رسالة بوتين للغرب.. ونهايات الحرب فى أوكرانيا
من نواحٍ كثيرة، يبدو أن الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، يفوز.. القوات الروسية تمضى قدمًا فى أوكرانيا.. الرئيس الأمريكى المنتخب، دونالد ترامب، يعود إلى البيت الأبيض.. ينتشر التعب من الحرب فى جميع أنحاء أوروبا.. وعززت القوات الكورية الشمالية صفوف الجيش الروسى.. ومع ذلك، بدا بوتين يوم الخميس الماضى مُرهقًا ومُهددًا ومظلومًا، عندما أخذ تهديداته العدوانية ضد خصومه الغربيين إلى مستوى جديد.. وحتى مع احتمال وجود إدارة أمريكية أكثر ودية، أصبحت قاب قوسين أو أدنى من البيت الأبيض، فقد وجد بوتين نفسه يكافح من جديد، لمواجهة ربما أكبر فشل فى حربه: عجز روسيا عن ردع الغرب عن تقديم كميات هائلة من المساعدات العسكرية لأوكرانيا.. ونتيجة لذلك، فإن بوتين يُقرب روسيا من الدخول فى صراع مباشر مع الولايات المتحدة، أكثر من أى وقت مضى منذ عقود.. وأعلن مساء الخميس، أن روسيا ضربت أوكرانيا بصاروخ جديد متوسط المدى، واحد بقدرات نووية «أوربيشنك»، فى خطاب متلفز صوَّر الغرب، كمعتد لم يترك لموسكو أى خيار سوى الرد.. ويوم الجمعة، قال بوتين فى اجتماع لقادته العسكريين إن روسيا ستواصل استخدام الصاروخ الجديد، والبدء فى الإنتاج المنتظم له.
بعد شهرين من الآن، يمكن لرئاسة ترامب الثانية، أن تمنح بوتين الفرصة لإبرام اتفاق سلام مع أوكرانيا، يُمكن أن يُصوره على أنه انتصار.. ولكن حتى ذلك الحين، يقول الأشخاص الذين يدرسون فكر الكرملين، إن بوتين عازم على إيصال رسالة تقشعر لها الأبدان، مفادها أن أمريكا تخاطر بحرب نووية، بينما توسّع دعمها لكييف.. «لقد أظهر الجانب الروسى قدراته بوضوح»، قال ديمترى بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين.. «إن ملامح المزيد من الإجراءات الانتقامية، إذا لم تُؤخذ مخاوفنا فى الاعتبار، فقد تم تحديدها بوضوح تام».. ومن خلال التعبير عن الحالة المزاجية، نشر أحد أكثر الصقور الأمنية نفوذًا فى روسيا، وهو عالم سياسى، مقالًا يُحذر فيه، من أن روسيا تخاطر «بتمزيق الهزيمة بين فكى النصر»، وقال إنه لكى ينتصر الكرملين على الغرب، فإنه يحتاج إلى تصعيد خطر استخدام الأسلحة النووية: «لقد بدأت روسيا فى الفوز فى الحرب ضد العدوان الغربى فى أوكرانيا».. هكذا كتب السيد كاراجانوف «لكن من المبكر والخطير الاسترخاء.. المعركة بدأت للتو».
