الفلسفة.. تلك السلوى والعزاء مع ابتلاءات الحياة
كانت الفلسفة، ولا سواها، السلوى والعزاء مع ابتلاءات الحياة، ودقات قلبى المسكونة بألف عفريت، وطرقات روحى المحتلة بالأشباح، وخيالات متآمرة على هدوئى وسكينتى واطمئنانى.
هى «متعتى»، فى عالم، لا أنتمى إلى استمتاعاته.
أحكى لها عن كل شىء يؤرقنى، يسحب سجادة الهناء والراحة من تحت قدمىّ، دون أن يتأنى ليعرف كم أنا الآن، أحتاج الراحة والأمان والطمأنينة والسكينة. هى الطبيبة المداوية دائمًا، قبل أن أشكو وأبكى.
«الفلسفة» صديقتى الحميمة الوفية، الوحيدة التى أسمح لها بالنوم بجانبى على فراش نومى المقدس، تحتضننى، تغنى لى، تمنحنى عصارة تاريخها وإيمانها، تعطينى حقنة حكمتها الأخيرة.
«الفلسفة» صانعة المعجزات فى النفس البشرية، التى ما زالت عند الغالبية، ترادف كثرة الكلام المعقد المتضخم المتغطرس، الذى لا طائل من ورائه، إلا إهدار الوقت والتقاعس عن الفعل.
هى تلك الساحرة، الواعية، الناضجة، المفكرة، الحكيمة، التى تفتح لنا أبواب حرية الفكر وجرأة الأسئلة، ولا نفتح لها بابًا واحدًا صغيرًا، أو نافذة واحدة ضيقة، لكى تتنفس على أرضنا.
لست وحدى التى أدين للفلسفة بكل المنح والامتيازات التى أنعم بها، ولولاها كنت الآن «ريشة فى مهب الريح» لا جذور لها، تعصف بها الحياة كما تشاء، وترميها أينما تريد.
بل أقول إن البشرية كلها، إذا كانت قد حققت شيئًا «مفيدًا»، «نافعًا»، «راقيًا»، «عادلًا»، «مبدعًا»، «ممتعًا» للإنسان، فهو كله بفضل الفلسفة، ومولود من رحمها المعطاء.
هناك خطأ شائع، أن الفلسفة رفاهية، وأن فعل التفلسف هامشى غير ضرورى، تقوم به أقلية منعزلة، مستريحة. تمامًا مثل الخطأ الشائع، الذى يروج لمقولة إن الذكورية تكرم المرأة.
لكن التفلسف، شئنا أم أبينا، جزء لا يتجزأ عن الحياة. والفلسفة هى المنارة التى ترشدنا إلى الفهم، وهو ضرورة للتغيير والتقدم والتحرر والسعادة.
بالتفلسف يصبح لكل شىء، مهما يبدو ضئيلًا، قيمة إيجابية، ومتعة خاصة. بالتفلسف يستطيع الإنسان انتزاع المعنى من أشياء، تبدو لغالبية الناس بلا معنى.
جوهر التفلسف هو السؤال عن أصل الأشياء. وإذا كان العلم يبدأ بكلمة «كيف»، فإن الفلسفة تبدأ بكلمة «لماذا».
«لماذا» سؤال غير مرغوب فيه، يكاد أن يكون من المحرمات، والمحظورات. الرجل الذى تسبقه فى كل خطواته، كلمة «لماذا»، يعتبر خطرًا لا بد من تجنبه، والابتعاد عنه، وإن أمكن التخلص منه. والمرأة التى تضع على شفتيها دائمًا كلمة «لماذا» بدلًا من الروج الأحمر، عليها أن تستعد لدفع الثمن.
لكل تجربة بُعد فلسفى. بمعنى أن كل تجربة إنسانية تحوى خصوصية إنسان معين فى زمان ومكان محددين. لكنها فى الوقت ذاته تتجاوز ذاتية وخصوصية ذلك الإنسان، لتلمس آفاقًا إنسانية يواجهها البشر فى كل زمان ومكان. ونقصد بهذا معنى الحياة ومصير الوجود والمرض والحزن والموت والتجارب القاسية، التى يمكن أن تفقدنا توازن العقل وطمأنينة الروح والتصالح مع صفعات الزمن.
