ترامب.. بين طموحات MAGA وأوهام تل أبيب!
فى ظل اتفاق وقف إطلاق النار الهش بين إسرائيل وحزب الله فى لبنان، الذى وصفته صحيفة «وول ستريت جورنال» بـ«المهمة المستحيلة» Mission Impossible بناءً على ما تضمنته الوثيقة السرية لاتفاق وقف إطلاق النار، من سماح واشنطن لإسرائيل بطلعات جوية استطلاعية فوق لبنان، بشرط ألا تخترق حاجز الصوت، ما يُعد انتهاكًا للسيادة اللبنانية، إلى جانب عدم قدرة الجيش اللبنانى على السيطرة التامة على جنوب نهر الليطانى، ومنع تحرك أسلحة تخص حزب الله من شمال النهر إلى جنوبه، إضافة إلى الاستفزازات الإسرائيلية التى لن تنقطع فى الجنوب، من خلال استهداف من تسميهم «المشتبه بهم» من أعضاء حزب الله، رغم أنهم على أراضيهم اللبنانية.. فى ظل كل ذلك وغيره، تبدو غزة إشكالية كبيرة فى المعادلة الصعبة للصراع فى الشرق الأوسط، وأمام طموحات رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، والذى يُعوِّل فيه على قدوم الرئيس الأمريكى المُنتخب، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، فى العشرين من يناير المقبل.
لم يكن فوز دونالد ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية ليأتى فى وقت أفضل من هذا بالنسبة لنتنياهو.. فبعد أكثر من ثلاثة عشر شهرًا من الهجوم الذى شنته حماس فى السابع من أكتوبر 2023 تجد إسرائيل نفسها فى حالة من التحسن.. فمنذ بداية العام، اغتالت إسرائيل الكثير من القيادات العليا لكل من حماس وحزب الله، واخترقت صفوفهما، ونفذت ضربات دقيقة فى إيران.. وفى الداخل، بعد أن رأى شعبية نتنياهو تهبط إلى أدنى مستوياتها بعد السابع من أكتوبر، شهد شعبيته تبدأ فى التعافى.. والآن، يرى نتنياهو وحكومته فرصة نادرة لإعادة تنظيم الشرق الأوسط بشكل شامل.. وفى مقاومة الدعوات إلى الهدنة، يتعهد نتنياهو- بحافز قوى من جناحه اليمينى المتطرف- بمضاعفة جهوده فى سعيه إلى تحقيق «النصر الكامل»، مهما طال أمد ذلك.. وبالإضافة إلى مواصلة حرب غزة وإرساء الأساس لوجود أمنى إسرائيلى طويل الأمد فى الجزء الشمالى من قطاع غزة.. يتضمن هذا السرد فرض نظام جديد على لبنان؛ وتحييد وكلاء إيران فى العراق وسوريا واليمن؛ وفى نهاية المطاف، القضاء على التهديد النووى للجمهورية الإسلامية.. ويطمح بعض أعضاء الائتلاف الحاكم الذى يرأسه نتنياهو أيضًا، إلى دفن احتمالات حل الدولتين فى فلسطين إلى الأبد.. وفى الوقت نفسه، يعتقد نتنياهو أن المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى سوف توافق، فى نهاية المطاف، على التطبيع مع إسرائيل.. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يشعر نتنياهو بالثقة فى أن الولايات المتحدة سوف تدعمه.
هذا المخطط مُغرٍ، وحتى أنه يحمل منطقًا معينًا، ففى نهاية المطاف، يُنظَر إلى ترامب فى تل أبيب، باعتباره راعيًا قويًا لإسرائيل، وأقل اهتمامًا بالمعايير والمؤسسات الدولية- والحاجة إلى ضبط النفس- من سلفه الديمقراطى بايدن.. وعلاوة على ذلك، أرسل الرئيس المُنتخب بالفعل خططًا لاستئناف حملة «الضغط الأقصى» على إيران، وإعطاء الأولوية لتوسيع اتفاقيات إبراهام.. ولكن هذه الافتراضات- سواء فيما يتصل بما هو ممكن من خلال قوة السلاح، أو الدرجة التى سيدعم بها البيت الأبيض هذه القوة- مُبالغٌ فيها بشكل خطير.. ذلك أن النجاحات التكتيكية فى ساحة المعركة، فى غياب الترتيبات السياسية أو الدبلوماسية، لا يمكنها أن تجلب الأمن الدائم.. وقد تجد إسرائيل نفسها غارقة فى حروب ساخنة متعددة، وهى مسئولة عن رفاهية عدد كبير من السكان غير المقاتلين فى غزة ولبنان.. وسوف يتطلب كسب دعم العالم العربى، أكثر من هزيمة حماس وحزب الله، وسوف يكون من غير المُحتمل، طالما ظلت الحكومة اليمينية الحالية فى إسرائيل فى السلطة.. وفى الوقت نفسه، فإن ترامب لا يمكن التنبؤ بتصرفاته إلى حد كبير، وقد تجد إسرائيل نفسها معزولة على الساحة العالمية، بعد أن راهنت على دعمه.. وفى سعيه إلى تحقيق النصر الدائم، قد يكتشف نتنياهو أنه جعل وضع إسرائيل أكثر هشاشة.