منذ أن شن غزوه لأوكرانيا فى فبراير 2022، كان بوتين حريصًا فى الغالب، على تجنب الصراع العسكرى المباشر مع الناتو، حتى عندما ضخَّت الدول الغربية أسلحة حديثة فى أوكرانيا، مما أسفر عن مقتل عشرات الآلاف من الجنود الروس.. لكنه قال يوم الخميس، بأكثر العبارات وضوحًا حتى الآن، إنه مستعد لمثل هذا التصعيد: قال إن روسيا «يحق لها» ضرب المنشآت العسكرية للدول «التى تسمح باستخدام أسلحتها ضد منشآتنا».. ويبدو السبب الرئيسى لهذا التحول واضحًا: قرار الرئيس بايدن الأخير بالسماح لأوكرانيا بضرب عمق الأراضى الروسية، بصواريخ مُقدَّمة من الولايات المتحدة يبلغ مداها 190 ميلًا.. تبع ذلك قرار مماثل من قبل الحكومة البريطانية.. وفى حين أن مخزون أوكرانيا الحالى من الصواريخ الغربية لا يكفى لتغيير مسار الحرب، يبدو أن بوتين يخشى أن يزود الغرب أوكرانيا بصواريخ أقوى وأطول مدى فى المستقبل.. لذا، فقد قال: «من تلك النقطة فصاعدا»، فى إشارة إلى الهجمات الصاروخية الأوكرانية الأسبوع الماضى، «اتخذ الصراع الإقليمى فى أوكرانيا الذى أثاره الغرب، عناصر ذات طبيعة عالمية».
لكن بعض المحللين يرون سببًا ثانيًا يجعل بوتين يشعر بأنه مستعد لتحمل مخاطر أكبر الآن: عودة ترامب، التى تلوح فى الأفق إلى البيت الأبيض.. بعد كل شىء، تتوافق تهديدات بوتين بشأن حرب «عالمية»، مع خطاب ترامب حول بايدن والمخاطرة بالحرب العالمية الثالثة.. لذا، فإن بوتين- الذى أشاد بسرعة بترامب بعد فوزه فى الانتخابات- قد يعتقد أن اتخاذ خطوات أكثر عدوانية الآن، يمكن أن يساعده فى التوصل إلى صفقة مواتية، بمجرد تنصيب ترامب.. «لا أرى أنه قلق بشأن تدمير فرصه فى التوصل إلى اتفاق مع ترامب، بل على العكس تمامًا»، قالت تاتيانا ستانوفايا، وهى زميلة بارزة فى مركز كارنيجى روسيا- أوراسيا.. التى أضافت: «ترامب اتخذ موقفًا مفاده أن سياسات بايدن تؤدى إلى حرب عالمية ثالثة، وما ورد من فعل بوتين يؤكد ذلك».. وقد قاوم بايدن منذ فترة طويلة السماح لأوكرانيا بضرب عمق روسيا بالصواريخ الأمريكية، مما أثار إحباط أوكرانيا الكبير، وسط قلق بشأن رد بوتين.. وفى سبتمبر، قال بوتين إن مثل هذه الخطوة ستضع بلاده «فى حالة حرب» مع الناتو.. ولأول مرة يحدد «خطًا أحمر» مُحددًا يحذر الغرب من عبوره.. لكن إدارة بايدن عبرت ذلك، مستشهدة بتصعيد بوتين للحرب هذا الخريف، من خلال جلب الآلاف من القوات الكورية الشمالية إلى القتال.
ومع أن مسئولى إدارة بايدن يقدرون أن خطر التصعيد من قبل بوتين تضاءل مع انتخاب ترامب.. لكن فى موسكو، يُشكك البعض فى هذه الفكرة.. إذ قال مسئول روسى كبير سابق، لا يزال مقربًا من الكرملين: «لا أحد يعرف» ما إذا كان التوصل إلى اتفاق مع ترامب ممكنًا حقًا، «لقد ظهر بالفعل تهديد بعد قرار بايدن، لذلك علينا الرد».. وقال ديمترى ترينين، المتخصص المُتشدد فى السياسة الأمنية فى الكلية العليا للاقتصاد فى موسكو، إن المسئولين الأمريكيين «يبالغون فى تقدير أنفسهم وأهمية أجندتهم للآخرين»، مشيرًا إلى أن بوتين ليس قلقًا جدًا بشأن مَن يمسك بالسلطة فى واشنطن، «بوتين لديه جدوله الزمنى واستراتيجيته، وسيتبعهما».. ومع ذلك، أشار بوتين مرارًا وتكرارًا، إلى أنه مهتم بتسوية تفاوضية، طالما أنه قادر على الاحتفاظ بالأراضى التى استولت عليها روسيا فى أوكرانيا، وانتزاع تنازلات سياسية، مثل ضمان عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو.. وكثيرًا ما أشار إلى مسودة معاهدة، توصل إليها المفاوضون الأوكرانيون والروس فى الأشهر الأولى من الغزو عام 2022، والتى كانت أوكرانيا ستُعلن فيها نفسها «محايدة بشكل دائم» وتقبل القيود المفروضة على حجم جيشها.
