عبدالوهاب وتحالفه مع مؤسسى الدولة الإسلامية الكبرى، لكن البنا نصب على أتباعه وباقى المريدين لأنهم هناك كانوا يريدون تأسيس دولة وتجميع المتفرق، بينما هو كان يريد العكس.. كان يريد تمزيق الدولة القائمة بالفعل! 

طوال العقود العشرة السابقة استخدمت كل الجماعات نفس هاتين العبارتين، تحرير الأقصى وإقامة الخلافة المزعومة. وبمجرد أن ترتقى جماعة إلى مستوى شعبى أكبر، وتمتلئ خزائن قادتها بالأموال، تنسى الجماعة الأقصى والخلافة، بل تمد يديها بكل حفاوة للتحالف مع محتلى الأقصى وكاسرى إمبراطورية آل عثمان! 

رغم تهافت عِدة النصب، فإنها كانت دائمًا هى الأكثر فاعلية مع جموع جماهيرية تغطُّ فى جهل عميق. فلا إمبراطورية آل عثمان كانت خلافة، ولا يوجد فى الإسلام ما يسمى بعودة الخلافة، لأنها كانت مرحلة تاريخية سياسية منقضية، ولا تحرير الأقصى من أركان الإسلام! لكن هذا ما تطرب له آذان العامة ويجمع المريدين أمام خشبة المسرح! 

جماعات الإسلام السياسى نصبت على الشعوب فى تمسُّحها بديانة الإسلام، فهى لا علاقة لها بهذا الدين من الألف للياء. فالإسلام ليس دين خيانة أوطان، ولا دين استباحة دماء، ولا دينًا يستبيح العبث بممتلكات الأفراد ولا الشعوب. 

ما فعلته وتفعله هذه الجماعات فى شعوبها ودولها- وبمقاييس الانتهازية السياسية المجردة من أى قيم ودين- أكثر خسة مما فعلته الحملات الصليبية فى هذه المنطقة؛ فالحملات الصليبية كانت تنهب شعوب الشرق لكى تلقى بغنائمها لدولها وشعوبها، وليس العكس! الإسلام أشرف وأطهر وأنقى من أن تنتسب إليه جماعات كاملة من خونة الأوطان والقتلة ونهّابى شعوبهم ومستبيحى مقدرات أوطانهم. 

نصبت هذه الجماعات على الشعوب بتسويق جملة من الأكاذيب عن أنظمة الحكم وخروجها على الإسلام، وعن تعرض أفراد هذه الجماعات للتعذيب والانتهاكات. وساندتها فى نصبها هذا مجموعات محسوبة على المثقفين والسياسيين الليبراليين، فأسهموا فى خداع شعوبهم حتى الآن. وأسهم فى نجاح هذا النصب رجال دين مشاهير فى مصر عبر أربعة عقود كاملة بعد نصر أكتوبر؛ بتسويق مصطلحات كاذبة عن مجموعات إرهابية مجرمة بأنهم قادة الصحوة الشبابية المسلمة!