●●●
تأتى عودة ترامب إلى السلطة، فى وقت يبدو فيه أن الديناميكيات الإقليمية تسير فى صالح إسرائيل.. فبعد أن فاجأها الهجوم الذى شنته حماس، نجحت القوات الإسرائيلية، خلال أكثر من عام من العمليات المكثفة فى غزة، فى تدمير هيكلها القيادى وتدهور قدراتها تقريبًا.. ومع مقتل يحيى السنوار، فإن احتمالات أن ترتكب حماس هجومًا مشابهًا لما حدث فى السابع من أكتوبر، أصبحت معدومة تقريبًا.. وألحقت إسرائيل ضررًا مماثلًا بحزب الله، الذى كان يُخشى منه ذات يوم، باعتباره الذراع المركزية والأقوى فى «محور المقاومة» الإيرانى.. فبالإضافة إلى اغتيال حسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله، إلى جانب جزء كبير من كبار قادة الحزب، أدى التوغل البرى الإسرائيلى فى لبنان إلى تقليص مخزون حزب الله الضخم من الصواريخ والقذائف بشكل كبير.. وفى الوقت نفسه، قامت الطائرات الإسرائيلية بطلعات متكررة فوق سوريا، وحتى قصفت البنية التحتية للحوثيين فى اليمن، على بعد أكثر من ألف ميل.. واستولت وحدات الكوماندوز الإسرائيلية على أصول عالية القيمة فى لبنان وسوريا.. وأخيرًا، هناك إيران نفسها، التى تضررت مجمعاتها العسكرية بشكل كبير، بسبب الضربات التى شنتها إسرائيل فى أكتوبر الماضى، فى عملية شملت ثلاث موجات من الطائرات، عطلت إسرائيل مختبر أبحاث الأسلحة النووية، ومرافق إنتاج الصواريخ الباليستية، وأنظمة الدفاع الجوى، وقاذفات أرض- أرض، عبر عدة مناطق من إيران.
قبل الانتخابات الأمريكية التى تمت فى نوفمبر، جاءت هذه المكاسب العسكرية على حساب الاحتكاك المتزايد مع الولايات المتحدة.. وعلى الرغم من أن إدارة بايدن دعمت إسرائيل عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا- بما فى ذلك أول زيارة على الإطلاق لرئيس أمريكى إلى إسرائيل فى زمن الحرب- إلا أنها أظهرت استياءً متكررًا من الطريقة التى تدير بها إسرائيل الحرب، وكان الرئيس الأمريكى، جو بايدن، غالبًا على خلاف مباشر مع نتنياهو.. كانت هناك اشتباكات مستمرة حول افتقار حكومة نتنياهو إلى التحمس، لمفاوضات وقف إطلاق النار، وإحجامها عن توسيع توزيع المساعدات الإنسانية فى غزة.