قد تكون روسيا «ساخرة ومتشككة للغاية»، بشأن احتمالات التوصل إلى اتفاق بعد تولى ترامب منصبه، كما قال صموئيل تشاراب، كبير علماء السياسة فى مؤسسة راند، «لكنهم ما زالوا يدركون أنهم بحاجة إلى صفقة فى النهاية».. ويؤكد المسئولون الأوكرانيون والغربيون أن بوتين يبحث ببساطة عن صفقة بشروطه فقط، وهو ما يرقى إلى الاستسلام.. وقد سبق وانهارت مفاوضات عام 2022 بين روسيا وأوكرانيا، وسط خلافات حول كيفية حماية الغرب لأوكرانيا من غزو روسى آخر فى المستقبل.. ومن المرجح أن تلوح هذه القضية- شكل «الضمانات الأمنية» لأوكرانيا- كعامل أكثر تعقيدًا فى أى محادثات متجددة، بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وهى أكثر أهمية من مقدار الأراضى الأوكرانية المسموح لروسيا بالاحتفاظ بالسيطرة عليها.
وحتى ذلك الحين، تبدو الظروف مهيأة لمزيد من التصعيد، لأن روسيا وأوكرانيا تتنافسان على مواقف تفاوضية أفضل، قبل أن يتولى ترامب منصبه، ولأن بوتين يبدو مصممًا على ردع المزيد من التوسع فى المساعدات الغربية لأوكرانيا، التى يمكن أن تجلب القتال إلى عمق الأراضى الروسية.. وقال تشاراب: «نحن فى دوامة تصعيدية»، وأضاف أنه بصرف النظر عن أى تحضير للمفاوضات المستقبلية، فإن هذه الدوامة «هى نوع من الديناميكية الخاصة بها».
●●●
ومع كل ما سبق، تظل هناك أربعة سيناريوهات لنهاية الحرب فى أوكرانيا، تقدم تقييمًا للتحديات السياسية والاقتصادية المقبلة، قام عليها معهد Chatham House.. تقول: بما أن الحرب وجودية لكل من أوكرانيا وروسيا، فهناك أسباب قوية للاعتقاد بأنها قد تستمر لفترة طويلة، على الرغم من التعب على كلا الجانبين، والقدرة المحدودة للدول الغربية، على الاستمرار فى تجهيز وتمويل المجهود الحربى لأوكرانيا على المستوى الضرورى.. وبينما يسيطر فلاديمير بوتين على أدوات السلطة، فمن الصعب أن نرى إعادة معايرة لأهداف موسكو الاستراتيجية فى أوكرانيا.. لقد ألزم روسيا بتوسيع مكاسبها الإقليمية فى دونباس، و«نزع السلاح» من أوكرانيا، وتغيير قيادة كييف أو ما يسميه «نزع النازية» وإجبارها على قبول الحياد.. إلا أنه وبعد ما يُقارب الثلاث سنوات من الحرب الروسية الشاملة على أوكرانيا، هناك الآن أربعة سيناريوهات رئيسية محتملة..
■ حرب طويلة، وصراع استنزافى، يمنح كل جانب إمكانية استنزاف الجانب الآخر.. تواصل فيه أوكرانيا القتال ومحاولة إعادة البناء فى نفس الوقت، بينما تتكبد خسائر بشرية أكبر على ساحة المعركة والهجرة.
