مَشهدٌ
يحفر بثقل كِفله إلى باطن الأرض، ماذا يجد فى نظركم، ذهبًا، فضة، ينظر إلى الصخرة ولا هى تريد أن تتزحزح، قاسية، حتى أنها لم تتحلل بفعل التعرية والانجراف. «غريب» قال ولد عابد. عمامته مستحاثة نبتت بين الصخور الكرانيتية، من ينظر إليها يحسبها فاكهة بحر، سادت الشمس فوق الأفق بسكون، ترسل أشعتها الحانية بين الفينة والفينة. أما فولد عابد غار فى الحفر بمطرقة حديدية أثقل من يديه المتقشرتين. قال وهو يضع الوتد على الصخرة الصلدة:
- ما رأيت قساوة مثلها، سنين ونحن نمخر عباب الصخور والجبال، كنت إذ ذاك يافعًا أهدّ بالمطرقة فتتشقق لوحدها ببركة الخالق، إلى أن جاء ولد ديوب، مرّ علىّ بحماره الأمهق، أطلّ بعنق طويلة كنعامة وعينه على المطرقة «سالم غانم إن شاء الله، تخرج منها سليمة، اضرب، تتفجرّ بين أناملك عين ماء مباركة، لو كنت مكانك لقرأت عليها سبِّح بحمد ربِك، فتنفلق نصفين كعجيزة مى مباركة رحمة الله عليها، ما بال الدنيا رطبة، فيها أشجار، عيون، حفنة تمر، نساء، كل شىء مبارك إلّا هذه الصخور، وكأنى بها تحمل شرور العالم فوق ظهرها». ها أنت ترى.
نفض عن سرواله الواسع التراب، ثم انفرجت أشداقه عن ضحكة أبانت عن حلقه:
- لا يصحّ معها إلا الصحيح، سنزرع الديناميت فى قلبها، لتدكّ عن آخرها، لكن ما يحزّ فى خاطرى ما قالته الحاجة هنية «الصخور حية، تحمل عنّا ثقل العالم، ترجح موازين الكوكب كى لا يسقط حتّى هو فى هُوة بعيدة وينتهى العالم».
- أين أتت بهذه الخرافة؟
انحنى ولد عابد كفأس، ينقض على الصخرة، فجعل يهتزّ مرتعشًا كجرس معبد، لا يستبين شيئًا، بين النور والظلام فراسخ لكن الظلام فيها طاغ، رفع فأسه يلامس به قبة السماء كثور جانح، ولعابه يسيل فى مغازلة لا نهاية لها، اصطكت لها أسنانه، وتلاعبت خدوده بشفتيه الرقيقتين، فارتدّ له صدى الصوت من عل:
- إن ما أعلمه، أن الأرض هذه منبسطة إذا نخرتها سقطنا فى سماء مظلمة يذهب بنا الهواء كلّ مذهب، احترز، تحملنا الريح إلى النجوم البعيدة، نراها بين قبضة أناملنا فى حلكة الليل، دنيا غريبة.
مدّ له ولد ديوب المطرقة، وقد أوقف حماره المسرّج تحت ظلّ نخلة فارعة الطول، ترتدّ عليها من حين إلى حين صدى طقطقة ولد عابد القوية، فيحتك سعفها دقائق قبل أن تستوى، على الأقل صدت الهضبة الأصوات عن القرية، وإلا سقطت المنازل بمن فيها. باغته ولد عابد بسؤال فخاف أن يفضح جهله:
- ترى ما نحن فيه من ريح وعواصف وفيضان، إذا دمعت عينا الثور أكثر من اللازم سالت السيول فى الأخاديد، وانهمر المطر مباركًا فامتلأت الوديان، وخربت الدنيا. فى حين إذا ألم به أمر جرى بحوافره على الهواء يشكى الله ما ألمّ به، فتعربد الأرض بين قرنيه تكاد تسقط لولا رأفة الله، أمّا وأنت لا تدقّ على رأسه ولا تزعجه فقد سلمنا وغنمنا.
انعكس شىء من خيط الشمس المعلّق على أسنانه، والريح تلعب بلثامه فى عنقه، والكلام وقع موقعًا حسنًا على أذن ولد عابد. زفر زفرة ثم انبرى قائلًا: «هكذا إذن». كان مثل الصخرة الصلدة المدفونة فى التراب يجهل أشياء، أغلبها مغيّبة عنه، كلّما حفرت الفأس اصطدم بجهله، كما تصطدم الفأس بالصخرة. لكن ولد ديوب ضرب عظام فخذه براحة يده عدة مرات، قال وهو يلفّ قميصًا كأنه شراع، وانخفض بجسمه ناحية الحفرة إلى الأمام:
-إنّك لتمنى نفسك بأن ترى الشمس فى حلتها الزاهية كما أراها الآن.