بالنسبة لنتنياهو، فإن فوز نائبة الرئيس كامالا هاريس فى الانتخابات كان سيُنذر بمزيد من التوتر مع واشنطن، وربما حتى قيود متزايدة على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل.. وعلى النقيض من ذلك، يتصور نتنياهو وحلفاؤه أن إدارة ترامب القادمة سوف تجلب الدعم الأمريكى غير المشروط لإسرائيل، رغم طموحات ترامب بـ«عودة أمريكا عظيمة مرة أخرى»، أو MAGA.. وقد أعطى هذا الافتراض وقودًا جديدًا للتطلعات التوسعية لليمين الإسرائيلى الصاعد، الذى يأمل فى أنه بمجرد أن يمحو الجيش الإسرائيلى خصومه، قد يدرك كل المعارضين عبثية محاولة هزيمة إسرائيل، ويسعون بدلًا من ذلك إلى تحقيق السلام معها.. وسوف تُعزز إسرائيل قبضتها على الضفة الغربية، ووفقًا لبعض شركاء نتنياهو فى الائتلاف.. وسوف يعيش الجميع- أو على الأقل كل اللاعبين الإقليميين المهمين- فى سعادة دائمة.
أما بالنسبة للآليات، فإن زُمرة نتنياهو تنوى الاستمرار فى طحن حماس حتى تصبح عجينة حقيقية، مهما كان ثمن ذلك من تدمير لغزة.. والآن، يعتمد زعماء إسرائيل أيضًا على دعم ترامب، الذى نصح نتنياهو فى أكتوبر الماضى، «بأن يفعل ما يجب عليه فعله» لإنهاء المهمة.. وفى الوقت نفسه، لم تبذل الحكومة الإسرائيلية أى جهد جاد تقريبًا، للتخطيط للحكم فى غزة بعد الحرب- حيث أعاقت الجهود لإعادة السلطة الفلسطينية- ما يشير إلى أن الجيش الإسرائيلى سيبقى إلى أجل غير مسمى.. ويدفع أعضاء حكومة نتنياهو بقوة، لإعاقة إعادة إعمار غزة، وإعادة بناء المستوطنات اليهودية فى القطاع، بينما يطالبون أيضًا بضم الضفة الغربية.
وتسعى إسرائيل بالفعل إلى الاستفادة من قطع رأس حزب الله فى إعادة تشكيل لبنان على نطاق أوسع.. والواقع أن المخاوف بشأن الكيفية التى قد يتعامل بها ترامب المُتقلب مع هذه القضية- والتى يبدو أنه يعتبرها مصدر إزعاج- تشكل دافعًا لتحريك العملية عبر خط النهاية قبل توليه منصبه.. وتوافق إسرائيل- بتصرف أمريكى- على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 المُعدل- القرار الصادر عام 2006 والذى كان من المفترض أن يُنهى الأعمال العدائية بين حزب الله وإسرائيل، جزئيًا بإجبار حزب الله على الانتقال إلى شمال نهر الليطانى والذى من شأنه أن يُكرس حرية الجيش الإسرائيلى فى العمل فى لبنان إذا انتُهِك الاتفاق.. وتأمل إسرائيل أيضًا، فى أن يتمكن الجيش اللبنانى من تأكيد سلطته الكاملة على جنوب لبنان.
وفى هذا، يرى نتنياهو وحكومته فرصة نادرة لإعادة تنظيم الشرق الأوسط.. والمحور الرئيسى لهذا المشروع الجرىء هو تجنيد حلفاء إضافيين للانضمام إلى فريق إسرائيل.. لقد أجبرت الهجمات الحوثية فى البحر الأحمر الولايات المتحدة على الانضمام إلى المملكة المتحدة، لشن ضربات صاروخية ضد معاقل الحوثيين فى اليمن.. وتدرك الحكومة الإسرائيلية الدعم الدولى الواسع، الذى جاء لمساعدتها بشكل حاسم خلال الهجوم الصاروخى المباشر الضخم، الذى شنته إيران فى أبريل الماضى، عندما كانت المظلة الواقية لإسرائيل تتألف، ليس فقط من فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، ولكن أيضًا، والأهم من ذلك، الأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.. وتأمل إسرائيل فى البناء على هذه السوابق وتوسيع هذا التعاون.. وفى هذا السياق، احتلت الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة مكانة بارزة فى التفكير الإسرائيلى، بشأن مهمة دولية محتملة فى غزة، على الرغم من أن الإماراتيين قالوا إنهم لن يشاركوا إلا إذا تمت دعوتهم رسميًا من قبل الفلسطينيين.. وتشكل إيران مسرحًا آخر، حيث تُفضل إسرائيل عدم العمل بمفردها.. وعلى الرغم من أن سيناريو المواجهة العسكرية المباشرة بقيادة الولايات المتحدة مع إيران- وهو السيناريو الذى من شأنه أن يُتوَّج بتدمير البرنامج النووى لطهران والإطاحة بنظام الملالى- لم يتبنه صناع القرار الإسرائيليون، فإنه مع ذلك يُحرك المناقشة بين أقصى اليمين.