■ الصراع المُجمَّد، أى هدنة من شأنها أن تعمل على استقرار خط المواجهة، وتسمح لكلا الجانبين بإعادة تجميع قواتهما المستنفدة، وإعادة بنائها، استعدادًا للمزيد من القتال.. ولن يكون هناك اتفاق بشأن الوضع العسكرى المستقبلى لأوكرانيا أو حجم قواتها المسلحة.. بل ستظل أوكرانيا ملتزمة رسميًا بهدف الاستعادة الكاملة لحدودها لعام 1991.
■ النصر لأوكرانيا، بتغيير فى السياسة الغربية، يؤدى إلى قيام الحلفاء بتوفير الأسلحة والدعم العسكرى، الذى من شأنه أن يسمح لأوكرانيا بإجبار الجيش الروسى على العودة إلى خط ترسيم الحدود فى 23 فبراير 2022 على الأقل.. وهنا، فإن التراجع الروسى، خصوصًا إذا تعرضت سيطرة موسكو على شبه جزيرة القرم للخطر، يمكن أن تكون له عواقب سياسية وخيمة فى روسيا نفسها، مما قد يؤدى ربما إلى فترة من عدم الاستقرار، تليها إصلاحات جذرية، وتطبيع العلاقات مع الغرب فى نهاية المطاف.. إن فترة مطولة من التأمل الروسى، من شأنها أن تمكن أوكرانيا من إجراء إصلاحات عميقة وتسريع أوروبة مؤسسات الدولة، مما يؤدى إلى احتمال واقعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى وتحسين وضعها الأمنى العام، ربما مع إمكانية الاندماج السريع فى حلف شمال الأطلسى.
■ هزيمة أوكرانيا.. إذ إن قبول أوكرانيا شروط الاستسلام الروسية «تغيير الحكومة، ونزع السلاح، والحياد» والتقسيم الفعلى، بما فى ذلك الاعتراف بالخسائر الإقليمية لروسيا، لن يكون ممكنًا إلا فى حالة حدوث انسحاب كبير للدعم الغربى لأوكرانيا وانهيار عسكرى. ومن الناحية النظرية، قد يُجبر هذا على تولى حكومة «براجماتية» السلطة فى كييف، مستعدة لقبول تنازلات إقليمية كبيرة لإنقاذ أوكرانيا من المزيد من إراقة الدماء والدمار.. ومع ذلك، فإنه سيخلق خطرًا كبيرًا لاندلاع تمردات لا مركزية فى الأراضى التى ضمتها روسيا وإطالة أمد عدم الاستقرار فى بقية البلاد.
●●●
سيعتمد مدى نجاح كل سيناريو على ثلاثة عوامل: الأول، قدرة واستعداد حلفاء أوكرانيا الغربيين للحفاظ على الدعم المالى والعسكرى لها، وتوفير ضمانات أمنية طويلة الأجل.. الثانى، قدرة أوكرانيا على الحفاظ على الدعم الشعبى للحرب المستمرة، مع حشد ونشر القوات بكميات كافية.. الثالث، فى حالة روسيا، استمرار غياب معارضة الحرب من جانب النخب والمجتمع ككل.. وعلى الرغم من التفاوت الواضح فى حجم الجيش والقوة الاقتصادية وإمكانات التعبئة، التى جعلت أوكرانيا الطرف الأضعف فى هذه الحرب، لا تزال البلاد تحتفظ بميزة حيوية واحدة على خصمها.. إن الأوكرانيين مدفوعون بما يقاتلون من أجله.. لقد حشدوا كمجتمع للدفاع عن استقلالهم.. وعلى النقيض من ذلك، يقاتل الجنود الروس أكثر من أجل المال وأقل من أجل بلدهم.. وفى حين ينظر الكرملين إلى الحرب على أنها وجودية بالنسبة لروسيا، لا يوجد دليل على أن هذا الرأى يحظى بدعم واسع النطاق فى المجتمع الروسى، حتى لو اعتقدت الأغلبية أن «العملية العسكرية الخاصة» مبررة.. وعلى الرغم من أن روسيا لديها موارد أكبر بكثير لدعم حرب طويلة، إلا أن نهج موسكو الحذر فى التعبئة، والذى يتضح من تجنيدها للجنود للحرب من المقاطعات بشكل أساسى، بدلًا من المدن الكبرى.. وإحجامها الواضح عن التعبئة بشكل أكبر- يشير إلى إدراك الكرملين لوجود حدود لاستعداد الروس للتجمع حول العلم، بدليل أن غزو القوات الأوكرانية لمنطقة كورسك فى أغسطس 2024، لم يؤد إلى موجة من الوطنية، ولم تكن هناك فيضانات من المتطوعين الراغبين فى طرد الغازى.