- إنى أنظر فى استرخاء إلى قلب العالم الممتد أسفل رجلىّ على الصخرة، أشتم فيه ظلامًا رهيفًا وضوءًا ينسكب على ظهرى، رائحة تراب تعود بى إلى الأيام الخوالى. أى ثمن باهظ أدفعه الآن؟
ردّدت مثله، أىّ ثمن باهظ يدفع الإنسان؟ ثمن صراخ الجبال، صرختها الأبدية المكتومة فى أذنى، ذلك الأزيز الصادر من الصخر، النهر، بين ضلوع النخل. فالتفتّ حوله، فإذا وجه ولد عابد داكن كقطعة كرانيت، يلمع كأن عليه وهجًا من أضواء فوانيس النجوم البعيدة. لا يتزحزح شارباه المقوسين بعناية إلى أعلى، طرفهما حاد كإبرة.
ضحك عندما أسقط فتات الصخرة، نكأت فى ذاكرته أنها لا تعطى بسخاء، يبصبص لها بعينين بهما ثبات، جمال أسود، عبثت به يد الكدّ والسهر وقساوة الصخرة. لم يطق سكوتًا إلى ما فاه به ولد ديوب، وكانت الفأس تتفلّت بين أصابعه طالعة نازلة كأنها عجلة:
- أنت تصوّر الأشياء بشكل غريب، مهلًا إذا كان الثور يتململ فى الرمل فلا شكّ أننا الآن نتدحرج فى الفضاء، لذلك أغلب مناطقها رمل، برزت منها أشجار سنط وطلح وحراز.
عكرت به سماء الحفرة والإجهاد، وضاق نفسه، فرفع رأسه باحثًا عن هواء رطب، ضحك حتى أسقط ثلاث قطرات من لعابه مرة واحدة دون وعى، كنت أرى تجاعيد دقيقة على جبهته، وعلى أطراف يده اليابسة كنهر جاف، فمه لا يقول لك إنه شاخ، وقد وضع طرف ردائه تحت إبطه، وكنت باردًا كجبل جليد، وأنا أستمع إلى الشطآن يموج فوقها فوق بعض، أسير إليهما كبساط ريح فإذا هو يدفن قامته فى الحفرة سارحًا:
- كانت الدنيا قبل الثور كرة من الزجاج شفافة، تستقر على حالة واحدة وقد تصبح جامدة يحملها الطير فوق جناحيه، فتمتلئ عيناك بالحقول الخضراء المنبسطة، والوديان لا تتعرّج وتباغت، الضباب بمقدار منشور فوق الوديان يميل بقدرة الخالق، وخطر لى أن أقول لهم «العصفور يرتعد أمام الصقر، وقد يخبط خبط عشواء فيميل بدنه إلى اليسار، فسمعته وهو يرمى حفنة تراب إلى الخارج». العصفور هبة الله من السماء.
بدا ولد عابد من بعيد صبيًّا يهرول لاهث النفس، كخرقة بالية طوحت بها رياح الخريف، رغم ذلك لا يوجد فى العالم شىء يهزّه إلا الصخرة نفسها، هذه المرة وفقط، قد يكون عامل التعرية والحث، الكهولة التى غطت جلّ أطرافه، غارت الأتربة بين ثنايا لحيته الخفيفة، ومع ضربة الفأس تطبق أجفانه فكأنه لم يفتح عينيه على العالم الذى يهتز كما يهتز الفيل.
فوقنا سماء صافية دافئة رخيمة، أرض خصبة، ثمار معدودة ناضجة، لكن ظلام الحفرة، والظلام عمومًا يصهر عناصر الطبيعة جميعًا فى عنصر واحد محايد. قطع أفكارى استطراد ولد ديوب، له أنف طويل يلتطم مع شفته العليا عندما يلفظ من قول:
- وقت الرواح قد حان، والليل بدأ يلتهم النهار، بئر ولد فاطم مثله.
قفز إلى الأعلى برشاقة دولاب الساقية، يده مخضبة بشىء من دم، مسح بها وجهه، ذراعه الرقيقتان مكشوفتان، بقوامه النحيل خطف جلابية نظيفة وغير مكوية من على الأرض. قال وهو يهزّ كتفه إلينا جميعًا وجهًا قبالة وجه:
- حى على الصلاة أوّلًا، ثم على الفلاح.
جرى على لسانى قبل أن أفكّر، فرأيت فيه صورة الرجل، قبل البائس، الذى يخرج من حفرة، قد تكون حفرة المجتمع الإنسانى، من حيّز الأبرياء كما العصافير. وارتفع القمر مقدار قامة ولد عابد فى الأفق الجنوبى ثم سرعان ما انطفأ.