فى الفصل الأخير.. تأمل حكومة نتنياهو فى أن تؤدى هذه التفاعلات إلى دفع القوى الإقليمية الأخرى، إلى التوصل إلى تسوية دائمة مع إسرائيل.. ويتخيلون أن ولى العهد السعودى، الأمير محمد بن سلمان، سيقود حملة الحكام العرب والإسلاميين الذين يصطفون لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.. وبهذا الحساب، سيكون ترامب، الذى زرع علاقات مثمرة مع السعوديين وجيرانهم الخليجيين خلال إدارته الأولى، بمثابة الورقة الرابحة فى يد إسرائيل.. ويراهن المتشددون فى الائتلاف، مثل وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومى، إيتمار بن غفير، على أنه، مع السماح لواشنطن للحكومة الإسرائيلية بالتصرف على هواها إلى حد ما، سيضطر الفلسطينيون- المحرومون من رعاتهم التقليديين وباتت لديهم خيارات قليلة متبقية- إلى الرضوخ لشروطهم.. ومن المرجح أن يعنى هذا حرمانهم من الحقوق المدنية دون الحقوق السياسية، وترك المستوطنات الإسرائيلية دون مساس.
●●●
ولكى نفهم لماذا تتمتع طموحات ائتلاف نتنياهو اليمينى بهذه القوة فى الوقت الحالى، فمن الضرورى أن نفهم كيف ينظر الإسرائيليون إلى ترامب.. يتوقع العديد من الإسرائيليين أن الإدارة الأمريكية الجديدة- التى يديرها رجل أطلق عليه نتنياهو ذات يوم لقب «أعظم صديق لإسرائيل فى البيت الأبيض»- سوف تدعم بلادهم دون قيد أو شرط.. ويُضيف ترشيح ترامب لفريقه فى السياسة الخارجية من المدافعين الأشداء عن إسرائيل، مثل السيناتور ماركو روبيو لمنصب وزير الخارجية، والحاكم السابق مايك هاكابى سفيرًا لإسرائيل، والممثلة إليز ستيفانيك سفيرة للأمم المتحدة، قوة إضافية إلى هذه الفكرة.. وخارج الولايات المتحدة، يأمل المسئولون الإسرائيليون فى أنهم قد يواجهون- ما عدا الضوء الأخضر من ترامب- مقاومة ضئيلة من العواصم الأخرى، فى خططهم لتكثيف الضغوط على إيران.. ففى أغسطس، حذرت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة طهران وحلفاءها من أنها ستحملهم المسئولية إذا اختارت إيران التصعيد أكثر.. كما جاءت إشارات مُطمئنة أخرى من شركاء إسرائيل الإقليميين، الذين يُهددهم أيضًا العدوان الذى ترعاه إيران.. فقد لاحظ المسئولون الإسرائيليون حقيقة مفادها أن اتفاقيات إبراهام صمدت فى وجه العام الماضى من الحرب، وقد تابعوا المحادثات المستمرة بين الولايات المتحدة والسعودية، والتى تشير إلى أنه يمكن إقناع الرياض بالدخول فى صفقة.
إلى جانب هذه الاعتبارات الخارجية، يتعرض نتنياهو لضغوط تدفعه إلى الاستجابة لرغبات ائتلافه، الذى لولا دعمه لفقد منصبه.. ومن بين أبرز هؤلاء سموتريتش وبن غفير، وهما من أصحاب الأيديولوجيات اليمينية الذين كان يُعتقد ذات يوم أنهم متطرفون للغاية فى التعامل مع السياسة التقليدية، ويُطالبان إسرائيل بالاستمرار فى الضغط حتى القضاء على جميع أعدائها.. وفى غضون أسبوع من الانتخابات الأمريكية، أعلن سموتريتش عن أن عودة ترامب تعنى أن «عام 2025 سيكون عام السيادة الإسرائيلية فى يهودا والسامرة»، وهو الاسم الذى يُطلق على الضفة الغربية.. وقد أصبح إصرارهما العنيد، الذى يعيش فى تكافل مع غرائز نتنياهو السياسية للبقاء، عقبة مستمرة أمام أعضاء المؤسسة الأمنية، الذين يُفضلون أن يُنهى الجيش الإسرائيلى هجومه.