ومثل روسيا، فإن مرونة أوكرانيا مبنية على قدرة المجتمع على التنظيم الذاتى، المستمدة من الروابط الأفقية القوية فى بنيتها الاجتماعية.. كانت هذه الجودة بمثابة مضاعف قوة كبير، ولديها القدرة على البقاء كذلك، على الرغم من أن أوكرانيا تواجه تحديات واضحة فى حشد وتدريب عدد كافٍ من الجنود لإبقاء الجيش يقاتل بشكل فعال.. يمكن أن تكون قدرة المجتمع على سد الثغرات التى خلفتها الهياكل الحكومية أيضًا عاملًا حاسمًا فى دفع الإصلاحات اللازمة لرفع جودة مرونة أوكرانيا بشكل عام، وجعلها مستدامة على المدى الطويل.. إن العمليات الحزبية الأوكرانية الجارية فى الأراضى التى احتلتها روسيا منذ بداية الغزو الكامل، هى تذكير بأن المقاومة المسلحة للحكم السوفيتى فى الأجزاء الغربية من البلاد- التى تم دمجها فى الاتحاد السوفيتى فى نهاية الحرب العالمية الثانية- استمرت حتى منتصف الخمسينيات.. حتى لو هُزمت أوكرانيا رسميًا، فقد تظل هذه حربًا طويلة جدًا.
●●●
محددات السلام بالنسبة لأوكرانيا، تحكمها خمسة متغيرات رئيسية ستحدد طبيعة أى ترتيب للسلام.. الأول، مقدار الأراضى التى ستسيطر عليها؛ الثانى، مدى الضرر الاقتصادى؛ الثالث، مستوى الخسارة السكانية؛ الرابع، مستوى الأمن الذى يمكنها الحفاظ عليه؛ والخامس، مستوى الاستثمار الذى يجب أن تقوم به فى دفاعها لردع المزيد من العدوان.. فى الوقت الحاضر، من السابق لأوانه القول ما إذا كانت الدول الغربية ستوافق فى النهاية على ضمان أمن أوكرانيا.. فى الوقت الحالى، لا يوجد لدى حلف شمال الأطلسى ولا الاتحاد الأوروبى تعريف للنصر أو رؤية طويلة الأجل لكيفية توفير أمن أوكرانيا.. وتنطبق جميع المتغيرات الخمسة على النتائج المحتملة للحرب.