إن الرغبة المستمرة فى الفهم تجعلنا ندرك أن التجربة، فى حد ذاتها، ليست «مهمة»، أو «تافهة». القضية هى كيفية النظر إلى التجربة. القضية هى كيف نتجاوز ما هو جزئى وشخصى وعابر، إلى ما هو كلى وغير شخصى وغير عابر.
إذا كنا نريد إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياتنا، ومن العالم المتهاوى حولنا، فإنها وحدها «الفلسفة» هى الحل.
«الفلسفة»، تمنح ولا تفكر فى الأخذ، فى عالم يأخذ كل شىء، ولا يعطى شيئًا، إلا التعاسة وأمراض الجسد والروح، والشراهة لكل الغرائز المتدنية.
بالتفلسف يصبح لكل شىء، مهما يبدو ضئيلًا، قيمة إيجابية، ومتعة خاصة. بالتفلسف يستطيع الإنسان، انتزاع المعنى من أشياء، تبدو لغالبية الناس بلا معنى.
هل نطلب من الإنسان المقهور أن يتفلسف؟.
إذا كان التفلسف هو التأمل العميق، من أجل الفهم، والمعرفة، فإن الإنسان المقهور المظلوم يكون أحوج الناس للتفلسف. بمعنى أنه سيسأل عن وضعه الخاص، لماذا أنا مقهور؟. لماذا أنا مظلوم؟. وبالتالى، يستطيع أن يرتد إلى أصل الأشياء. فيتعمق التساؤل، ويمتد إلى الإنسانية بأكملها، فيصبح التساؤل لماذا القهر والظلم فى العالم؟.
وهنا، ندرك أهمية الفلسفة، فى عملية التغيير.
قال كارل ماركس ٥ مايو ١٨١٨ - ١٤ مارس ١٨٨٣: «الفلاسفة كانوا يقومون بتفسير العالم، لكننى جئت لتغييره».
والتغيير لن يحدث، إلا إذا تحولت النظريات والأفكار الفلسفية، من عقول الفلاسفة، والكتب، والنقاشات داخل الغرف المغلقة، إلى أفعال مادية ملموسة.
وهنا لا بد أن نتذكر أنتونيو جرامشى ٢٢ يناير ١٨٩١ - ٢٧ أبريل ١٩٣٧، مؤسس الحزب الشيوعى الإيطالى عام ١٩٢١، والذى اعتقله بينيتو موسولينى أحد مؤسسى الحركة الفاشية الإيطالية عام ١٩٢٦، حيث كان يؤمن بربط الفلسفة بالعمل والتغيير. وأكد أن هذه المهمة هى دور المثقفين. واشتهر جرامشى بما أسماه «المثقف العضوى»، الذى يسخر قناعاته الثقافية والفكرية من أجل تحدى الظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية، وتفنيد مستمر للخرافات والمسلمات والأعراف المحفورة فى العقول. وحتى إذا لم تقترن الفلسفة بعملية تغيير الواقع، فإنها على الأقل تحفزنا على التفكير الكاشف عن الجذور، وعدم الاكتفاء بالإجابات الموروثة الجاهزة المعلبة.
أتأمل أحوال العالم اليوم، فأجد أن وجود الفلاسفة يكاد أن ينقرض. وأصبحت العلوم وتطبيقاتها فى جميع مجالات الحياة، والصناعة والتكنولوجيا، وما شابهها، هى الأساس. مع أن الفلسفة، هى علم، وفن.
وباعتبارى عاشقة للفلسفة، فإن هذا يؤرقنى. فأى تقدم إنسانى وحضارى، كان بفضل الفلسفة.
وفى مجتمعاتنا بشكل خاص، نجد أن الفلسفة لا وجود لها.
كل شىء «فلسفة»، و«الفلسفة» هى كل شىء.
تحية الصباح تحتاج إلى فلسفة، إعداد فنجان قهوة يحتاج إلى فلسفة، والصمت فلسفة بليغة، السخرية فلسفة عميقة كبرى. وباعتبارى عاشقة للفلسفة، فإن هذا يؤرقنى. فأى تقدم إنسانى وحضارى، كان بفضل الفلسفة.
وفى مجتمعاتنا بشكل خاص، نجد أن الفلسفة لا وجود لها.
كل شىء «فلسفة»، و«الفلسفة» هى كل شىء.
وحتى إذا أردنا هجر الفلسفة، ودفنها بالحياة، والاستغناء عنها، فهذا أيضًا يحتاج الى فلسفة.