إلى حد ما، اكتسبت هذه الحُجج زخمًا فى إسرائيل.. فقد تبنى إجماع متزايد، الرأى القائل إن النهج الذى اتبع قبل السابع من أكتوبر للتعامل مع الأمن الإسرائيلى، مثل «قص العشب»- فكرة أن الجماعات المتطرفة يمكن احتواؤها من خلال مناورات دورية للجيش الإسرائيلى غير كافية.. ويستنتج العديد من الإسرائيليين الآن أنه مع تعبئة المجتمع بالكامل بالفعل، قد تكون الحرب بلا هوادة، هى أفضل طريق لإرساء الأمن والحفاظ عليه.. وفى الأشهر الأخيرة، جاء الزخم الإضافى من النجاحات التكتيكية للجيش الإسرائيلى، والتى أثارت شهية الجمهور الإسرائيلى للمزيد.. وقد قدمت المكاسب الدرامية ضد حماس وحزب الله على مدى الأشهر القليلة الماضية- على الرغم من مسئولى إدارة بايدن، الذين رأوا أن الغزوات البرية فى غزة ولبنان محكوم عليها بالفشل- الدعم لأولئك الذين يريدون تدمير كل أثر أخير لتلك المنظمات، بغض النظر عن التكلفة فى أرواح المدنيين وتأجيل السلام.
وفى ظل تعاسة المعارضة فى الكنيست، البرلمان الإسرائيلى، تمكن نتنياهو من مواصلة الحرب دون الكثير من التحديات.. وقد وُضِع العديد من حراس البوابة المعتادين فى البلاد، بما فى ذلك النائب العام ومدير جهاز الأمن الداخلى الإسرائيلى، شين بيت، فى موقف دفاعى.. وبالنسبة لنتنياهو، تخدم العمليات القتالية المُطولة الهدف المزدوج، المتمثل فى إصلاح الردع الإسرائيلى المكسور، وصرف الانتباه عن أدائه البائس فى السابع من أكتوبر وبعده.. وحتى الاحتجاجات التى نظمتها عائلات الأسرى الإسرائيليين فى غزة، لم تشكل عقبة كبيرة.. فلشهور، كانت هذه العائلات- بتشجيع شخصى قوى من بايدن، كما يقول، شالوم ليبنر، فى Foreign Affairs- تدعو إلى صفقة رهائن، كما تتمتع بدعم شعبى ملموس.. لكن نتنياهو كان قادرًا على الاعتماد على جناحه الأيمن، إلى جانب مقاومة أولئك الذين يعارضون شروط حماس للإفراج عن الرهائن، للتغلب على جيوب المقاومة هذه.. ومع ظهور ترامب، من المفترض أن تفرض الولايات المتحدة ضغوطًا أقل، وليس أكثر، على إسرائيل لإنهاء حملاتها العسكرية.
لكن نتنياهو وحلفاءه يقللون من شأن المشاكل العديدة التى تقوض هذه الطموحات الكبرى.. فمن ناحية، لن تختفى إيران وعملاؤها.. وبالفعل، أظهرت حماس وحزب الله والحوثيون قدرًا كبيرًا من المرونة، وبدأت فى إعادة تنظيم صفوفها.. ولديهم قوة نيران متبقية كبيرة، ويظلون قادرين على قصف إسرائيل يوميًا بمئات الصواريخ والقذائف الباليستية والطائرات بدون طيار، التى تقتل الإسرائيليين وتدمر ممتلكاتهم.. وحتى مع فشل هذه الجماعات فى التغلب الكامل على الدفاعات الجوية الإسرائيلية، فقد نجحت فى إحداث فوضى عامة، ودفع الإسرائيليين باستمرار إلى الملاجئ، وتعطيل تدفق حياة الإسرائيليين.. والأحلام بأن هذه الفصائل قد تستسلم على الفور، هى أحلام خيالية.. ويبدو أن التوقع بأن الإيرانيين واللبنانيين والفلسطينيين واليمنيين سوف يثورون على الفور، ويتخلصون من نير مضطهديهم الوحشيين، أقرب إلى تفكير التمنى منه إلى التحليل المستنير.. وعلى نفس القدر من الأهمية، لن تتحقق أى خطط إسرائيلية ضخمة للمنطقة، دون مساعدة كبيرة من واشنطن.. وفى وقت لم يكن فيه اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة أكثر وضوحًا من أى وقت مضى، فإن الافتراضات الإسرائيلية حول رعاية ترامب الثابتة تبدو ساذجة.. ومن الجدير بالذكر هنا، أن صيحة الرئيس المنتخب للناخبين الأمريكيين العرب والأمريكيين المسلمين، لتسهيل فوزه، قد تُنبئ بإعادة ضبط الأمور- إلى جانب نفور ترامب العام من الحروب والالتزامات العسكرية الأمريكية فى الخارج- تجعل الإدارة القادمة أكثر تشككًا فى الامتيازات الإسرائيلية.