سيتطلب سيناريو «الحرب الطويلة» من أوكرانيا مواصلة القتال بموارد محدودة، أثناء محاولة إعادة بناء البنية التحتية التالفة، ودعم الاقتصاد ونظام الرعاية الاجتماعية.. ولن يكون رفع الأحكام العرفية ممكنًا فى ظل هذه الظروف، ما لم يصبح القتال أقل حدة على مدى فترة طويلة، وربما تحت تأثير الأحداث الداخلية فى روسيا، أو إرسال موسكو قوات إلى مسرح آخر، كما فعلت فى سوريا عام 2015، وهى الخطوة التى بدا أنها صرفت انتباه بوتين عن التدخل الفورى فى أوكرانيا.. وستحكم «الحرب الطويلة» على أوكرانيا، بمزيد من تدمير رأسمالها الاقتصادى والبشرى والاجتماعى، وتحد من إمكانيات النمو الاقتصادى، وتُبطئ الإصلاحات اللازمة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى.. إن الجمع بين إرهاق المجتمع وإفقاره المتزايد، والتوترات بين السلطات المدنية والعسكرية بشأن خيارات الموارد- وسط توتر العلاقات مع الشركاء الغربيين بسبب دعمهم المحدود- يمكن أن يخلق كوكتيلًا سياسيًا خطيرًا.. ويخشى بعض المعلقين الأوكرانيين أن يؤدى هذا الوضع إلى الفوضى والحرب الأهلية، كما حدث سابقًا فى تاريخ أوكرانيا.. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو المُظلم غير مرجح، لأن الغالبية العظمى من الأوكرانيين يُحمِّلون روسيا مسئولية الحرب.. وحتى الآن، تحدت هذه الوحدة فى المجتمع، الجهود الروسية لزعزعة استقراره من الداخل.. سينجح حلفاء أوكرانيا الغربيون فى الحفاظ على الإجماع، على مواصلة تقديم المساعدة العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا، لكن المستويات الإجمالية للدعم، ستنخفض تدريجيًا بسبب ضغوط الإنفاق الأخرى.. وبشكل متناسب، سينخفض الدعم الأمريكى بينما سيزداد الدعم الأوروبى.
فى مواجهة الاختيار بين وقف إطلاق النار، الذى قد يمنح مهلة لبضع سنوات، أو ما يُطلق عليه «صراع مُجمَّد»، وبين حرب استنزاف مستمرة.. قد يختار العديد من الأوكرانيين الخيار الأول بشكل مفهوم، إذا اعتقدوا أن الدعم الغربى يتضاءل، ولا يوجد تقدم فورى فى ساحة المعركة.. وإذا كان بوتين ينوى حقًا إعادة بدء المفاوضات، فإن التحدى الذى يواجهه فولوديمير زيلينسكى، هو بيع وقف إطلاق النار محليًا.. سيحتاج إلى أن يشرح للبلاد لماذا سيكون ثمن وقف الأعمال العدائية أعلى من تكاليف الاستمرار فى القتال، مع تناقص الإمدادات من الأسلحة، وعدم اليقين المتزايد بشأن النوايا الحقيقية للحلفاء الغربيين.. ومن المرجح أن يكون الثمن الذى يتعين دفعه هو قبول خط المواجهة فى ذلك الوقت، والحاجة إلى التخلى فى الأمد القريب إلى المتوسط، عن أى احتمال لاستعادة الأراضى التى تم التنازل عنها بعد بدء الغزو الشامل.
ومن شأن مثل هذه الخطوة أن تثير اتهامات بالهزيمة فى الجيش والأجهزة الأمنية وقطاعات كبيرة من المجتمع.. وسيكون هذا مفيدًا لموسكو، لأنه سيضعف بشدة شرعية زيلينسكى ويُقسِم الجمهور.. من شأنه أن يُبرز الإحباط العلنى من القرارات التى أدت إلى خسائر عسكرية فادحة، بما فى ذلك الدفاع عن باخموت وأفديفكا.. ستمتد الانقسامات حول هذه القضية إلى حلفاء أوكرانيا.. ستؤدى الشكاوى فى كييف من أن بعض الدول الغربية أجبرت أوكرانيا على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، إلى زيادة التوترات داخل حلف شمال الأطلسى، وإثارة المخاوف بشأن قدرة التحالف على توفير دفاع موثوق به عن دول البلطيق وأجزاء أخرى من أوروبا الوسطى.. ستكون لقبول اتفاق وقف إطلاق النار آثار كبيرة على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التى ستتبع رفع الأحكام العرفية، على افتراض صمود وقف إطلاق النار.
إذا سعى زيلينسكى إلى إعادة انتخابه، فسيواجه تحقيقًا صارمًا حول سبب عدم استعداد البلاد للغزو، ولماذا لم يتم إخلاء ماريوبول، على سبيل المثال، ولماذا تمكنت القوات الروسية من الاستيلاء على مساحات شاسعة من منطقة خيرسون فى بداية الحرب الشاملة.. لن يكون من الصعب التنبؤ بالغضب العام الذى سيؤدى إلى تحقيقات جنائية مع هؤلاء القادة المدنيين والعسكريين المسئولين عن دفاع البلاد، بما فى ذلك ربما زيلينسكى نفسه.. إن تصورات الهزيمة من شأنها أن تُثبط عزيمة الجيش وتثبط عزيمة المجتمع، وتثير اتهامات بخيانة الغرب لأوكرانيا، والتى من شأنها أن تضخمها الدعاية الروسية.. ومن المُسلم به أن زيلينسكى وجنرالاته قد يجادلون مبررين بأن الحلفاء الغربيين فشلوا فى توفير الأسلحة التى تحتاجها أوكرانيا عندما احتاجت إليها، وأن الجيش الروسى كان قادرًا على بناء دفاعات فى ساحة المعركة، حتى أن الجيوش الغربية المُدربة والمُجهزة جيدًا كانت ستكافح للتغلب عليها.
ربما لا تعنى مثل هذه التفسيرات العادلة شيئًا فى جو من التوبيخ الشرس، الذى من شأنه أن يجلب لاعبين سياسيين جددًا إلى الواجهة.. لا شك أن سيناريو «الصراع المجمد» من شأنه أن يُثير تساؤلات خطيرة فى المجتمع الأوكرانى، حول التزام الحلفاء الغربيين بمواصلة دعم أوكرانيا، وصدق دعوة الاتحاد الأوروبى لأوكرانيا للانضمام إلى المنظمة.. كما أن تصورات الهزيمة من شأنها أن تجلب شعورًا واسع النطاق بخيبة الأمل فى آفاق البلاد، وتثير المزيد من الهجرة.. لن تعانى تقييمات زيلينسكى الشخصية بشكل كبير، كما هو مذكور أعلاه فحسب، بل سيتوقف حزبه «خادم الشعب» عن الوجود كقوة سياسية.. سيكون من الصعب أن نتخيل أن بوتين لن يستخدم توقف القتال لمحاولة إعادة بناء الجيش الروسى، الذى عانى من خسائر فادحة فى المعدات والأفراد فى أوكرانيا، بينما يسعى أيضًا إلى تخفيف العقوبات.. يمكن أن تصبح قضايا العقوبات والتعويضات وجرائم الحرب مثيرة للجدل فى أوكرانيا، إذا حاول الحلفاء الغربيون إجبارهم على تحسين العلاقات مع موسكو.. سيحتاج الإنفاق الدفاعى إلى البقاء مرتفعًا لإعداد البلاد لاستئناف الأعمال العدائية المحتملة، وقد يؤدى إلى خلافات مع الشركاء الغربيين القلقين من أن أوكرانيا قد تثير عن غير قصد المزيد من الصراع مع روسيا.. سيكون الشركاء الغربيون منقسمين حول كيفية إدارة العلاقات مع روسيا.. قد يدعو البعض إلى استمرار سياسات الاحتواء، بينما يريد البعض الآخر تهدئة التوترات ومحاولة إعادة العلاقات.