●●●
بعد كل شىء.. أنهى ترامب ولايته الأولى، بإلقاء السباب على نتنياهو، وقد أبان بوضوح تام، أنه لا يرغب فى أن تستمر إسرائيل فى الأعمال العدائية.. عندما التقى نتنياهو فى فلوريدا فى يوليو الماضى، طلب ترامب من نتنياهو إكمال الحرب قبل مغادرة بايدن لمنصبه.. إن مؤيدى بناء المستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية، من بين أكبر مؤيدى ترامب، ولكن قد يتم تذكيرهم قريبًا، بأنه لا يشعر بالتزام كبير تجاه أجندتهم.. ويجدر بنا أن نتذكر أن «السلام من أجل الرخاء»- خطة ترامب القصيرة الأمد للسلام الإسرائيلى الفلسطينى لعام 2020- أيدت إنشاء دولة فلسطينية، وهاجمها زعماء المستوطنين بتهمة «تعريض وجود دولة إسرائيل للخطر».. وقد تكون مواقف ترامب العامة فى السياسة الخارجية، إشكالية بنفس القدر بالنسبة لإسرائيل.. فبعد أن صرح للصحفيين فى سبتمبر بأن «علينا أن نعقد صفقة» مع طهران، واصل التعليق بعد شهر بأنه «سيُوقف المعاناة والدمار فى لبنان».. إن إحجامه المُعلن عن المساهمة بقوات وأموال أمريكية فى الخارج، يُنذر بتغيير كبير بالنسبة لإسرائيل، حيث نشر البنتاجون بطاريات صواريخ مضادة للصواريخ الباليستية متطورة من طراز THAAD إلى جانب مائة جندى أمريكى لتشغيلها.. وحتى إذا لم يسحب ترامب الموارد التى خصصها بايدن لإسرائيل، فإن ميوله الانعزالية قد تنذر بانخفاض الدعم فى المستقبل، وبالتالى تقييد حرية الجيش الإسرائيلى فى المناورة.
وتُظهِر قوى دولية أخرى قدرًا أقل من الصبر تجاه عدائية إسرائيل.. فقد فرضت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة- التى لم تنضم إلى مظلة الدفاع الإسرائيلية فى مواجهة الهجوم الصاروخى الثانى الذى شنته إيران فى أكتوبر- قيودًا على صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، مشيرة إلى مخاوف بشأن الامتثال للقانون الدولى.. و«فى أكتوبر، هددت إدارة بايدن أيضًا بالحد من عمليات نقل الأسلحة، إذا لم تتحسن عمليات تسليم المساعدات الإنسانية إلى غزة، رغم أنها لم تتخذ مثل هذا الإجراء بعد».. كما تدخلت المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فى موضوع سلوكها الحالى، بما فى ذلك موافقة المحكمة الجنائية الدولية الأخيرة على مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب فى غزة.. وقد يكون لهذا الضغط الدولى المتزايد عواقب سلبية، على الاستقلال العملياتى للجيش الإسرائيلى، فضلًا عن قدرة الإسرائيليين على الانخراط فى التجارة والسفر إلى الخارج.