فى حين سيتم تتويج زيلينسكى وفريقه كأبطال فى الخارج، فإن «النصر» لن يضمن إعادة انتخاب زيلينسكى، إذا شعر المجتمع أن تعزيز السلام يتطلب نوعًا مختلفًا من القادة.. يُقال إن زيلينسكى قلق من أنه قد يُكرر مصير ونستون تشرشل، كزعيم ملهم فى زمن الحرب أنقذ البلاد، لكنه خسر الانتخابات التى تلت ذلك.. إن إلحاق الهزيمة بالجيش الروسى من شأنه أن يمنح الأوكرانيين دفعة ثقة هائلة، ويشجع على عودة اللاجئين ويزيد بشكل كبير من احتمالية حصول أوكرانيا على ضمانات أمنية موثوقة من شركائها الغربيين.. إن إعادة فتح موانئ البحر الأسود من شأنها أن تعيد إمكانات التصدير للبلاد، وتساعد فى تشجيع الاستثمار فى إعادة الإعمار.. إن «النصر» فى ساحة المعركة لن يضمن بأى حال من الأحوال التقدم فى تفكيك النظام.. على العكس من ذلك، قد يؤدى ذلك إلى تعزيز نموذج الحكم الراسخ، ولكن مع وجود مجموعة جديدة من اللاعبين الاقتصاديين.. ومع ذلك، فإن عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى ستكون أداة فعالة للغاية، لمواجهة مثل هذه الجهود، وكسر قبضة الشركات الكبرى على السياسة والنظام الحكومى.. إن استعادة الأراضى التى احتُلت لفترة طويلة، ستكون مهمة صعبة بشكل خاص، من حيث إقناع اللاجئين بالعودة وإزالة المتعاونين من الإدارات المحلية.. ومن شأن «النصر» أن يعيد ثقة الدول الغربية فى قدرتها على مواجهة التهديدات من الدول الاستبدادية لقيمها ومؤسساتها، حتى لو تم دفع الثمن بدماء الأوكرانيين.
أما «هزيمة أوكرانيا»، فستكون لهذه الهزيمة عواقب مدمرة على قدرة أوكرانيا على البقاء كدولة مستقلة، وقد تؤدى إلى تفتت البلاد، مدفوعًا جزئيًا بحركة الأشخاص النشطين اقتصاديًا من الأراضى المحتلة إلى بر الأمان فى غرب البلاد أو فى الخارج.. وما لم تتمكن أوكرانيا من استعادة هذه الأراضى فى فترة زمنية قصيرة نسبيًا، فإن نزوح هذا الجزء من المجتمع قد يصبح دائمًا.. إن انهيار القوات المسلحة من شأنه أن يسهم فى إضعاف السلطة المركزية فى كييف، بشكل عام، ويزيد من خطر النتيجة المروعة المتمثلة فى الفوضى.. ومن شأن «الهزيمة» أن تشجع على تطوير التمردات الصغيرة ضد الحكم الروسى، واستخدام العنف ضد القادة الأوكرانيين المستعدين للتعاون مع موسكو، على غرار ما حدث بالفعل فى الأراضى التى تحتلها روسيا منذ عام 2014.. وفى الوقت نفسه، سيكون هناك خطر انضمام أعداد كبيرة من الأوكرانيين إلى صفوف الجيش الروسى، إما لأنهم سيضطرون إلى الانضمام من قبل سلطات الاحتلال، أو لأنهم سيختارون الخدمة طواعية بسبب وضعهم الاقتصادى المزرى.. ومن شأن انخفاض عدد السكان وانهيار الخدمات العامة فى بعض المدن وشلل الاقتصاد أن يخلق وضعًا شديد التقلب قد يجتذب بعض الدول المجاورة لحماية حدودها ومنع انتشار العنف.. وسوف تكون السلطة الأخلاقية للولايات المتحدة وحلفائها فى حالة يرثى لها، عندما تفكر بلدان فى أجزاء أخرى من العالم فى معنى الضمانات التى تقدمها دول أعضاء مجموعة السبع لدعم دولة فى محنة «طالما استغرق الأمر ذلك».. كما سيتم اختبار تماسك حلف شمال الأطلسى بشدة، مع مواجهة دول أعضاء أوروبا الوسطى تدهورًا ملحوظًا فى وضعها الأمنى، وعدم اليقين بشأن التزام الولايات المتحدة بالدفاع المتبادل.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.