إلى جانب هذه الاعتبارات، هناك الوضع الداخلى فى إسرائيل، والذى قد يعتقد نتنياهو أنه أكثر ملاءمة له مما هو عليه فى الواقع.. فبعد أكثر من عام من الحرب الشرسة، يُدرك الجمهور الإسرائيلى المُنهك أن أكثر من مائة رهينة لا يزالون مسجونين فى غزة، وأن عشرات الآلاف ما زالوا نازحين عن ديارهم.. كما أمضى جنود الاحتياط فى الجيش الإسرائيلى مئات الأيام فى الزى العسكرى، بعيدًا عن أسرهم وسُبل عيشهم.. والغضب الملموس عند أولئك الذين يشعرون به تجاه أولئك الذين يتهربون من هذه المسئولية- وفى المقام الأول، المتدينون المتطرفون «الحريديم»، الذين يمثل ممثلوهم فى الكنيست أعضاء رئيسيين فى ائتلاف نتنياهو- وبالنسبة للعديد من أولئك الذين فى الخدمة الفعلية، فإن الحماس لتنفيذ توجيهات الحكومة يتلاشى.. وفى الوقت نفسه، تورط كبار موظفى نتنياهو فى ابتزاز ضباط فى الجيش الإسرائيلى وتزوير بروتوكولات رسمية للتغطية على مخالفات حكومية.. كما وُجِّهَت اتهامات إلى أحد المتحدثين باسمه، بتعريض الأمن القومى للخطر، للاشتباه فى تزوير وتسريب معلومات استخباراتية سرية، من أجل إضفاء الشرعية على تعنت مجلس الوزراء بشأن صفقة الرهائن.. والآن يتعين على رئيس الوزراء نفسه، بعد أن استنفد كل سبل الاستئناف، أن يواجه المحكمة فى محاكمة فساد خاصة به.. ومن المقرر أن يدلى بشهادته قبل نهاية العام.
فى الخامس من نوفمبر، أقال نتنياهو جالانت- الجنرال السابق والمُحاور الإسرائيلى الأكثر ثقة لإدارة بايدن- واستبدله بسياسى يفتقر إلى المؤهلات العسكرية.. ومن الواضح أن هذه الخطوة كانت سياسية بحتة، وكان المقصود منها استرضاء شركاء نتنياهو فى الائتلاف من الحريديم، الذين هددوا بالانسحاب من الحكومة، ما لم يتم التعجيل بإصدار تشريع لإعفاء تابعيهم من الخدمة فى الجيش، وهو القانون الذى يحتقره جالانت، «إلى جانب جزء كبير من الجمهور الإسرائيلى».. إن الأولوية التى يمنحها نتنياهو للحفاظ على الذات، وعلى الأمن القومى، وحتى التماسك الاجتماعى، تعمل بشكل متزايد على إحباط شريحة واسعة من السكان، الذين يشكلون العمود الفقرى لجيش المواطنين والاقتصاد الحديث فى إسرائيل.
●●●
وعلى الرغم من انتصاراتها التكتيكية فى ساحة المعركة، تواجه إسرائيل خطرًا حقيقيًا.. وسوف تعتمد قدرتها على إنهاء الصراعات الحالية بنجاح إلى حد كبير، على كيفية إدارة نتنياهو للعلاقات مع الرئيس الأمريكى القادم.. وبعيًدا عن أى اعتبارات تتعلق بإعادة انتخابه، قد يكون ترامب أكثر استعدادًا لاتباع غرائزه، الأكثر ارتباطًا بالمعاملات التجارية.. وسوف يحتاج نتنياهو إلى السير على حبل مشدود، والالتفاف على أى ضغائن قد لا يزال ترامب يحملها، والتحرك بمهارة لتحقيق أهدافهما.. ومن عجيب المفارقات، أن العقبة الأشد صعوبة أمام نتنياهو، قد تكون نفس الأحزاب اليمينية التى تُبقيه فى السلطة.
فالقوات الإسرائيلية، فى الوقت الحاضر، تخاطر بالغرق فى عمق غزة ولبنان، وهما المنطقتان اللتان تُظهران، على الرغم من الهيمنة العسكرية الإسرائيلية، علامات التحول إلى مستنقعات على غرار فيتنام.. فقد أعلن حزب الله- قبل وقف إطلاق النار- عن أنها ستهاجم تل أبيب مرة أخرى، إذا استمرت إسرائيل فى مهاجمة بيروت.. وتعهدت إيران بالانتقام العنيف ردًا على انتقام إسرائيل.. وفى الوقت نفسه، تفتقر قوات الجيش الإسرائيلى إلى الجنود الجُدد، ولا تستطيع، فى الوقت الحالى على الأقل، التغلب على النقص الشديد فى الذخيرة الهجومية والدفاعية، دون مزيد من المساعدة.. وفى الوقت الحالى، لا يزال الرهائن- ولا أحد يعرف على وجه اليقين عدد من ما زالوا على قيد الحياة منهم- فى غزة، ولا يستطيع النازحون العودة إلى قراهم فى الشمال، على الرغم من التوغل الإسرائيلى فى لبنان.. وقد أبلغ رؤساء أركان الجيش الإسرائيلى نتنياهو، أنهم حققوا جميع أهدافهم فى غزة ولبنان.. وهم يؤيدون تقديم التنازلات لإعادة الأسرى من غزة وإنهاء الصراع فى لبنان.. ويثق الجيش الإسرائيلى وجهاز الأمن الداخلى فى قدرتهما على عزل إسرائيل عن أعمال العدوان المستقبلية من حماس وحزب الله.. ويتوافق هذا التقييم بشكل مريح، مع تفكير كل من ترامب- الذى يريد الهدوء بسرعة- وبايدن، الذى يرغب فى رؤية وقف إطلاق النار فى غزة والتوصل إلى اتفاق فى لبنان، قبل نهاية رئاسته.
على مستوى ما، يبدو أن نتنياهو يريد أيضًا التحرك فى هذا الاتجاه.. ووفقًا للتقارير، فى أعقاب الانتخابات الأمريكية، فقد عمل الآن على التوصل إلى وقف لإطلاق النار مع حزب الله، كهدية لترامب، وفقًا للمنطق، فإن القيام بذلك الآن من شأنه أن يسمح لإسرائيل بتركيز جهودها على التهديد الأكثر خطورة من إيران وتجنيد ترامب- الذى انسحب من الاتفاق النووى الإيرانى عام 2018- لوضع أقدام طهران على النار.. لكن أى خطوة من هذا القبيل من جانب نتنياهو، ستُواجه معارضة من جانب سموتريتش وبن غفير، اللذين يتدخلان باستمرار فى مفاوضات الرهائن، وقالا إنهما سيطيحان برئيس الوزراء إذا وافق على أى هدنة.. إن مناوراتهما لفرض السيطرة الإسرائيلية طويلة الأمد على غزة والضفة الغربية، تتعارض مع أى جهود لتقليص بصمة الجيش الإسرائيلى فى تلك المناطق، وقد تضع إسرائيل نتنياهو على مسار تصادمى مع ترامب.
وسوف يشعر الرئيس المنتخب، ترامب، بالإحباط على نحو مماثل، عندما يكتشف أن إحراز أى تقدم مع المملكة العربية السعودية سيكون مستحيلًا، وربما طيلة مدة الحكومة الإسرائيلية الحالية.. ولن يلتزم سموتريتش وبن غفير أبدًا بدفع الحد الأدنى من الثمن الذى تُطالب به الرياض- أى مسار إلى إقامة دولة فلسطينية.. ومن وجهة نظرهما، ورغم أن اتفاقيات إبراهام لطيفة، فلا شىء يضاهى ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على «أرض الآباء» بالكامل.. وعلاوة على ذلك، قد لا يكون لدى المملكة العربية السعودية ميل يُذكر إلى استعداء إيران، كما يتضح من الاستقبال الودى الذى حظى به وزير الخارجية الإيرانى، عباس عراقجى، من قِبَل الدول العربية- بما فى ذلك الأردن ومصر وقطر وعمان، فضلًا عن المملكة العربية السعودية.
سوف يضطر نتنياهو إلى قراءة الأوراق بشكل صحيح.. فهو يحتاج إلى اغتنام الفرصة ووقف حروب إسرائيل، قبل أن تبدأ فى التسبب فى ضرر أكبر من النفع، بل وربما خلق خلاف مع ترامب.. وإذا تمكَّن نتنياهو من الوقوف فى وجه شركائه فى الائتلاف، فقد يظل قادرًا على إنهاء الصراعات، وترك المكتب البيضاوى نظيفًا أمام ترامب الذى طلب ذلك.. ولكن الوقت قصير.. وإذا اختار نتنياهو، بدلًا من ذلك إضاعة الوقت، فسوف يواجه المهمة المستحيلة، المتمثلة فى محاولة إرضاء ترامب، وفى الوقت نفسه، استرضاء سموتريتش وبن غفير.. وهنا، ينبغى على إسرائيل أن تستعد لمزيد من الاضطرابات فى المستقبل.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.